|
هل العولمة رغيفنا من الدقيق الأمريكي الفاخر؟ د. شاكر النابلسي كانت "مؤسسة الفكر العربي"، قد قررت أن يكون محور مؤتمرها السنوي الخامس في بيروت، في مطلع ديسمبر القادم 2006، عن "استراتيجية العرب لعصر العولمة"، ولكن يبدو أن ظروف لبنان والعالم العربي الحالية، اضطرت "مؤسسة الفكر العربي" لتأجيل هذا المحور للعام القادم، واستبداله بمحور آخر، يدور حول سؤال: "كيف ينجح المشروع العربي في لبنان؟". ولو تم لمحور "استراتيجية العرب لعصر العولمة" أن يكون محور المؤتمر السادس لـ "مؤسسة الفكر العربي" في العام القادم في البحرين 2007، فسيكون هذا المؤتمر من أبرز المؤتمرات التي عقدتها المؤسسة في سنواتها الماضية، نتيجة لأهمية وحيوية هذا الموضوع، وعلاقته الوثيقة والعميقة بمستقبل العرب والمسلمين. لقد أصبح الحديث عن العولمة في العالم العربي في هذه الأيام، أشبه ما يكون بالفزع الكبير الشامل. وكأنها قنبلة عظيمة الأثر أُلقيت في وسط العالم العربي، فانفجرت، وتناثرت شظاياها في كل مكان من العالم العربي. "وما بين التطلع والتوجس، الترحيب والتحذير، الاستبشار والتخوّف، التمجيد والاتهام، تعاملَ معظم ما كُتب وجُلّ ما قيل عن العولمة، وكأنها مفاجأة سقطت على التاريخ من خارجه" كما قال أحد الباحثين. فرغم هذه الضجة الكبرى التي تُثار حول العولمة في العالم العربي من وقت لآخر، من خلال ما يكتبه الصحافيون والمعلقون في عُجالات يومية سيّارة وقد تلبَّسهم "العفريت العولمي الأمريكي" على وجه الخصوص، إلا أن الكثيرين ما زالوا حتى الآن، يجهلون هذا "العفريت" الغامض، الذي يُطلق عليه العولمة. وكما جاءت الحداثة في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين بزفة كبيرة، فلم يبقَ شاعرٌ أو كاتبٌ أو صحافي إلا واشترك فيها، ممن يعلمون وممن لا يعلمون، فقد جاءت العولمة كذلك في نهايات القرن العشرين. وكانت "زفَّة فكرية وثقافية"، أخذت دور النشر والإعلام العربي تساهم فيها، وتتحدث عن العولمة، وكأنها الخطر الداهم، والوباء القادم. وكما تحولت الحداثة والعَلْمانية من عِلم وتاريخ وبحوث أكاديمية إلى شعارات عربية سياسية خطابية برّاقة، تصلح لقيادة المظاهرات الشعبية الصاخبة، فقد كان مصير العولمة كذلك. ونحن كأمة - مولعة بـ "سحر البيان"، و "انتصارات البلاغة" حتى في أعسر القضايا، وأكثرها خطورة على حياتنا- لا مانع لدينا من التخلّي عن الحقيقة العلمية العميقة مقابل "سحر البيان"، و "انتصارات البلاغة"، و "فتوحات المجاز والكناية"، والاستمتاع بهذه اللذات. ومن هنا تحوّلت العولمة إلى شعارات سياسية رومانسية، فيها من سحر البيان العربي المعتاد الشيء الكثير. في حين أن التحديات الجديدة تتطلب منا الابتعاد عن مثل هذه الشعارات. فقولنا أن "العولمة، والنظام العالمي الجديد، واقتصاد السوق، وصندوق النقد الدولي، هي آلهة آخر الزمان، وأحدث ابداعات العقل الاستعماري للسيطرة على ثروات المنطقة وخيراتها"، وأن العولمة "علاقات دولية تحكمها شريعة الغاب في عالم الغاب"، هو من باب "سحر البيان" و"انتصارات البلاغة"، وليس من باب الحقيقة العلمية. فمثل هذه التعابير المجانية، لم يقلها حتى ألد أعداء العولمة في الغرب، وفي أمريكا على وجه الخصوص، وعلى رأسهم قائدة مسيرة الاحتجاج والمعارضة للعولمة ولمنظمة التجارة الدولية WOT في سياتل في 1999 لوري ولاش Wallach. بل إن ولاش في حديثها مع مواسيه Moisés محرر وناشر مجلة "السياسة الخارجية Foreign Policy" كانت واقعية تماماً، وتتكلم من واقع التجارة العالمية ويومياتها، وليس من منطلقات خيالية مجانية،لم تعش تجاربها، ولم تمارس واقعها. الحديث عن العولمة Globalization كمصطلح في نهاية القرن العشرين يعتبره البعض حديثاً جديداً. فقد قال انتوني جدينـز Giddens مدير جامعة لندن، في كتابه (الطريق الثالث) في 1998، أن "مصطلح العولمة قبل عشر سنوات من هذا التاريخ لم يكن معروفاً في الغرب، في الأوساط الأكاديمية، أو في الأوساط الإعلامية. وتحوّل المصطلح بعد عشر سنوات، من مصطلح مجهول إلى مصطلح يتردد في كل مكان من المجالات السياسية، والاقتصادية، والأكاديمية، والإعلامية". دعونا نبدأ قليلاً من الجذور والأصول للعولمة، لكي نصل إلى الحقيقة العلمية والتاريخية، بعيدين عن خدر سحر البيان وانتصارات البلاغة. لا شيء جديداً في العولمة. فالعالم القديم في القرون السابقة كان متعولماً في ناحية أو أخرى، وخاصة العالم العربي والإسلامي. فكانت الثقافة العربية الإسلامية القديمة تمثل العولمة، حيث كان العرب مركز العالم، كما قال حسن حنفي. والعالم الجديد في القرن العشرين ومنذ الحرب العالمية الثانية، بدأ العولمة من حيث ندري أو لا ندري، عن طريـق عدة مؤسسات عولمية اقتصادية منها البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ثم تبع ذلك اتفاقية "الجات GATT"، واتفاقية "منظمة التجارة الدولية WOT". فبأي معنى إذن، تُعدُّ العولمة مرحلة جديدة وعهداً جديداً؟ ألم تنشأ الرأسمالية معولمة؟ والشيوعية كذلك، ألم تكن عولمة اشتراكية؟ وما الجديد في عولمة أواخر القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين؟ يعتبر بعض الباحثين العرب الذين يتلبّسهم دائماً "العفريت الأمريكي"، أن العولمـة عملية سياسية في أساسها تقودها أمريكا بالاعتماد على قدراتها العسكرية، ونفوذها السياسي قبل كل شيء. وفي الواقع، فإن العولمة ليست عملية سياسية بقدر ما هي مفهوم اقتصادي جديد، خرج أولاً وبدايةً من مدرجات كليات إدارة الأعمال والعلوم السياسية، وليس من مدرجات كليات الاقتصاد. ويعتبره علماء الاقتصاد مفهوماً تجارياً قديماً، منذ طرق التجارة العالمية التي بدأت مع طريق الحرير Silk Road الشهير، وأخذ يتجدد في نهايات القرن العشرين. ولكني شخصياً وبتواضع شديد، أعتبر أن العولمة قد بدأت قبل ذلك التاريخ بعهد طويل. فنحن العرب، أول من أوجد قبل الإسلام واقع العولمة ومفهومها التجاري الصحيح، من خلال طريق التجارة الذي كان يمتد من الحجاز إلى بلاد الشام والعراق شمالاً في الصيف، ومن الحجاز إلى بلاد اليمن جنوباً في الشتاء فيما عُرف بـ "رحلة الشتاء والصيف" وعُرف أيضاً بـ "إيلاف قريش". ولم تتوقف هذه التجارة إلا في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، وما بعد ذلك، عندما كثرت الفتوحات، وكثُر الريع، وامتلأت خزائن بيت المال بالأموال التي جاء بها الفتح الإسلامي. ورحلة "الشتاء والصيف"، كانت تحكمها أسواق مختلفة الجنسيات. وكانت الطرق إليها تتحكم فيها جنسيات مختلفة. كما كانت رؤوس الأموال التي كانت تجمعها قريش لمثل هذه التجارة من مختلف القبائل العربية وغير العربية في الجزيرة العربية واليمن والحيرة، ومن الروم، ومن أهل الحبشة وغيرهم، على غرار الشركات المختلطة المتعددة الجنسيات في هذه الأيام، وذلك لضمان الدفاع عن سلامة القوافل وأموالها من قبل كافة القبائل، ومن قبل كافة الأقوام المسيطرة على طرق التجارة الدولية في ذلك الزمان. وقد جاء ذكر الشركاء في القرآن الكريم الذي أشار إليهم بمعنى (الخُلطاء) والخلطاء في اللغة هم الشركاء. وهم الذين خلطوا أموالهم مع أموال الآخرين. يقول تعالى: ]قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيراً من الخلطاء ليبغى بعضهم على بعض[ (صاد:24). إضافة لذلك، فقد قامت قريش وعلى رأسها هاشم بن عبد مناف، الذي ابتدع "الإيلاف"، بعقد المعاهدات السياسية والتجارية مع أطراف دولية كثيرة منها الروم والفرس والبيزنطيين والأحباش والمصريين وأهل اليمن لضمان طرق التجارة، وفتح الأسواق لها، وإزالة الحدود والسدود من أمام التجارة الدولية. بل إن المستشرق النمساوي الأصل، أوليس شبرنغر Springer، يذهب إلى أبعد من ذلك، ويقول بأن التجارة الدولية لدى العرب ظهرت قبل الميلاد. وكان العرب في القرن الخامس الميلادي قد عوربوا التجـارة؛ أي نظموها فيما بينهم، وهم قبائل في ذلك الوقت، وجعلوها عربية أولاً، بأن أشركوا معظم القبائل في تجارة مكة لدفع الغزوات عنها، وحماية طرقها، وفتح أسواقها، وقبل أن يعلمنوها ؛ أي يجعلوها إيلافاً وعولمة دولية. وكانوا بذلك أذكى من عرب اليوم، الذين أدركتهم العولمة (الإيلاف)، قبل أن تدركهم العوربة Arabization. وكانوا منصرفين عن العوربة، لاهين عنها. فلما جاءتهم العولمة فزعوا منها وخافوا، وهم الذين كان لهم أجداد عظام، أسسوا لها، وأنشأوها قبل أكثر من خمسة عشر قرناً من الزمان. فهل العولمة رغيفنا من الدقيق الأمريكي الفاخر، أم أنها رغيف عربي قديم من (البُرِ) الأسمر؟
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |