|
الرحلة الشامية (الحلقة الخامسة والاخيرة) بهلول الكظماوي / أمستردام
لا يسعني أنا وبقية المسلمين وقد ودّعنا شهر رمضان المبارك قبل يو مين الاّ وأن أتقدّم بخالص تهانييّ وتبريكاتي بعيد الفطر السعيد سائلاً الله جلّ وعلى أن يتقبّل أعمال الشعوب الاسلامية عامّة وبالاخص شعبي العراقي، يتقبل اعماله من صيام وقيام ومكابدة ومصابرة على ما تحمّل وما مرّ ويمرّ به من فتن وقتل وتفجير وأزمات أمنية واقتصادية، مهنّئاً نفسي وايّاهم ببروز أمل جديد ونور انبثق وسطع من جبل فاران المقدّس معلناً التوقيع على وثيقة العهد وايقاف سيل الدماء الزكية في العراق المقدّس. هذا العهد الذي كان موجوداً بالاصل في العراق وموقّع عليه من قبل جميع مذاهب وطوائف واديان وقوميات العراقيين جميعاً، ولم يتعطّل في يوم من الايام، الا أن ما حدث قبل يومين في مكة المكرّمة ما هو الا توضيح الى الغرباء الدخلاء على العراق والعراقيين وللبعض القليل من العراقيين الذين انجرّوا اليهم ( للغرباء ) ولمخطّطاتهم الخبيثة في زحمة فلتان النظام والغشاوة التي خلفتها فوضى السقوط المفاجئ. راجين من بعض دول الجوار الذين يتدخلون بالشأن العراقي أن يكفواعن هذا التدخّل السافر بحجّة الادعاء لتحرير العراق من القوات الغازية والمحتلّة. هذا الاحتلال الذي لم يكن وليد اليوم، بل بدأ بأستلام الدكتاتورية العفلقية الصدامية للحكم في العراق بواسطة وبمساعدة من الاجني المحتل واستمر لحد هذا اليوم، وان العراقين ليسوا بقاصرين في الدفاع عن أنفسهم وعن وطنهم ومصالحهم الوطنية واستقلالهم، الا أن لكل وقت أذانه ولكل مهمة أوانها، سائلين الله جل وعلى في هذه الايام المباركة ان يحمي العراق وشعبه من اشقائة، واما اعدائه فان العراقيين بأذن الله تعالى كفلاء بدحرهم، فهم كفؤ لذلك. عود على بدء في ( الرحلة الشاميّة ) : و أنا الزم نفسي بالتوقّف عن الاستطراد في حلقاتي ( الرحلة الشامية ) حتّى لا أقع في المحذور واتطرّق في أمور من المفروض أن لا تسرد بكلّ هذا الوضوح، وذلك لو أننا سلّطنا الأضواء على شخص استأثر لنفسه ما هو لعامّة المسلمين ولعامة الناس، وتاجر بالدين وبالناس لكنّا قد ظلمناه حتماً اذا استمعنا لجهة نظر احادية ولم نستمع لجهة النظر الاخرى. هذا أولاً، أمّا ثانياً نكون قد سلّطنا الاضواء عليه ( وهو واحد من كثير ) بدون أن نكشف ونسلّط الأضواء على أمثاله لتعذّر حصرهم جميعاً، اذ ما أكثر الذين يتاجرون في الدين والقضايا الوطنية وينتهزون الفرض فيحقّقوا مكاسبهم الخاصة على حساب مآسي ومحن العامة. و ثالثاً : أكون بتوقـّفي هذا قد احسنت الختام حينما اسلّط الضوء على الجوانب المشرقة لمن انعقد له لواء الزعامة الدينية ( وأنا أتحدّث هنا عن الشام ) فأحسن اداء هذه الزعامة وادّى تكليفه الشرعي والوطني كما يحب الله ويرضى. فأذكر منهم مروراً بالسيد عبد الحسين شرف الدين والشيخ محمد جواد مغنية رحمهم الله، والذين دعموا المجاهدين المقارعين للاستعمار الفرنسي لبلاد الشام آنذاك، بل كانوا نقطة التقاء الامّة وبيضة القبّان في وحدتها والتفافها حول القواسم الوطنية المشتركة، اذ ما أحوج المسلمون في تلك الايّام العصيبة الى أن يجتمعوا ويتوحّدوا على قواسم مشتركة فيما بينهم كمسلمين, وفيما بينهم وبين الطوائف والاديان الاخرى كمواطنين. أنا شخصيّاً كاتب هذه السطور مدين بما أملك من ثقافة اسلامية بسيطة، أدين لكتب الشيخ محمد جواد مغنية، اذ كلما استعصى عليّ فهم موضوع فقهي في العبادات والمعاملات والتبس عليّّ مفهوماً لمذهبين اسلاميين مختلفين التجأت الى كتاب الفقه على المذاهب الخمسة للشيخ مغنية رحمه الله، وكلّما وسوس اليّ شياطين التكفير بنشراتهم الالكترونية المأجورة والواسعة الانتشار هذه الايام التجأت لكتاب ( المراجعات ) للسيد عبد الحسين شرف الدين رحمه الله، لأجد ثوابت ولاء الامّة بجميع طوائفها لكتاب الله وسنّة نبيه وعترته الطاهرة ( آل بيت نبيه (ص)، عندها أجد أن الاسلام رقم صعب لا يقبل القسمة الاّ على نفسه مهما حاول تقسيمه التكفيريون طلاّب الدنيا المتحجّرون، عملاء الاجنبي ومهما بذلوا من جهد جهيد. حقّاً انّ ما نلاحظه اليوم من وعي ديني وتلاحم وطني وذكر طيب لآل البيت (ع) في عاصمة بني امية، حقّاً انها لمعجزة ونتاج بركة دعاء عقيلة بني هاشم ( السيدة زينب ) عليها السلام، حين تضرّعت الى الله تعالى وهي تخاطب الطاغية المتغطرس يزيد بن معاوية في مجلسه وهي اسيرة لديه قائلة له : ( يا يزيد فوالله لا تمحوا ذكرنا، ولا تميت وحينا، فما هي ايامك الاّ عدد وما ملكك الا الى بدد )، فأستجاب الله لها ما ارادت. السيد محسن الأمين : السيد محسن العاملي الأمين رحمه الله، هو ذلكم العلم العظيم، الطود الشامخ والمصلح الكبير، مجدّد فكر أهل بيت الرحمة (ع) في بلاد الشام سكن. في منطقة الشاغور في الشام والذي اتخذ الحي الذي سكن فيه اسمه، حيث سمى بـ ( حي الأمين ) فيما بعد. هو ذلك العالم الثائر في علمه، الغير مجامل في دينه وعقيدته واجتهاده، تحمّل الأذى في جنب الله وفي مرضاته من أقرب الناس اليه، حيث حاربه أبناء جلدته من تجّار المذهب. كبار السن والشيبة يذكرون أيامها حينما كانت تجوب مواكب العزاء الحسيني شوارع النجف الاشرف آنذاك، هذه المواكب التي كانت تتألّف من اناس غوغاء غرّر بهم وغسلت أدمغتهم وشحنوا بالحقد الدفين على السيد محسن الأمين (رح )، فهم كالببغاوات التي لا تفقه ما تقول، كانت هذه المواكب تكيل السباب الرخيص والكلام البذيئ على السيد الأمين، و( الذي ليس بوسعنا أن نذكره لما فيه من بذائة وقذارة ). أمّا قصيدة ما يسمّى بأمير المنبر الحسيني بالنجف ألأشرف فنذكر مطلعها لأنها نشرت في أدبيات تجار المذهب وهي مشهورة المطلع حيث يقول : ( يا راكبا واذا مرّرت بجلّق.... فابصق بوجه أمينها المتزندق ). والعياذ بالله. كل ذلك الحقد الدفين لأن السيد محسن الأمين رحمه الله كان قد حارب البدع، وحارب الاتجار في الدين، فكان السيد الأمين يأكل من كدّ يمينه وعرق جبينه، كان قد نصب نولاً للنسيج في داره في الشام، تلك الدار الصغيرة التي لا تتعدّى الغرفتين، فكانت الغرفة الاولى لعمله بالنسيج والثانية لمعيشته، كان السيد ينسج بنفسه القماش الدمشقي ( الصاية ) ويأكل من أرباح اتعابه، ثم يدفع بالزكاة والخمس المتأتيين من وارد عمله هذا الى الجمعية ( جمعية الاحسان ) التي أنشأها من أخيار وثقاة دمشق حاله حال بقية تجار وكسبة دمشق، وبذلك كان بعيداً عن الاتجار بالدين. السيد محسن الأمين هو ذلكم الرجل الذي أرسل في طلبه الحاكم العسكري الفرنسي بالشام، الإ ان السيد الأمين أبى أن يمتثل بين يديه، وأجاب على طلب االحاكم الفرنسي : بأننا علماء الدين الاسلامي لا نقف على أبواب السلاطين والملوك والحكام، مّما حدى بالحاكم الأجنبي أن يأتيه بنفسه الى ( دكانة يوسف ) حيث دار السيد الأمين صغيرة وتتألّف من غرفتين، غرفة للمعيشة وغرفة أخرى للعمل اذ نصب بها نول النسيج، ولا تتسع الدار لأستقبال الضيوف، ولذلك كان السيد الأمين يستقبل ضيوفه ومريديه في محل يوسف الحلاّق ( دكّانة يوسف ) الواقعة قرب الدار في بداية سوق مدحت باشا من جانب الشاغور والتي تقع المدرسة المحسنية اليوم قبالتها. قدم الحاكم العسكري الفرنسي الى السيد ومعه مشروع يسلّم الحكم فيه الى الشيعة في الشام، ويكون السيد محسن الأمين فيه على رأس الدولة السورية. و بعد طرح المشروع امام الناس، اذ رفض السيد الامين أن يكون اللقاء سرياً وبعيداً عن الملأ. وبمجرّد سماع ذلك انتفض السيد الأمين بوجه الحاكم الفرنسي قائلاً له : اننا مسلمون، ولا فرق عندنا بين الشيعة والسنة، فكلّنا اخوة، وأنني أتشرّف بأن أكون من رعايا دولة مسلمة سنيّة وأضع كلّ امكانياتي في خدمتها وتحت تصرّفها، ولا أتشرّف باستلام حكماً من الاستعمار الفرنسي. واذا كان لنا طلب من فرنسا، فالمطلوب منها أن تخرج من الشام بدون قيد وشرط. أمّا الجمعية الخيرية ( جمعية الاحسان ) التي انشأها السيد الأمين بالشام واسند ادارتها ورعايتها الى وجهاء وسعاة خير واصلاح، انتجت هذه الجمعية عدة مدارس للاولاد والبنات، ومن المراحل الابتدائية حتى الثانوية العامة ونادي للرابطة الادبية ومجموعة من المؤسسات الاجتماعية التي ترعى شؤون المواطنين والتي لا مجال لحصرها جميعاً. يروي كبار السن في الشام قصة انشاء مستشفى المجتهد بدمشق فيقولوا : لم تكن في عموم الشام غير مشفيّين احدهما يسمّى المشفى الايطالي والثاني هو المشفى الفرنسي. و أبان حكومة شكري القوتلي، دعى رئيس الوزراء شكري القوتلي مشايخ الدين الى مأدبة أفطار في أحد أيام شهر رمضان الكريم فلبّى المشايخ طعام الافطار على مائدة رئيس الوزراء. و بعد النتهاء من الافطار طلب منهم رئيس الوزراء أن يطلبوا ما يشاؤوا من طلبات يقدر أن يخدمهم في تلبيتها لهم، فطلب أحدهم قرض لشراء دار، وطلب الثاني على سبيل المثال مطلباً شخصيّاً....الخ. وكان السيد الأمين آخر المتحدثين، فطلب من رئيس الوزراء أن يخصّص لهم قطعة أرض وأجازة ( رخصة ) في أنشاء مستشفى عام للناس في الشام، وابلغه بأن كل الاطباء والكادر الطبي أضافة للمبالغ المالية التي يتكلفها المشروع موجودة تبرعاً من الحقوق الشرعية المخصصة اساساً لمثل هكذا مشاريع للنفع العام. فرح رئيس الوزراء بهذا الاستعداد العملي عند السيد الامين واجابه على الفور بموافقته وفعلاً بوشر بالايام التي تلتها بالموافقات الرسمية، ثم العمل للتنفيذ، وما هي الاّ اشهر ويكتمل البناء، وتجهّز المستشفى احدث تجهيز ويستعد العاملون على افتتاحها ثم يحين يوم الافتتاح ويأتي رئيس الوزراء شكري القوتلي بصحبة السيد محسن الامين، ليتفاجأ السيد الأمين بأن أسمه قد وضع على أعلى بوابة المستشفى حفراً على المرمرة التي لصقت فوق البوابة ومكتوب عليها ( مستشفى الأمين )، عندها تراجع السيد الأمين ولم يرضى أن يقص الشريط ويبدأ العمل في المستشفى الاّ بعد أن يرفعوا أسمه من على بوابتها. و بالفعل ارضاءاً له سميت المستشفى بمستشفى المجتهد تيمناً بمجتهد الشام ( السيد محسن الامين رحمه الله ). يشهد الله بأن ما سأذكره سمعته من يهودي شامي ومن مسيحي شامي، كانوا يشاهدون معي فلماً وثائقياً بالابيض والاسود وبطريقة التصوير القديم لموكب تشييع السيد الأمين وتوديعه الى مثواه الأخير، وكان جاري بسام الراعي ( صاحب محل تسجيلات وفيديو ) في زقاق المدار هو الذي يعرض علينا هذا الفيلم الوثائقي الذي يظهر فيه القسسه المسيحيين ورجال دين يهود يشاركون المسلمسن في تشييع فقيدهم السيد محسن الامين رحمه الله. فرووا لي ( المسيحي واليهودي ) سر بكاء ابناء طوائفهم مع المسلمين فقيدهم السيد الامين. و ذلك لأنهم أكلوا الخبز من يديه ايام المجاعة التي خلفت نهاية الحرب العالمية الثانية وضغطت هذه المجاعة على ابناء الشام جميعاً لولا نجدة السيد الامين لهم مسلمين ونمسيحيين ويهود من غير تمييز. السيد الأمين الذي ما ان مرّ على الحرب العالمية الا بعض الوقت ليدرك بفطنته وحدسه ما ستئول اليه الاوضاع مستقبلاً، وبدأ بشراء الحبوب والقمح من الاسواق العالمية ومن المزارعين، ودفع اثمانه من الحقوق الشرعية التي كانت قد جبتها الجمعية الخيرية، وخزن هذا الطعام في المخازن والبيوت والخانات المملوكة للجمعية. و حينما اصيبت الشام بالقحط آخر وبعد الحرب العالمية انشأ السيد الأمين فرناً للخبز ( ولا يزال الفرن قائماً لحد ألآن وأسمه فرن الهب الحسينية ) مجاوراً لمسجد وجامع الزهراء في شارع مدحت باشا. أمر حينها السيد الأمين باخراج تلك الحبوب المخزونة وطحنها وخبزها وتوزيعها على عموم الناس في الشام من دون تفريق بين مسلم ويهودي ومسيحي. ختاماً عزيزي القارئ الكريم : أنا كاتب هذه السطور لم يربطني بالشام ولا باهلها اي نسب ومصاهرة، كما لم يربطني بالسادة الكرام الذين وردت أسمائهم في مديحي لهم اية قرابة ومعرفة مسبقة، ولا حتى اية استفادة ومنفعة مادية لي معهم، ولكنها كلمة حق يجب أن تقال في حق خير الناس الذين هم انفعهم للناس. هؤلاء أصحاب المروئة الذين وجدت فيهم ارواح آبائنا وأجدادنا في النخوة والشهامة والكرم والاباء والاخلاق الحميدة، والذين حين اقارنهم بتجار الدين والدنيا في أيامنا هذه لا يسعني الا أن اصرخ بوجوههم بما قاله الفرزدق لجرير : اؤلئك آبائي فجئني بمثلهم..... اذا جمعتنا يا جرير المجالس. ودمتم لأخيكم
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |