|
سنغافورة .. دور جديد في الألفية الثالثة د. عبدالله المدني / باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية حققت دولة المدينة الواحدة السنغافورية منذ استقلالها في منتصف ستينات القرن الماضي معجزة تنموية مشهودة، ارتفعت معها البلاد إلى مصاف الأمم المتحضرة مكتملة النمو، بل صارت اليوم نموذجا للآخرين في التنمية و الإدارة و التعليم و الصحة و الاستثمار و الخدمات و المرافق، بحيث لم يعد هناك زعيم في العالم الثالث إلا و يستخدمها كمثال لما يعد به مواطنيه في معرض بحثه عن التأييد و الدعم الشعبي. كذلك فعل الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات يوم أن استلم السلطة في غزة. لكن أين هي هذه الغزة اليوم من سنغافورة الموعودة؟ لقد أرجعها بعض قادتها بضيق أفقهم و مماحكاتهم و أنانيتهم و حماقاتهم إلى اقل من الوضع الذي كانت عليه سنغافورة في عام 1819، أي يوم أن نزل السير توماس ستامفرد رافيلز من شركة الهند الشرقية البريطانية على سواحلها فوجدها مجرد قرية بائسة للصيادين المعدمين. لن نستعرض في هذه المساحة الصحفية الضيقة أدلة أو براهين حول المعجزة السنغافورية التي ما كانت لتتحقق لولا وجود قيادة ذكية ذات رؤى واضحة و سياسات عقلانية، و شعب خلاق، و إرادة حديدية. فتلك المعجزة ماثلة أمام أعين العالم بأسره ولا تحتاج إلى براهين. لذا سنكتفي بذكر دليل واحد فقط هو حجم الاستثمارات الاجنبية المتدفقة و التي ما كان لها أن تقفز من 5.4 مليار دولار في الستينات إلى 109 مليارات دولار في العام الماضي لولا ثقة المستثمرين بقدرات هذا البلد وتماسكه و استقراره و ازدهاره و تفوقه على نفسه. بيد أن السنوات القليلة الماضية منذ بزوغ شمس الألفية الثالثة حملت معها تحديات جديدة للسنغافوريين، تجسدت تحديدا في صعود العملاقين الصيني و الهندي كقوتين اقتصاديتين جاذبتين للاستثمارات العالمية، و ساحتين تزخران بالفرص الاقتصادية المجزية و التسهيلات القانونية والضريبية و تتمتعان بموارد طبيعية هائلة و متنوعة وثروات بشرية مدربة و رخيصة. هذا التطور كانت له بطبيعة الحال آثار سلبية على قطاعات التصنيع و التصدير و الاستثمار و الخدمات في سنغافورة، لا سيما مع تقلص الفرص الجذابة في الأخيرة، و ارتفاع كلفة المعيشة، معطوفين على افتقار البلاد للموارد الطبيعية، وضيق رقعتها الجغرافية (700 كيلومتر مربع فقط)، و ضعف حجم الاستهلاك المحلي الناجم عن تواضع عدد السكان (أربعة ملايين نسمة مقارنة بنحو 1.3 بليون نسمة في الصين و 1.1 بليون نسمة في الهند). من هنا بدأت القيادة السنغافورية في التفكير في كيفية مواجهة هذا التحدي، و هي مدركة تماما عجزها عن مناطحة العملاقين الصيني و الهندي أو الدخول معهما في منافسة شرسة، أو حتى الصبر و الانتظار لسنوات طويلة إلى حين حدوث ما قد يحد من انطلاقهما الاقتصادي الصاروخي مثل التضخم أو ارتفاع الطلب المحلي الضاغط على الموازنة. و هكذا برزت فكرة أن الدور الجديد لسنغافورة في الألفية الثالثة يجب أن يتمثل في لعب مهمتين في آن واحد: الأولى هي لعب دور حلقة الوصل ما بين الصين و الهند و التعاون معهما، و الثانية لعب دور الجسر الموصل ما بين الأخيرتين و العالم الغربي. و يبدو من بعض الشواهد والتصريحات أن هذه الفكرة تحظى بدعم كامل من " لي كوان يو" أول رؤساء وزراء البلاد ومهندس معجزتها الاقتصادية ووالد رئيس الحكومة الحالي " لي هسيان لونغ"، إن لم يكن هو صاحبها، خاصة و أن الرجل كان احد أوائل قادة دول النمور الآسيوية الذين تبنوا منذ السبعينات نظرية ضرورة انفتاح الآسيويين مبكرا على الصين من اجل استغلال الفرص الواعدة فيها قبل أن يخطفها الآخرون. أما العوامل التي تساعد سنغافورة على القيام بهذا الدور بنجاح و بالتالي توظيفه لصالح ديمومة نهضتها و ازدهارها فهي كثيرة. و يمكن في هذا السياق أن نذكر عوامل مثل وجود دولة القانون والمؤسسات المنضبطة التي يوازيها نظام اقتصادي منفتح غربي المعالم و الأطر، و خبرات إدارية راقية تتلائم مع حاجات السوق العالمي، و أجهزة تنفيذية تتميز بالشفافية و الصرامة و الخلو من مظاهر الفساد و المحسوبية و التسيب، و نظام تعليمي راق يستطيع تخريج الكفاءات على أعلى المستويات. بمثل هذه العوامل التي تمتاز بها سنغافورة، مضافا إليها موقعها الجغرافي القريب نسبيا من الصين و الهند، ، يمكن للسنغافوريين أن يبيعوا جملة من الخدمات التي يحتاج العملاقين الهندي والصيني إليها بإلحاح أو التي تعانيان من تخلف أو نقص فيها في خضم معركتهما لبلوغ القمة. فعلى سبيل المثال، يمكن لقطاعات المصارف و التأمين و إعادة التصدير والتسويق و السياحة في سنغافورة أن تساهم بخبرتها في رفع كفاءة القطاعات المماثلة في البلدين وتخليصها من بعض الاحتقانات والمصاعب الناجمة عن ضغوط معدلات النمو المرتفعة و الحراك الاقتصادي المتسارع أو نقص المعرفة و الخبرة، كالصعوبات التي تواجهها الصين حاليا في مجال النقل البحري و توفير الخدمات السياحية بمعاييرعالمية. على أن الأهم من هذا هو إمكانية تحويل البلاد الىقاعدة مركزية لتدريب وتأهيل الموارد البشرية الصينية و الهندية وفق قواعد و متطلبات الاقتصاد العالمي، أو إلى تحويل البلاد إلى مصدرة نموذجية لبرامج التعليم و التدريب و تنمية المواهب و الكفاءات في مختلف المجالات، و لا سيما الإدارة الحكومية و إدارة مؤسسات الأعمال ذات الطموحات التوسعية أو الامتدادات الخارجية. وإذا كان هذا يحتاج ابتداء إلى معرفة دقيقة بثقافة الصينيين و الهنود و طريقة تفكيرهم و نوعية قدراتهم و أساليب عملهم، فان خير من يمتلك ذلك هم السنغافوريون، على اعتبار أن 77 بالمئة منهم ينتمون إلى العرق الصيني، و نحو 8 بالمئة منهم من ذوي الأصول الهندية. إن الأمم الحية هي التي لا تتوقف مسيرتها بفعل أي طاريء و لا تجبن أمام أي تحد، و إنما تجد لنفسها موقعا و دورا جديدا كلما أفقدتها الظروف و التحولات الخارجية دورها المتميز السابق. وسنغافورة هنا خير مثال على هذا.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |