|
محمد يونس .. يستحق أكثر من نوبل د. عبدالله المدني / باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية بينما كان ديكتاتور كوريا الشمالية كيم ايل جونغ يهدد جيرانه بسلاح الدمار على اثر تجربة بلاده النووية هذا الشهر، من بعد أن أفقر شعبه وأوصله إلى حافة المجاعة، كان هناك في الطرف الآخر من القارة الآسيوية من يحتفل بفوزه بأشهر الجوائز العالمية، تقديرا واعترافا بجهوده في إنقاذ الملايين من مواطنيه من الهلاك والعوز. إنها حقا مفارقة عجيبة، لئن عكست شيئا، فإنما تعكس حقيقة أنه إذا كان في العالم النامي قادة حمقى يسعون إلى الخراب والتدمير، وجماعات إرهابية تتلذذ بإسالة دماء الأبرياء وإزهاق أرواحهم، فانه في المقابل يوجد من يسعى بعلمه إلى البناء وخير البشرية. كنت قد شاركت مع الأكاديمية الزميلة د. جميلة المحاري قبل عام في ندوة في البحرين حول موضوع مؤسسات الأعمال متناهية الصغر ودورها في مكافحة البطالة والفقر. في تلك الندوة حرصت على استعراض التجربة الآسيوية في هذا المجال، وتوقفت طويلا عند تجربة بنغلاديش الرائدة والمحفزة للآخرين والتي قادها البروفسور محمد يونس. وقتها فؤجى الحضور باسم الرجل وجهوده وإنجازاته، لكن اليوم بات هذا الرجل نفسه اشهر من نار على علم بعيد اختياره من بين 190 مرشحا لنيل جائزة نوبل للسلام لهذا العام، فيما صار "الرفيق المبجل" كيم ايل جونغ اشد عزلة وأكثر ازدراء من العالم باستثناء بعض العرب والمسلمين من هواة العنتريات والشعارات الفارغة. والحقيقة أن يونس يستحق أكثر من نوبل، بل يستحق أن يكون في قمة السلطة في بلاده، لأن ما أرساه وحققه من نجاح بات نموذجا يحتذى به في العالم اجمع، لجهة محاولة تخليص ملايين البشر من الفقر والبطالة وتأسيس التنمية الاقتصادية والاجتماعية من القاعدة بجهود ذاتية وإمكانيات متواضعة. ومن هنا فان قصة الرجل لا بد أن تروى وتروج بتفاصيلها الدقيقة. بدأ يونس منذ سبعينات القرن المنصرم يروج لفكرة أن الفقراء من النساء والشباب وربات المنازل يمكنهم أن يتحولوا إلى رموز ناجحة في دنيا المال والأعمال إن منحوا سبيلا للحصول على الحد الأدنى من نفقات تأسيس مشاريع متناهية الصغر. الفكرة جاءته واختمرت في ذهنه من حكاية امرأة قروية تعمل في صناعة الكراسي المصنوعة من البامبو، كان أن صادفها في الطريق بالقرب من جامعته. ومن حديثه معها عرف أنها لكي تشترى المواد الخام اللازمة لصناعة تلك المقاعد تضطر إلى الاقتراض من التجار الذين تبيع عليهم لاحقا منتجاتها. ولأنها تعتمد عليهم في الاقتراض وفي تصريف بضائعها، فإنهم يتحكمون في تحديد سعري فوائد القروض وشراء المنتج، ولا يتركون لها سوى هامش من الربح لا يتعدى السنتين في اليوم، وبما لا يتيح أمامها أية فرصة لتطوير عملها وبالتالي تحسين أحوالها المعيشية. استنتج يونس من قصة تلك المرأة البنغالية، انه لو وجدت جهة بعيدة عن الطمع والاستغلال لتمد هذه السيدة ومثيلاتها بقروض ميسرة ذات فوائد متدنية، لاستطعن التخلص من العبودية ولتمكن من توسعة أعمالهن والتحول تدريجيا إلى مصاف سيدات الأعمال الناجحات. ولكي يثبت صحة فكرته أقرض 27 دولارا من ماله الخاص لعدد من النسوة الفقراء لإعانتهن على بدء أنشطة حرفية صغيرة، وجلس ينتظر النتيجة التي جاءت مشجعة. ولأن المصارف التقليدية التي طلب دعمها، بخلت عليه وشككت في نجاح مشروعه، فانه لجأ إلى امكاناته الذاتية، فوظف مؤهلاته العلمية وخبرته المهنية في تأسيس بنك سماه "غرامين GRAMEEN" التي تعني القرية بالبنغالية، ووضع لهذا البنك سياسات ومواصفات خاصة تقوم على إقراض أموال بسيطة دون ضمانات للمواطنين الفقراء، لا سيما أولئك الذين لا يملكون ما يرهنونه من اجل الحصول على القروض. هذا المصرف استطاع منذ تأسيسه في عام 1976 وحتى الآن أن يقدم 5.7 بليون دولار في صورة قروض صغيرة لنحو 6.6 مليون مواطن بنغالي ثلاثة أرباعهم من النساء وثلثاهم من المنصفين تحت خط الفقر، وصار اليوم يملك نحو 2200 فرع في أرجاء بنغلاديش. لكن الأهم من ذلك أن فكرته نسخت في دول كثيرة وبما حرر نحو مئة مليون إنسان من الفقر. أما المشروعات الصغيرة التي مولها البنك فقد شملت إنتاج أشياء متنوعة تراوحت ما بين الفطائر والحلويات والشموع والمظلات وشباك الصيد والستائر وأدوات التجميل والأقلام والأثاث والهواتف النقالة وتأسيس ورش للنجارة والصباغة والسباكة والنقش وإصلاح السيارات. وطبقا ليونس فان 98 بالمئة من المقترضين تمكنوا من سداد قروضهم مع فوائدها في فترة قياسية بعدما نجحت مشاريعهم وكونوا فوائض تعينهم على توسعة أعمالهم. في مقابل هذا أشارت الإحصائيات إلى أن المصارف التقليدية الأخرى، وخاصة مصرف بنغلاديش للتنمية الصناعية الحكومي، لم تتمكن إلا من استرداد 10 بالمئة مما منحته من قروض، والذي ذهب معظمه إلى أناس اقل فقرا بضمان مساكنهم. وبسبب النجاحات التي حققها يونس، انتشرت أخباره في العالم، بل أن حاكم ولاية اركانساس (رئيس الولايات المتحدة فيما بعد) بيل كلينتون أرسل في طلبه في أواسط الثمانينات وعهد إليه بمهمة إنشاء مصرف مماثل لمصرف غرامين في ولاية اركنساس لمساعدة شبابها ونسائها على تأسيس مشروعات صغيرة كمقدمة لمشروعات اكبر في المستقبل. ويوجد اليوم في المكتبات كتاب يحكي القصة الكاملة لهذا الرجل غير الاعتيادي، عنوانه " كيف منحت ثورة محمد يونس في مجال القروض متناهية الصغر القوة للنساء .. من بنغلاديش إلى شيكاغو ". وكلمة " النساء" في عنوان الكتاب ليس إلا كناية عن كل الفئات المعطلة طاقاتها بسبب التهميش والتمييز وقلة الحيلة في بعض المجتمعات مثل مجتمعاتنا العربية، حيث يلعب الموروثان الديني والاجتماعي والمجتمع الذكوري دورا في تعطيل طاقة نصف عدد السكان بصورة وبأخرى، على نحو ما ورد في تقارير التنمية البشرية الخاصة بالعالم العربي. لكن الكتاب يروي أيضا سيرة الرجل من ميلاده في عام 1940 في تشيتاغونغ لأب (حاجي دولا ميا) كان يملك محلا للمجوهرات وأم ( صفية خاتون) كانت متفرغة لأعمال المنزل، وحتى انضمامه في عام 1972 إلى سلك التدريس في جامعة تشيتاغونغ كأستاذ للاقتصاد، مرورا بمراحل حلوله في المركز السادس بين 36 ألف طالب تقدموا لامتحانات القبول في الجامعة، وحصوله على بكالوريوس وماجستير الاقتصاد من جامعة دكا، ونيله الدكتوراه من جامعة فاندربيلت الأمريكية في عام 1969، وتدريسه لمدة عامين في جامعة تينيسي الحكومية، وزواجه من أستاذة الفيزياء بجامعة جهانغيرناغار البنغلاديشية أفروجي يونس. والحال أن فوز يونس بجائزة نوبل لم تكن مفاجأة لمن راقب نشاطه عن كثب في جنوب آسيا، خاصة وانه حصل خلال العقود الثلاثة الماضية على 17 جائزة ما بين محلية وإقليمية ودولية (منها جائزة رئيس جمهورية بنغلاديش لعام 1978 وجائزة رومان ماغاسايساي الفلبينية لعام 1984 وجائزة الآغا خان لعام 1989 وجائزة منظمة الأغذية والزراعة الدولية لعام 1994 وجائزة سيمون بوليفار لعام 1996 من منظمة اليونيسكو وجائزة سيدني الاسترالية للسلام لعام 1998 وجائزة مجلة الايكونوميست للإبداع الاجتماعي والاقتصادي لعام 2004 وجائزة سيئول الكورية للسلام لعام 2006 وجائزة الأم تريزا لعام 2006 ). لكن الكثيرين توقعوا أن يفوز الرجل يوما ما بنوبل الاقتصاد بدلا من نوبل السلام، على نحو ما حدث في عام 1998 مع بنغالي آخر هو عالم الاقتصاد الهندي الدكتور امارتيا سين. ويبدو من توجهات مؤسسة نوبل في السنوات الأخيرة أنها حريصة على عدم حصر الفائزين بنوبل السلام في الشخصيات ذات المساهمات في حقول منع الحروب وفض المنازعات وحل الأزمات السياسية، بمعنى توسعة الدائرة لكي تشمل المبدعين في حقل التنمية الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها من وسائل تفادي الصراعات وتعزيز السلم الأهلي.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |