اتفاق مكة كان فرصة لأداء العمرة فقط

حمزة الجواهري

hjawahri@yahoo.com

تبين أن التهريج عن الحرب الطائفية مجرد ستار لتغطية أجندات سياسية، فقد أصبح واضحا أن رجل الدين الذي يحاول زج نفسه، أو من زجوا به في المعترك السياسي، ما هو إلا مجرد مخدوع لا سلطان له، في حين كان يتصور أو يحاول أن يبدوا وكأنه ذو سطوة وسلطان، وها هو أجوف لا يملك حتى القرار لنفسه، فكيف القرار نيابة عن الشعب؟ عدا ألائك الذين نأوا بأنفسهم وأبوا الدخول بهذه اللعبة السمجة، فباركوا ولكن أوصلوا رسالة بليغة مفادها "أن الصراع في العراق ليس طائفيا بل سياسيا"، واعتذروا عن الذهاب لأداء العمرة أيام العشر الأواخر من رمضان، وهذه تعتبر تضحية كبيرة من رجل دين.

لم يكد يجف حبر الوثيقة، حتى شهدنا تفجيرا انتحاريا في حافلة مدنية، وصراع دامي في العمارة المدينة الشيعية ضحاياه من الشيعة فقط، وآخر في الرمادي ومثله في الموصل، كلاهما سنية، ضحايا الصراع فقط من السنة، عمليات التهجير والقتل، التي سميت بالقتل أو التهجير الطائفي، لم تتوقف في محافظات مختلطة. وفي الوقت الذي يجتمع فيه رجال الدين في مكة قبل التوقيع، تم للإرهابيين خطف أبنائهم في العراق، ليس لمنعهم من التوقيع كما يظن البعض، لكنها كانت رسالة لكل من أساء الظن، واعتبر أن الصراع طائفيا، وأن مفاتيح الاستقرار بين يديه.

لم يكتب في الوثيقة أكثر مما قيل، ولم تدعوا لأكثر مما دعت له المراجع الدينية في سابق الأيام، دون أن يستجيب أحد، وكان واضحا جدا أنها ستكون كغيرها من الفتاوى التي لم يسمع بها، لأن من يمتلك القرار يجد أن الصراع لم ينتهي بعد. فقد تبين أن رجال الدين لا نفوذ لهم ولا سلطان على من يحمل السلاح، وكل ما في الأمر أوهموهم بأنهم قادة العراق الجديد، وقد شربوا الطعم، ولكن حين جد الجد، لم يلتزم أحدا بما أنجزوه.

فقد دفعت المليشيات والعصابات المسلحة الناس في مناطق نفوذها لمنحهم الأصوات، لكي يتبين أن رجل الدين هو من فاز بثقة الشعب في الانتخابات، ولكن حين دعا القادة الجدد من المعممين إلى تحريم قتل المسلم، لم يتوقف القتل، وإذا لم يقتلوا المسلمين، فمن هو الضحية؟ ذلك لأن غالبية سكان العراق من المسلمين، والمسألة في حقيقتها لا علاقة لها بالإسلام ولا بمذهب إسلامي، كل هذا هراء ومجرد كذبة لا أول لها ولا آخر.

وقد تبين أيضا أن الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي ليست إلا مسميات لكيانات اعتبارية يتم من خلالها تمرير أجندات سياسية خارجة عن إرادة الجامعة أو المؤتمر، أجندات قاتلة وقذرة حد أللعنة، بل هي أللعنة ذاتها، ولازالت الجامعة غافلة عن الدور الذي منحه لها الآخرون، ولم ينتبه المؤتمر الإسلامي لحد الآن لطبيعة الأجندات السياسية القذرة التي ينفذها أيضا. ربما يكون بعضا من أصحاب هذه الأجندات قد اندسوا بين قيادات هذه الكيانات ليكونوا هم أصحاب التظاهرات الفارغة والصراخ الذي لا يسمعه أحد.

