الحوار المتمدن في دائرة الاستهداف

نضال نعيسة / لندن

sami3x2000@yahoo.com

لأنه حوار، ولأنه متمدن، فإنه لا يروق لكل من لا يجيد فن الحوار، ولا يجد من ضرورة في التحاور، و لكل من لا يريد أن يسمع سوى صوته في وديان سحيقة ومظلمة ولا ترجع إلا صداه. ومن هنا، فقد آلت بعض العقول "العصملية" المغلقة ألا تتعامل مع كل نوع من أنواع الحوار سوى بلغة البتر، والتشفير، والحجب، وغلق الأبواب. إنها لحظة العجز بكل ما للكلمة من مضامين عدمية فاقعة. لقد راعهم، وهالهم هذا الكم الهائل من التجرد، والموضوعية، والحياد، والتصميم الرائع على فضح قوى الظلام، وألاعيبها، فامتدت إليه الأيادي العصرحجرية من كل حدب وصوب، في الممالك الطالبانية المظلمة، كما في المجتمعات التي بقي فيها بقية من رمق علماني سالف، لتغتال هذا الوليد العلماني الفريد الذي أخذ على نفسه عاتق مقاومة مد العمائم الكاسح، والتكاثر الفطري السرطاني لغربان الظلام الناعقة في محيطات الأساطير الغيبية الغامضة. وإنها لمن مفارقات الأقدار السياسية المؤلمة، أن تتفق الرؤى الموغلة في التاريخ الفكري الظلامي المغلق، مع تلك التي تحمل نفحات، ومشاريع نهضوية، وشعارات ثورية، في وأد هذا المشروع الفكري العملاق، ليضيع دمه، ويذهب هدراً بين قبائل الفساد والإظلام المتحدة.
إنها الهزيمة لكل من يؤمن أن بإمكانه أن يقاوم نور الفجر القادم، أو أن يحجب كلمة، أو يطوّق حقيقة، أو يسجن فكرة، أو يعتقل رأياً، أو يصادر مستقبلاً، أو أن يتحكم، في النهاية، بمسارات التاريخ الماضية نحو غاياتها المطلقة، وبدون توقف. وكم بدا أولئك الظلاميون الذين حاولوا الوقوف في وجه حركة التاريخ بؤساء، وسذج، وبسطاء، وهم يفرّون أمام وهج النور الإنساني الذي سحق ظلاميتهم إلى الأبد. فهذه اللحظات التنويرية الآسرة التي تعيشها المجتمعات البشرية حالياً، لم تتكون بيسر وسهولة، فقد تعرضت للكثير من العوائق الشديدة، والقاسية، وعاشت مخاضات الولادة الأليمة، إلا أن ذلك لم يمنع من أن تكبر، وتترعرع، وتتقدم لتصبح حقائق واقعة وملموسة تحياها الإنسانية، ولا مجال البتة للعودة بها إلى الوراء.
لنكن واقعيين، ونجزم بالقول إن هذا النوع من المواقع الراقية، وليس المواقع الرقيعة والوضيعة والفكرية الضحلة، هي مواقع من النخبة، وإلى النخبة، ولن تعدم هذه النخب الوصول للحقيقة بشتى السبل. إن العامل البسيط، والمواطن العادي، ورجل الشارع، قد لا يعني له هذا الموقع، وغيره، أي شيء. فهذه النخب الفكرية قادرة على التمييز بين ما هو غث، وما هو سمين، وقادرة أن تعلم ما هو التجني، وما هو الحقيقي، وما هو الخيالي وما هو الواقعي. بل على العكس إن الوسائل الإعلامية المختلفة التي لا تتحلى بالمصداقية، والشفافية، والمنطق سينصرف الناس عنها، حتماً، ولن يكون بمقدورها البقاء، والاستمرار. فلم الحوار المتمدن بالذات؟
ندرك تماماً أن هناك بعض المواقع المعارضة، في هذا البلد أو ذاك، قد تحولت إلى منابر للردح، والشتم، والسب، وانحرفت فيها الكلمة عن مسارها الأصيل، وهدفها النبيل، لتصبح تجريحاً شخصياً، وهراءً فارغاً، وتهجماً لفظياً، رخيصاً، ومفضوحاً. ومع ذلك فلا داعي لحجبها، أو تشفيرها، فقد أصبحت مادة للتندر، والسخرية من قبل النخب الفكرية الواعية ، وانصرف الناس عنها بطيب خاطر، ودون حاجة ليد الرقيب، أو العقل الوصائي الذي يرى في نفسه معصوماً، ومرشداً، ومالكاً حصرياً لناصية الحقيقة، والمعرفة المطلقة.
الوطن بحاجة لكل صوت حر أبي، ليكون رديفاً، ومعيناً لقولبة، وبلورة أية رؤية صائبة. وتلعب وسائل الإعلام في جميع دول العالم، دوراً في الكشف عن الحقائق، وتقديمها للرأي العام، وبدافع وطني خالص، لتبنى عليها القرارات السليمة، وليس طبقاً لنظرية المؤامرة السائدة، والمعمول بها حالياً. ومن هنا، يتوجب أن تـُشمل هذه الوسائل، بالكثير من الرعاية والحرص على استمرارها، لا حجبها، وبترها، وشلها، إلا إذا كان هناك من لا يريد للمصلحة الوطنية العلياً، وتحت ذرائع واهية شتى، من التوصل لبعض الحقائق، وفضح بعض الممارسات، وإماطة اللثام عن الفاسدين، والمفسدين. وهنا اللعبة الخطرة، وفيها يكمن الخطر الحقيقي على أمن الأوطان. وبهذه الحجج السخيفة تـُغتال الحقائق الكبرى ويتم التعتيم عليها، وإخفاؤها.
الشفافية، بدون إسفاف، والحقيقة بدون قناع، والكلمة بدون رياء، مطلوبة أكثر من أي يوم مضى. وهذا في صلب رسالة الحوار المتمدن، هذا الموقع التنويري العلماني الإنساني الفذ الذي استطاع أن يكون قبلة، وملتقى لنخب فكرية إنسانية وعلمانية، وأداة مشعة تريد أن تقدم الحقيقة المجردة بلا مواربة، أو استحياء، خدمة لهذه المجتمعات التي أدماها طول الحجب والنفاق، والرياء. نحن بحاجة لأي قبس من نور في وديان الظلام الكالحة، وقبسات الحوار المتمدن الكاشفة، وهي الضمانة لاستكمال هذه المهام العظيمة، ولن تهزمها، أبداً، محاولات قوى الظلام النافقة.
ولا عزاء للحوار المتمدن، لأن في هذا ولادة، واستمراراً، وقوة، وبقاء.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com