كان ما تناقلته وكالات الأنباء، عن ذاك لقاء الكاتبة السورية المتألقة، الدكتورة وفاء سلطان، مع الصحيفة الإسرائيلية، ذائعة الصيت، صاعقاً، ومفاجئاً، وجارحاً، بكل الاعتبارات، والمقاييس، والتي أعربت فيها الدكتورة سلطان، وإن صح ما أوردته الصحيفة المذكورة، عن رغبة الصديقة العزيزة، في زيارة هذا الكيان البربري المجرم الغاصب الهجين، ذي الأيادي الملطخة، دائماً، بدماء الأطفال العزّل الآمنين، فإنه قطع لآخر شعرة مع ضحايا العدوان، وتنكر لآلامهم، وعذاباتهم، ومكافأة للمجرمين المعتدين، كما فعل فرسان 14 آذار في معسكر السنيورة صاحب الدمعة السخية الشهير. وهذا، ما أعطى، بدوره، فرصة ذهبية للظلاميين، للنيل، ليس فقط من الدكتورة سلطان، ولكن من كل التنويريين، ورميهم بالسهام الطالبانية السوداء الحاقدة. هذه المقابلة، وفي هذا الوقت بالذات، تأتي شرعنة، وتبرئة، للحرب البربرية الإسرائيلية، الظالمة، المجنونة، التي شنتها في الصيف الماضي، ضد أطفال لبنان، ودماء أطفال قانا، لمّا تجف بعد من هول جرائم وهستيريا الجنون الإجرامي لجنرالات الكيان اللقيط. وللعلم، والذكرى، إن كانت تنفع المؤمنين، فقد سقط في اليومين السابقين، ثلاثة وعشرون فلسطينياً برصاص الغدر الصهيوني؟ تلك الطفولة الموؤودة على يدي جنرالات الموت، والتي طالما تغنينا بها، سوية، نحن العلمانيون الإنسانيون، التنويريون، ورجونا لها، غداً، أفضل، وأجمل من حاضرنا البائس، التعس اللعين، تلك الطفولة المغدورة، لا تكافئ، البتة، ولا تجازى، طراً، بمصافحة القتلة، والجلوس معهم، بل بالسعي الحثيث لعزلهم، وتجنيب المجتمع لشرورهم، وفجورهم، وانحرافهم السلوكي النفسي الضلالي المشين، والعمل، فوراً، على تقديمهم لمحاكم جرائم الحرب الدولية.
التنويريون، أصلاً، في محنة، في محيطات يغمرها الجهل، والدجل، والسحر، والأباطيل، ويسيّره الكهنة، والجهلة، والسحرة، والدهاة المشعوذون، ويتعرضون لشتى أنواع القهر، والحصار، والمطاردة، والتنكيل، فلم نعطِ أولئك التكفيريين، أيضاً، الحجة، والذريعة، للانقضاض عليهم، وسلبهم ما تبقى لهم من شرعية، يكافحون للحصول عليها، في مجتمعات تعيش على الغيب، وملاحم الجن، وقصص الأشباح، والأساطير. وإنه لمن دواعي الألم، والسخرية، والإساءة، جداً، أن يقف أي من التنويريين، في ذات الصف، مع بعض من ساسة البدو الأعراب رعاة الشاة والبعير، والذين جعلوا من تل أبيب قـُبلتهم السياسية، إليها يحجون، وبمجدها يسبحون، وفي محرابها الدموي يتعبدون، وإليها النشور. وهل يحلو لنا، ونقبل الوقوف، في ذات نفس الصف المريب، أيضاً، مع الغادري الذي دعا جهراً وعلانية، لإقامة نصب للهولوكوست المشكوك في صحته، في ساحة المرجة الدمشقية العريقة، وللتطهير العرقي لمحموعات بشرية سورية كاملة على مرأى، ومسمع من "حماة"، و"دعاة" حقوق الإنسان المنافقين، الضالين؟ فهذا، وكما نعلم جميعاً، في صلب مشروع التفتيت الشرق أوسطي، وفلسفة المحافظين الجدد الموتورين؟ إنها لصورة مؤلمة، ومزعجة، وتحز في النفس، أن نرى تنويرياً في نفس الصف مع مومياءات البدو الأعراب، ولقطاء المعارضات التائهين، وفلول الجلبيين، واليمين الإسرائيلي، والأمريكي المتفرعنين؟
لقد صرح أحد قادة الكيان الاستيطاني، وبالحرف الواحد، "بأننا وإن كنا خسرنا المعركة على الجبهة العسكرية، فإنه بالإمكان ربحها على الصعيد السياسي، والإعلامي"، وهذه، وأيم الله، واحدة من الخطوات، التي تصب في صالح إسرائيل، وتعيد لها شيئاً من توازنها المفقود، وهيبتها الممرغة بالوحل، والتي فقدتها أمام الضربات العسكرية المؤلمة، والتكتيك المبهر لرجال المقاومة الباسلة، والهزائم المذلة للجيش الذي نسجت حوله الحكايا والأساطير.
إن المعركة الأساسية، التي تخوضها القوى التنويرية في العالم أجمع، حالياً، هي ضد الجهل، والتخلف، والقهر، وكل أشكال الاستبداد، والطغيان، والظلم، والعدوان، والعمل على حماية المجتمعات البشرية، والإنسانية من جنون القوة، ومن استهتار الطغم الفاسدة، وتغول المجرمين، والجلادين، والقتلة الموتورين، والذين يمثلهم هذا الكيان المجرم الغاصب خير تمثيل. هذا الكيان الذي خرق كل القوانين، وتجاوز كل ما هو متفق عليه، من أعراف، وتقاليد إنسانية، وضرب بعرض الحائط، بكل المواثيق الدولية، التي تحرّم الإبادة، والمجازر الجماعية، وعمليات التهجير، واستخدام الأسلحة المحظورة دولياً ، وتجريبها ضد السكان المدنيين، الأبرياء، الآمنين.
نقدّر الدور الذي يلعبه التنويريون، في كل مكان، لفضح الفساد، والظلم، والاستبداد، وهذا جزء من الرسالة الإنسانية النبيلة المظفـّرة، التي آلوا على أنفسهم حملها، بشرف، ونبل، ومناصرة قضايا الفقراء، والمحرومين، وتنوير، وتوعية المجتمعات المغرر بها، وأصحاب الأدمغة المغسولة الموهومين، الضائعين في باطن الغيب والوهم الكبير، والحالمين بفراديس تعيد لهم شيئاً من إنسانيتهم المسلوبة، وحقوقهم البسيطة المغتصبة. هذه الرسالة، في الواقع، تتناقض، كلياً، مع الأهداف المعلنة لإسرائيل، التي تريد الإبقاء على هذه الشعوب المنكوبة، في العصر البازلتي الأول، وزمن اليناصورات البعيد، وتطرب حين تراهم، في حالة مزرية من الجهل، والتخلف و"التشحير"، و"التعتير"، حيث يمكنها فقط أن تسود، وتستمر، وتبيد. أما في عالم متنور علماني، منفتح، تسوده مناخات العدل، والمساواة والحرية، والتنافس الشريف، فستكون إسرائيل العنصرية، القائمة على صفاء العرق، والنوع، والدين، شيئاً من الماضي النازي البغيض، ضعيفة، ومكشوفة، ومفضوحة. وإن المعركة مع إسرائيل باتت معروفة، تماماً، فهي ليست، ولم تك، يوماً، معركة عسكرية، وحربية، في يوم ما، بقدر ما هي معركة حضارية، بكل المقاييس، ولن تهزم سوى بالعلم، والنور والديمقراطية، والحرية، وتعزيز المكانة السامية للإنسان، والتعظيم من شأنه. وحين تـُقدم إسرائيل على خطوة كهذه فلسان حالها يقول، ورسالتها لهذه الشعوب: "ها هي نخبكم الفكرية، والعقلية تأتي طواعية إليّ ، وتعترف بشرعيتي، وما عليكم، أيها الغوغاء والرعاع، سوى تقليد نخبكم، واللحاق بي". فما أبأسها من رسالة، وما أسوأها من خطوة حين تقوم بها النخب الفكرية.
إنها وبلا شك قفزة في الفراغ، وخطوة غير صحيحة، وغير محسوبة على الإطلاق، وتسيء حتماً لتاريخ، وسمعة الكاتبة المبدعة، وحركة دعائية، ومجانية ستستغلها إسرائيل، لتحقيق ما عجزت عنه في ساح الوغى والقتال. وإسرائيل لم تستطع، ولن تستطيع، وخلال حوالي ثلاثين عاماً، من عمر التطبيع، أن تتقدم خطوة واحدة في الشارع العربي، فنبض هذا الشارع، وبرغم هدوئه الظاهر، يغلي، كله، ومصاب بانسداد، وتوتر مزمن بالشرايين، ضد الممارسات الصهيونية، والأمريكية، والجرائم اليومية، التي ترتكب في فلسطين، ولبنان، والعراق والدعم الفاقع، واللامحدود، والتحالف الصهيوني مع محور التخاذل، والانبطاح العربي. ولن تصبح إسرائيل دولة شرعية ما لم تتخل عن همجيتها، وساديتها، وعن خيار القوة، والتطويع القسري والعسكري، وسياسات العدوان الآثم البغيض. ولن تجلب لها تلك السياسات المريضة سوى الخزي، والعار، والكراهية، والرغبة بالثأر والانتقام. فسفارات إسرائيل، ودبلوماسيها، وبعكس منطق العلاقات الدبلوماسية بين الأمم والشعوب، محاطون بجيوش أمنية جرارة، ولو استخدمت هذه الجيوش العاطلة، فقط، في التصدي لإسرائيل، لزالت كلياً من الوجود، فأي سلام، وأي تطبيع، وأي نجاح، واختراق يمكن أن تحققه في ظل هكذا ظروف؟
هؤلاء هم سبب مأساتنا، وسبب جوعنا، وسبب فقرنا، وتعاستنا، وهجرتنا إلى موانئ الذل، والغربة، والتسول، وهم الباعث الوحيد على معاناة، ومكابدة أجيالنا المهزومة كل هذه السنين. ولقاء كهذا، وزيارة كتلك، ستعطي أولئك الخارجين عن القانون، والشرعية الدولية، دفعاً لا يستحقونه، من طود علمي، وفكري، شامخ، متألق تنويري، "كنا" نعتز، ونفاخر به. وبئس من بدّل دينه، بدنياه.
نفحات خالدة للذكرى والتاريخ:
لا تصالح
ولو وَقَفَت ضد سيفك كلُّ الشيوخ
والرجال التي ملأتها الشروخ
هؤلاء الذين يُحبّون طعم الثريد
وامتطاء العبيد
هؤلاء الذين تدلت عمائمهم فوق
عينهم،
وسيوفهم العربية، قد نسيتْ سنوات الشموخ
لا تصالح
فليس سوى أن تريد
أنت فارسُ هذا الزمان الوحيد
وسواك .. المسوخ
( الشاعر أمل دنقل: من مقتل كليب والوصايا العشر)