حكومة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) .. الحلقة الثانية

البرنامج التغييري وآفاق الإصلاح

المفكر الشهيد عز الدين سليم

إعداد المركز الوطني للدراسات الاجتماعية والتاريخية

ان أول المحاور المركزية لمشروع حكومة  أمير المؤمنين (ع) هو:

1ـ احياء القيم الإسلامية، وتعريف الأمة به:

من أهم المسؤوليات التي ظل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) مصرّاً على النهوض بها هو صيانة القيم الإسلامية من التحريف، والتعمية، والعمل كل ما من شأنه على احيائها وتعريف الأمة والأجيال القادمة بها.

وهذه الهمة من أوليات عمل أوصياء الأنبياء (عليه السلام) بعد غياب الرسل عن مسرح الحياة، سواء مكّنتهم الظروف من قيادة حياة الناس بعد الرسل (عليهم السلام) أم حالت بينهم الظروف، وبين التصدي لذلك الموقع الكريم..

فقد بذل أمير المؤمنين (عليه السلام) وسعه خلال ربع قرن من الزمان التي قضاها تحت ظل حكومات الخلفاء الثلاثة الذين سبقوه تاريخياً في إدارة شؤون الناس، من أجل عرض مفاهيم الإسلام الصحيحة، وقيم الرسالة الإلهيّة، كلما سنحت له فرصة في ذلك، وكنته من أداء الظروف من أداء دوره، وتاريخ المسلمين الأول يحمل الكثير، الكثير من مناظرات الإمام (عليه السلام)، وتوجيهاته، ومعالجاته، وفتاواه، وأقضيته(أنظر علي والخلفاء/ الشيخ نجم الدين العسكري، والإرشاد: الشيخ المفيد).. حفاظاً منه على إصالة الإسلام الحنيف، وقيمه السماوية..

ورغم الجهود التي بذلها أمير المؤمنين(عليه السلام) خلال تلك السنوات العجاف، فقد وقعت انحرافات خطيرة، وافتئات على الحق من حكام، وقضاة، وولاة، وصدرت قوانين، وآراء وأفكار خالفت كتاب الله وسنة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جهاراً كان بعضها في الحقل السياسي، وبعضها في الحقل الإقتصادي، وبعضها في الحقل الإجتماعي(أنظر النص والإجتهاد: السيد عبد الحسين شرف الدين، والكافي/ م8(الروضة)، والغدير مجلد8،9،بحار الأنوار مجلد31،30،29، حيث أطنب في شرح تلك الحالة المأساوية)، وآخر في شؤون العقيدة بالله ورسله، وحدودها، وقيمها!

وعندما تحمل أعباء الخلافة، والمسؤولية القيادية على الأم على غير رضىً منه، كما رأينا رأي أمير المؤمنين (عليه السلام) أن تكليفه الرسالي، يدعوه أن يجاهر بالمفاهيم الإلهية الصحيحة، وينفض تراب التعمية عنها والتزييف بعد مرور ربع قرن من الزمان على غيبة رسول الله (صلى الله وآله وسلم)، ونشوء جيل جديد لا يعلم حقائق الأمور، إضافةً إلى دخول أمم جديدة، في اطار الحياة الإسلامية لم يشهد تطورات الدعوة الإلهية، وحقائق التنزيل الرباني، ولم تندمج في خطها بعد.

وهكذا اعتبر الإمام (عليه السلام) ـ من خلال تصديه للخلافة ـ أن الفرصة قد أتيحت له بدرجة مناسبة أن يبلور مفاهيم الإسلام، وقيمه أمام الأجيال من معاصريه، ومن يليهم، وليس مهماً لديه أن ينجح كحاكم وإلاّ فانّ الأجيال سوف لن تميز بين علي (عليه السلام) وغيره من الخلفاء فيما يصدر من احكام ومفاهيم، وسوف لن تتوفر أية فرصة بعد ذلك للتفريق بين المفاهيم الإسلامية الصحيحة من المفاهيم المزيفة التي نفذها، ونادى بها سواه!!

وهكذا هو السبب الذي حمل بعض دارسي حياته على الظن انّه لم يوفق أن يكون حاكماً ناجحاً، بينما نجح فيما سوى ذلك أمور!!

وقد وقع هؤلاء في هذا الخطأ عندما لم يحيطوا علماً بأن أمير المؤمنين (عليه السلام) كان هدفه الأساس أن تكون هذه الفرصة القصيرة التي اتيحت له، في الحك ـ وهي خمس  سنوات ـ كافية لبلورة المفاهيم الإسلامية المعطلة، أو المغيبة أمام الأمة، وان قضية الحكم، والحرص على البقاء على رأس السلطة، يستدعي المزيد من المدارة، وتأخير بعض الخطوات على حساب خطوات أخرى، خصوصاً، وقد ألّبت عليه قريش، وظهرت الأحزاب السياسية المناوئة وأعلن ولاة الخليفة القتيل شعواء على الإمام (عليه السلام) من أجل مناصبهم، ومكاسبهم المادية الكبرى، وتمردت الأمصار الرئيسية في الدولة، مثل الشام والكوفة والبصرة وغيرها، ولذا كان الإمام (عيه السلام) أما خيارين: أما أن يداري خطوات بناء الحكم، والبقاء على رأس السلطة، وهي مغامرة غير مضمونة النتائج أيضاً وأم أن لا يهتم كثيراً بمسألة الحكم أساساً، وينصب همه على بلورة قوانين، وعرض اصالة قيم الدين الإلهي، وإن كلفه فقدان الحكم والسلطان، في تلك الظروف العصيبة، وما تعج به من تسابق على المكاسب مع تسارع الأحداث في البلاد!

وهكذا اختار الإمام (عليه السلام) المهمة الثانية، وقدمها على كل شيء، ونجح في ذلك أيّ  نجاح ـ رغم قصر الفترة التي عاشها حاكماً ـ، فلم يدار والياً ظالماً من ولاة عثمان، فيقره على ولايته، ولم يقر قاضياً مرتشياً على منصبه، ولم يسمح ببقاء اموال مغتصبة في أيدي مغتصبيها، ولم يدار الرأسماليين، في عملهمم لمتواصل لسرقة أموال الناس، وإفقارهم، ولم باستمرار سياسة الظلم، والإمتهان، والتمييز بين الناس أبداً.

وقد نفذ منهاج الإسلام الحنيف في العدل بين الناس، فلا فرق عند على (عليه السلام) بين أبيض وأسود، أو عربي وأعجمي في العطاء، وفرص العمل، بل لا فرق بين المولى، وسيده في ذلك أبداً..

وقد أعلد شروط الوالي، والمظقين إلى نصابها ـ كما حددها الشرع الشريف ـ وأعاد الوفاء بالعهود إلى حيث شرعها الإسلام الحنيف، ولذا لم يلغ التحكيم من جانب واحد رغم ضغوط قطاعات من جنده، وقدى نهى عن المكر، والخداع، وجسد احترام الأمة، وحرّم الخنوع للسلطان، والتصاغر أمامه، وحوّل الحاكم إلى أمين تأمنه الأمة على أموالها، وأعراضها، ودمائها، وليس جباراً عليها، يفعل ما يشاء... وغير ذلك من أمور، كما سيتضح من خلال الأستعراض الآتي شيئاً، فشيئاً..!

وهذه بعض الوثائق بهذا الخصوص، كما حفظها التاريخ والسنة الشريفة:

 

الخطوط العريضة لمسيرته في الحكم كما تحكيها هذه الكلمات:

((إن الله سبحانه أنزل كتاباً هادياً بيّن فيه الخير والشرّ، فخذوا نهج الخير تهتدوا، واصدفوا عن سمت الشرّ تقصدوا.

الفرائض الفرائض! أدّوها إلى الله تؤدّكم إلى الجنّة. إنّ الله حرّم حراماً غير مجهول، وأحلّ حلالاً غير مدخول، وفضّل حرمة المسلم على الحرم كلّها، وشدّ بالإخلاص والتوحيد حقوق المسلمين في معاقدها، ((فالمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)) إلاّ بالحقّ، ولا يحلُّ أذى المسلم إلاّ بنا يجب.

بادروا أمر العامة وخاصّة أحدكم وهو الموت، فإنّ الناس أمامكم، وإنّ الساعة تحدوكم من خلفكم. تخفّفوا تلحقوا، فإنما ينتظر بأوّكم آخركم.

اتّقوا الله في عباده وبلاده، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم. أطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشرّ فاعرضوا عنه))(نهج البلاغة، الخطبة167،ص242)

 

ـ ما قطعه للناس على نفسه:

((.. ولكم علينا العمل بكتاب الله تعالى، وسيرة رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ والقيام بحقّه، والنعش لسنّته))(نهج البلاغة، نص169،ص244)

 

ـ ومن برامجه لولاته:

فهذه خطته لواليه على مكة المكرمة الصحابي قثم بن العباس بن عبد المطلب (عليه السلام) كنموذج من برامجه لولاته: ((.. أقم للناس الحج، وذكّرهم بأيّام الله، واجلس لهم العصرين، فأفتِ المستفتي، وعلَّم الجاهل، وذاكر العالِم، ولا يكن لم إلى الناس سفير إلاّ لسانك، ولا حاجب إلاّ وجهك، ولا تحجبنّ ذا حاجة عن لقائك بها، فإنّها إن ذيدت عن أبوابك في أوّل وِردِها لم تحمد فيما بعد على قضائها.

وانظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فاصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والمجاعة، مصيباً به مواضع الفاقة الخّلات، وما فضل عن ذلك فاحمله إلينا لنقسمه فيمن قبلنا))(نهج البلاغة، كتاب67،ص457ـ458).

ـ هدفه السامي وأهداف الناس: يقول الإمام (عليه السلام) حول هدفه السامي في سياسته، ومنهاجه ما يلي: ((.. ليس أمري، وأمركم واحداً، وانّي أريدكم لله، وأنتم تريدوني لأنفسكم، وأيم الله لأنصحنّ للخصم، ولا نصِفنَّ المظلوم..)(الإرشاد: الشيخ المفيد،1/243).

وفي سيرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام) المئات من النصوص، والوثائق ـ غير ما ذكرناه ـ التي تكرس حالة الالتزام بالحق، والتمسك بحبل الله عزّ وجلّ، والعدل بين عباد الله عزّ وجلّ.(راجع شرح نهج البلاغة:ابن ابي الحديد المعتزلي مثلاً، لملاحظة الكثير من النصوص، والمواقف حول هذا الموضوع).

وهكذا كان همّ أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأول أهدافه أن يبلور قوانين الإسلام وقيمه، ومبادئه، المغيبة عن الناس، ويقدمها للأجيال غضة، موّارة بالحياة، والخصب، والعطاء، كما أراد الله تعالى ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

يتبع

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com