إن ما حدث في مكة خلال العشر الأواخر قد أثبت لمن له عقل، أن من يملك القرار هو الإصبع الذي فوق الزناد، وهو بذات الوقت من يرعى المؤتمرات وهو الذي يتباكى على الدماء البريئة، وهو الذي يلوم الضحايا البريئة على الاستمرار بالعنف المسلح، وكأن الضحية هو من يدعوا القتلة لقتله! ورجال الدين، الذين شربوا الطعم منهم أو الذين اندسوا في الكيانات الوهمية، هم من يحمل وزر الجريمة في تجلياتها للعيان، لأن القتلة الذين يحملون السلاح ملثمين، ولا نملك سوى الاعتقاد بأن انتمائهم لهذه الجهة أو تلك، في حين أن الذي يخطط ويمول الجريمة، يرفع عقيرته كداعية كبير للسلام. أي بمعنى أن أصحاب المصلحة العليا من هذه الجرائم التي ترتكب في العراق والمرتزقة الذين ينفذون الجريمة، هم براء مما يفعلون بعد أن يلقوا السلاح وينزعوا الأقنعة، لكن الذي سوف يبقى في الصورة هو تلك الزعامات الدينية المزعومة إلى جانب أشلاء الضحايا والدماء والأنقاض وصرخات الألم.

فمتى يستفيق رجال الدين المخدوعين بكذبة "أنهم قادة العراق الجديد" ويكرمونا بسكوتهم؟ ويعودوا لمساجدهم يهتمون بشؤون الدين والمسلمين الروحية بعيدا عن السياسة وأدرانها؟

السيد على السيستاني المرجع الديني الأعلى للشيعة قد أثبت للجميع أنه ليس رجل دين وحسب، بل رجل دين يفهم معنى السياسة بعمق وينأ بنفسه عنها وعن أدرانها حين اعتذر عن الذهاب إلى مكة بطائرة ملكية خاصة، وهو الرجل الذي يتمنى أن يكون في كل لحظة بالقرب من البيت العتيق، لكنه أعتذر، وقال في رسالته ما معناه أن الصراع ليس مذهبيا طائفيا بل هو صراع مصالح سياسية متضاربة تجري تحت ستار ديني، وهذا يذكرنا بما بمقولة ماركس التي مازال حملة المشاريع السياسية الدينية يعتبروها وثيقة لإدانة الشيوعية والتيار العلماني عموما لرجمهم بالإلحاد، في حين لو رجعنا لأصل المقولة، فإنها قيلت بعد انتفاضة الثامن عشر من برومير، أحد أسماء أشهر التقويم القديم، أيام حكم الملك لويس السادس عشر في فرنسا، آن ذاك كانت السلطة قد قمعت الانتفاضة الشعبية لمواجهة طغيان الإقطاعيين وجشعهم، وكان القمع شرسا وهمجيا، ولم يكن مسبوقا بقسوته، هذه الأحداث كانت قد سبقت انطلاق الثورة الفرنسية بسنوات قليلة، وكان وقتها للكنيسة دورا خاصا بها بتوجيه من الملك، حيث أنها أصلا تابعة لهيمنة الدولة الإقطاعية، وكان دورها محصورا بتهدئة الأوضاع ومسح الجراح وتضميدها وتهدئة النفوس الثائرة، وهذا ما اعتبره ماركس نوعا من الأفيون للشعوب بعد أن قارن هذا الدور بأدوار أخرى للكنيسة في أماكن أخرى من أوربا المسيحية، فقد كانت متشابهة إلى حد بعيد. لكن الدين لدينا في العراق والعالم الإسلامي ذو أبعاد أخطر بكثير، فإنه اليوم يمثل الغطاء لكل عمليات القتل التي تجري في العراق، ولست أنا من يقول أنها بالكامل تجري تحت خيمة المذهبية الطائفية، هم من يقول ذلك، وتجري في أماكن أخرى من العالم حربا ضروس ضد العالم تحث مسمى مواجهة الحروب الصليبية، أي أن الدور الذي أخذه الدين لتمرير أجندات سياسية ليس مجرد عملية تهدئة النفوس كتلك التي أدانها ماركس، بل أن من يتهمون ماركس بالإلحاد لأنه قال أن الدين أفيون مهدئ، فإنهم اليوم يغرقون أبناء شعوبهم بالدماء والآلام وكل أنواع الهوان والاستباحة والتعسف، كل ذلك باسم الدين. أليس الأمر كذلك؟ فالدين قد أصبح وسيلة بأيديهم لتنفيذ أجندات غريبة عن روح الإسلام السمح.

فهل آن الأوان لنقول ليته كان "أفيونا"، على الأقل سوف يهدئ الآلام التي تضج بها الجراح والنفوس، حقيقة لا أجرئ على وصف الإسلام السياسي بتسمية محددة له، لذا سأترك التسمية لك عزيزي القارئ، لأني أخشى المنافقين وأنا لا أملك سلاحا سوى القلم.

ألا يحق لنا القول أن الدين براء منهم بعد اليوم؟

أليست وثيقة مكة إدانة صريحة للإسلام السياسي بكل أطيافه المسمومة؟

إذا كان الأفيون قد استفادت منه البشرية في العمليات الجراحية سنين طويلة، فإن الإسلاموي يعطي مشرط الجراح لطبيب أمي جاهل ليقطع أجسادنا بدون مخدر، ليت الإسلام السياسي كان أفيونا مخدرا كما كانت الكنيسة المسلوبة سياسيا في أوربا.

في الدولة المدنية التي فيها فصلا للدين عن الدولة، تقودها أحزاب سياسية ومستقلين ومؤسسات دستورية وقوانين جميعها تحترم الدين، لأن ليس فقط مفرداته تمثل ثقافة الأمة، ولكن أيضا هو الذي يمثل الجانب الروحي للإنسان وينظم حركته بتناغم مع جانبها المادي، لذا يجب أن يكون الدين بعيدا عن إدارة الدولة بالرغم من أن مؤسسات الدولة تستمد مفرداتها منه. ولأن السياسة تسمح بشكل كبير التخلي عن أحد المبادئ السياسية مرحليا من أجل التوافق مثلا، لكن لو كانت الدولة ثيوقراطية، أي تدار من قبل رجال الدين، فإن ثوابتها تعتبر جزءا من العقيدة التي لا يمكن التنازل عنها مهما كانت الظروف والاعتبارات، وهنا ينشأ التناقض القاتل الذي يقود إلى صراعات دموية لا شأن للإنسان بها بالرغم من أنه الضحية دائما. والحزب الذي يناضل من أجل مصالح معينة يضمنها في توليفة من الرؤى والثوابت السياسية ليس كالحزب الذي يستمد نظريته من الدين، حيث كل مفردة من مفرداته السياسية تمثل جزءا مهما من العقيدة، والدين مجموعة من العقائد التي لا تسمح بالمساومة أو التنازل، في حين أن الحزب العلماني الذي يمثل مصالح فئوية، يمكن له التنازل مرحليا عن بعض ثوابته مقابل مصلحة معينة تتناقض مع مصالح الآخرين وفق رؤاهم السياسية، على أن يبقى كل منهم يناضل من أجل تحقيق المزيد من المكاسب التي تعبر مصالح الفئة التي يمثلها.

في ظل هذا المعمعان السياسي، يبقى السياسي مؤمن بعقيدته الدينية ولا يتخلى عنها مهما كانت الظروف، فهو إما مسلم أو مسيحي أو من أي دين كان يحاول أن تكون قيم حزبه أقرب لمعتقده الديني. إن هذا التنوع في العراق موجود لأن أطراف الصراع من أديان ومذاهب دينية وقوميات ومصالح فئوية مختلفة، لكنها لا تختلف على الولاء للوطن ولا شرعية المؤسسات الدستورية ولا القانون، حيث كل ما يختلفون عليه هو المصالح فقط، لأن كل تلك المفردات لا تختلف مع العقيدة طالما أن الدستور والمؤسسات الدستورية تحترم كل الأديان والطوائف.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com