|
الرحلة الشامية (الحلقة الرابعة) بهلول الكظماوي / أمستردام
لم يمرّ على تواجدي في الشام الاّ ألاسبوع الأوّل، وما أن بدأ الاسبوع الثاني الاّ وتوقّفت الحرب قبل أن تستكمل اسرائيل ما وعدت به في القضاء التام على حزب الله، وليسجّل بالمقابل مجاهدوا حزب الله ليس النصر في توازن الرعب على اسرائيل فحسب، بل وسيبقى يحتفظ ( حزب الله ) بما يضمن له انتصاره المستقبلي من خلال احتفاضه بالغالبية العظمى من ترسانته الصاروخية التي لم يستعملها بعد، وخصوصاً اذا علمنا بوجود صواريخ من نوع متطوّر جداً لم ينزل طيلة مدة الحرب التي دامت أكثر من شهر، لم ينزل للاستعمال الى ميدان المعركة، اضافة لطائرات تطير من دون طيار ومخصّصة لتحمل متفجرات موجهة. و ما أن حلّ اليوم الثاني من توقف المعارك، وأنا أمرّ من امام باب مقام السيدة زينب ( ع ) واذا بي اشاهد لائحة ( لافتة ) كارتونية ملصقة على الجدار بجوار باب المقام، كتب على هذه اللافتة عبارة: على الاخوة العائدين الى لبنان أن يراجعوا مدرسة الست الثانية مستصحبين معهم الاوراق الثبوتية لسياراتهم لغرض تعويضهم بدل أثمان الوقود ( البانزين والسولار ) من أجل العودة. و تكرّر المشهد عندما رغبت في شراء أقراص كومبيوترية مدمجة ( سي دي ) من مؤسسة الثقلين لأشاهد على جدار البناية نفس الاعلان مكرراً، بل شاهدت نفس الاعلان في عدة اماكن يدعوا الذهاب الى مدرسة الست الثانية والى أماكن اخرى لغرض قبض أثمان الوقود للعائدين الى لبنان. الله أكبر...!... ماهذا الاستعداد والتكافل الشعبي والضمان الاجتماعي لرفع المعانات عن كاهل المتضررين من العوائل اللبنانية. ذهبت بعدها لحلاقة شعري عند حلاّق عراقي كان قد افتتح دكان حلاقته في حي السيدة زينب، وكان يجلس عنده صديقه العراقي المقيم في لبنان والنازح منها هو ايضاً بسبب القصف الاسرائيلي، وأخبرنا بانه هو أيضاً قد قبض ثمن وقود سيارته للرجوع الى لبنان حاله حال بقية اللبنانيين بدون تفربق. و ما أن أتى الصباح الذي يليه واذا بسيارات نقل ( باصات ) متوقفة عند باب السيدة زينب ( ع ) وما يقابلها، وفي أطرافها وينادي مناديها بأعلى صوته ( حارة حريك.... حارة حريك ) والمنادي للسيارة الثانية ينادي ( برج البراجنة ) وثالث ينادي ( بئر العبد )..........و هلمّ جرا. تأتي امرأة تحمل طفلاً وتسحب ورائها طفلين آخرين لتسأل المنادي عمّن يوصلها للشيّاح ؟ ليدلّها المنادي بوجود سيارة تذهب الى الشياح متوقفة في مفرق الحجيرة، ثم تسأله عن الاجرة وكم يبلغ ثمنها ؟ فيجيبها: انها مجانية، دعماً للمقاومة ! كانت كلّ هذه المظاهر اشاهدها بامّ عيني، وكانت كلّ سيارة وسيارتين يشرف عليها عالم دين معمّم ( أمّا يعتمر عمامة بيضاء وسوداء ) ويراقب عملية اعادة النازحين العائدين بنفسه. وقع نظري في عين أحد الشيوخ، حيّيته تحية اكبار واعتزاز وتقدير، قلت له بارك الله بجهادكم ومقاومتكم التي رفعت رأسنا الذي طالما ظلّ مطأطئاً لزمن طويل...! أجابني بلهة عراقية لا تشوبها شائبة:هذا ما تعلّمناه منكم يا أبناء العراق...!، ألستم أنتم الذين تقولون دائماً في هكذا مواقف: ( المن تريد الحيل يابو سكينه ) ؟ وهانحن مثل ابو سكينتكم كما ترانا قد ادّخرنا حيلنا لمثل هذا اليوم. ماذا عساي أن اجيب قائلاً بعد سماعي من الشيخ هذا المثل العراقي الذي يستلهمه من شعبنا في موقفه هذا ؟ ( ويبدو أن هذا الشيخ اللبناني كان قد درس العلوم الدينية في العراق مما جعل لهجيه العراقية واضحة، كما يبدوا أنه كان قد عرف الكثير من العادات والتقاليد العراقية ولذلك فهو يسوق اليّ مثل – ابو سكينه. وابو سكينة هذا يضرب به المثل عندنا في العراق لكلّ من يدّخر نفسه وجهده وطاقته وقوته للوقت الذي يستوجب عليه أن يستعمل كلّ ما أدّخره من كل طاقته وحيويته وماله الى حدّ التضحية بما غلى وما نفس حتى وان كانت روحه ونفسه. و كلمة المن تريد الحيل يابو سكينه تعني: لمن تدّخر كل هذه الطاقات يا ايو سكينه اذا لم تكن لهذا اليوم ولموقف كهذا ؟ ). أرجع لأقول: بعد سماعي من الشيخ اللبناني هذا المثل العراقي، تسمّرت في مكاني....! فماذا عساي أن أقول له ؟ هل أقول له: اننا جميعاً كنا مع ابو سكينه، بل كنا جميعاً ابو سكينة، لكن ابو سكينه هذا الذي تعرفه يا شيخنا الجليل الموقّر قد اعتلّت صحته و( انهدّ حيله ) وقلّت حيلته امام الفتن الداخلية التي أفلح الاجنبي أن يغرسها في البعض منا، وان لم يكن ابو سكينه مقصّراً ( وحاشاه ان يكون مقصّراً )، الا انه قاصر، فحمله ثقيل امام جسمه العليل، فليساعده الله. نعم.... لقد رأينا ابو سكينه في انتفاضة صفر، ورأيناه في رجب وهو يتقدم الجموع لبيعة الشهيد الصدر الاول. رأيناه وهو يتحوّل الى ظاهرة مليونية متحديا الطغاة وهو يقف خلف الشهيد الصدر الثاني يسانده ويعاضده في ثورته الاجتماعية. لقد رأيناه يقارع الطغاة في الانتفاضة الشعبانية، اذ انتفض شعبنا موحّداً بكل طوائفه وقومياته، والذي اسقط فيها للطاغية اربعة عشرة محافظة من اصل ثمانية عشرة محافظة عراقية، والتي اشرفت فيها بقية المحافظات على السقوط لولا تدارك الطاغية من قبل سيدته اميركا ونجدتها له. لقد رأينا ابو سكينة وهو يصعد اعواد المشانق في عراق الطاغية صدام حسين، رأيناه يتلقى الرصاص في صدره بكل رحابة صدر، رأيناه وهو يستنشق الغازات المميته جماعياً، رأيناه وهو يذوب في احواض التيزاب، رأيناه وقد وضعوا الديناميت في جيب قميصه عند صدره وبالقرب من قلبه النابض بالايمان وحب الوطن والمواطن، ولم نشاهده نحن العراقيون فقط، بل شاهده كل المتطلعين الى شاشات القنوات الفضائية العالمية. و مع كل هذا نجيب على كل من يتسائل: هل ما زال ابو سكينة قائماً فينا ؟ هل فقد العراق ابو سكينته ؟ و نجيب.... كلاّ والله ثم الف كلاّ والله ! لم يمت فينا ابو سكينة. أجل والله ما زال فينا ابو سكينة قائماً منتفضاً وان اعتلّت صحته وخفت بريقه، وان بهت تألقه لبرهة الا انه لم تغمض عينه بعد، وسوف لن تغمض ما دام فيه عرق نابض بحب العراق والعراقيين. أننا جميعاً ومعنا ابو سكينه على ثقة وقناعة تامّة في حتمية الشروق القادم على العراق ( كل العراق ) حيث سيبزغ الهلال الشيعي محتظناً النجم السني، منيراًً دروب العراق بتوهجه وبكل أطياف اشعته والوانه المسيحية، الصبية، الكردية،العربية, التركمانية، الشبكية، الايزيدية......الخ. نعم من شعاع هذه التشكيلة ومن ظلال أطيافها سترجع الروح لابو سكينه وستدبّّ فيه الحياة، وسيتعافى من سقمه وأعتلاله. و كما كانت حروب الطوائف والمذاهب في لبنان التي وصلت الى حد تنصيب الحاكم في قصر بعبدا بداية الثمانينات، تنصيبه من قبل المحتل الاسرائيلي قبل ان توحّد كل هذه الاطياف المتناحرة، قبل أن توحدها المقاومة اللبنانية، سيوحد كذلك ابو سكينة كل أطيافنا الوطنية العراقية بأذن الله وبجهود الخيرين من أبناء الرافدين الغيارى على وطنهم وشعبهم. أعود ثانية الى مسجد الزهراء (ع) في حي الامين، وكان وقتها الاسبوع الأخير من رحلتي، وأنا أنتضر الرد لحجز التذاكر لغاية الرجوع والعودة الى امستردام، حيث مطار دمشق الدولي قد تحوّل الى مطارين، فهو قد وقع عليه حمل مطار بيروت الى حمله بعد العدوان الاسرائيلي على لبنان واغلاق مطار بيروت، ولوجود سوّاح بعشرات الالوف غالبيتهم من الخليجيين التي بدأت لبنان تنتعش بهم سياحياً من جديد، وبسبب هذا الاغلاق لمطار بيروت تحوّل غالبتهم (سياح لبنان ) للطيران من مطار دمشق الذي هو بدوره أصبح حمله مرتين أكثر من الاول. أرجع لأقول: وأنا أنتضر صاحبي بالرجوع بخبر تثبيت موعد حجز تذاكر العودة، واذا بالحاج علي طلبة، وهو من وجهاء الشام وملاّكيها، اذا به يمسك بي ويدعوني للتوسّط بينه وبين السيد ( س ) حفيد المرجع الاعلى للشيعة الراحل في العراق. و مشكلته مع السيد ( س ): هي ان الاخوة في جمعية الاحسان في الشام عندما أحسّوا بالخطر يداهم المرجعية الشيعية في العراق ( نهاية سني السبعينات وبداية الثمانينات )، اشتروا من أموالهم ( أموال جمعية الاحسان ) المتجمعة من الحقوق الشرعية ( الخمس والزكاة وغيرها )، اشتروا منها بيتاً عربياً كبيراً ضخماً يحتوي على سبعة عشر غرفة كبيرة اضافة للمنافع والملحقات. اشتروا هذا البيت العملاق وسجّلوه بأسم أحد وجهاء الشام على سبيل الامانة لصالح تملك هذا البيت للجمعية، حتى اذا تضايقت المرجعية والحوزة الدينية في العراق تجد هذه الحوزة التي ستهاجر في هذا البيت سكناً وملاذا تنطلق منه لاعادة ترتيب أوضاعها من جديد منطلقة من الشام. و يشكوا الحاج علي طلبة بأنّ السيد ( س ) حفيد المرجع الراحل قد استغل هذا البيت لصالحه واستحوث عليه واغتصبه رغم انه لا يملكه، فهو يسكن فيه مع زوجته وطفليه، وان البيت كبير عليه، ولذلك عرضوا عليه بأن يسجّلوا بأسمه داراً هي ايضاً تسعه وعائلته وتزيد، اذ هي متكوّنة من سبعة غرف ومنافعها، وتبلغ مساحتها سبعمائة متر مربع. وعرض عليّ الحاج علي بأن اقنعه ( السيد _ س _ ) بأن جمعية الاحسان مستعدة أن تسجّل سند تمليك الدار الجديدة البديلة ( بدائرة الطابو ) بأسم السيد (س ) حفيد المرجع، وتصبح الدار الجديدة شرعاً وقانوناً باسمه لقاء أن يخرج من البيت الكبير والزائد عن حاجته. و الحقيقة انني اعتذرت من الحاج علي لعدم وجود الوقت الكافي لديّ للاقامة بالشام، فقد حان وقت مغادرتي لها، فلم يبقى امامي سوى يومين، وان هذه اليومين لا تكفي للتفاوض والوساطة بينهم وبين السيد ( س ). الشيئ المؤلم والمحزن جداً الذي حزّ في نفسي وأنا أعتذر من الحاج علي هو: انني قد شعرت بالفرق الكبير بين ما تربّينا عليه حوزوياً في السابق وبين ما هو مفروض من حوزاتنا أن تقف فيه اليوم لأبناء شعبنا ( وخصوصاً المهجّر طائفياً في الداخل والخارج ) وممن لا يملك شبراً فضلاً عن بيت يأويه وعائلته، في حال ليست البيوت والاملاك الحوزوية فقط، بل تكدّس الحقوق الشرعية في البنوك الاجنبية في الدول الاوروبية بأسماء مغتصبيها وبمبالغ وارقام فلكية، والتي أنا في غنى ألآن عن الاتيان بالاسماء والارقام التي اعرف الكثير عنها، ولست في معرض أن ادوّن هذه الخروقات الشرعية القاتلة. بل كلّ ما هنالك شعوري بالحزن العميق بأن اعوّض ما أشعر به من نقص في حوزوينا، اعوّضه بما يسدّ هذا النقص عنّا أبناء الحوزة الشيعية في سوريا ولبنان الصمود والتضحية والعطاء، والتي هي ورثت الكثير من اعمالها التي سطّرتها آنفاً من خلال وصفي لابو سكينة، ورثتها من حوزاتنا التي سبق لهم أن درسوا فيها واستقوا الكثير من علمائها. أعزّي نفسي مفتخراً بأن قادة حوزاتنا العلمية في العراق كانوا سبّاقين في البذل والعطاء والتفاني والايثار والتضحية، بل حتى الى ميادين الشهادة، حتى خرق قادة حوزاتنا العلمية القاعدة التأريخية في التضحيات فكادت القيادة قد سبقت القواعد في التضحية والاستشهاد كما برهن على ذلك الشهيدين الصدرين والشهيدين العاصي والبدري والبصري....الخ. متمنياً من الله جلّ وعلى انّ ما النا اليه من اخلاق نفعية وبراغماتية سرعان ما ستزول وسيؤول البقاء للاصلح. الى هنا أستميح القارئ الكريم العذر لأتوقّف عن الاسهاب في شقشقتي التي هدرت وأرجو لها أن تقرّ امتثالاً لحكمة سيد البلغاء وباب علم مدينة رسول الله أمير المؤمنين علي ( ع ) ونحن نقف له اجلالاً واحتراماً له في يوم استشهاده حيث يقول: ما كلّ ما يعرف يقال، و لا كلّ ما يقال جاء اوانه، و لا كلّ ما جاء أوانه حان قطافه. ودمتم لأخيكم
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |