أما آن الأوان للتخلي عن الأحلام المريضة؟

حمزة الجواهري

hjawahri@yahoo.com

لقد صوروا لنا الوضع في العراق بفيتنام جديدة! وتحدثوا عن انقلاب عسكري أكيد في العراق! وعن هروب أمريكي وشيك من العراق سخرت له كل وسائل الإعلام، هذا بالإضافة إلى تحركات سريعة وتصريحات غريبة لأقطاب الإرهاب في العراق كلها تشي بما يؤكد هذه المزاعم،رافق هذه الزوبعة تصعيد في العمليات الإرهابية بشكل مخيف، وقد نجحوا بالفعل في تثبيط العزائم وإشاعة الرعب بين الناس وخلق جوا من التوتر، حتى أن المالكي نفسه كان متوترا في آخر حديث له مع الصحافة بسبب هذه الزوبعة المدوية.

في الواقع أن الأمر له دوافع أخرى وهي مسألة تحقيق أهداف ليست مقبولة من الحكومة العراقية لحد الآن، بل هي المستحيل بعينه، منها إعادة البعثيين ليشاركوا في السلطة والعفو العام عن القتلة وإعادة ضباط كبار من الجيش القديم للتشكيلات الجديدة وحتى إشراك العصابات التكفيرية في العملية السياسية، وفي الحقيقة هذا هو الهدف النهائي من كل هذه الزوبعة. لذا أجد من الضروري مناقشة أهم مفردات هذه الزوبعة الإعلامية وتوضيح زيفها، حتى لا يقعوا بالخطأ ويرضخوا لمطالب ممثلي الإرهاب وعلى رأسهم الطائفي زلماي، أما مسألة وضع الصيغ الواقعية للتعامل الموضوع،.

أجد أن الحديث عن انقلاب عسكري يعد نوعا من المزاح الثقيل، لأن الشخص الذي يستطيع أن يقوم بانقلاب عسكري هو جورج كيسي فقط، كما علق بسخرية أحد السياسيين العراقيين على هذا الأمر، كون الأمريكان هم القوة الوحيدة التي لديها الأسلحة الثقيلة والطائرات ووسائل الدعم اللوجستي الكاملة التي يحتاجها الجيش في عملية من هذا النوع! وأمريكا لا يمكن أن تقوم بانقلاب على نفسها، ربما تريد تبديل المالكي، وهذا ممكن، ولكنها ليست بحاجة إلى انقلاب، فهي المسؤول عن أمن الرجل ووزراءه وأمن البرلمان وكل المتواجدين في المنطقة الخضراء، ويستطيعون أن يفعلوها وقت ما يشاءون لكن ليس بانقلاب عسكري!

كما ولا يوجد لحد هذه اللحظة أي تشابه في الحالة مع فيتنام، لأن لم نسمع في الحرب الفيتنامية أن فيتناميا قتل مواطنه البريء بسيارة مفخخة أو ذبحه على الهوية، وأن ما يخسره الأمريكان في العراق من جنود لا يساوي عدد الذين يموتون بسبب الإدمان على المخدرات في حي صغير من أحياء مدينة صغيرة في أمريكا! حيث معدل القتلى من الجنود الأمريكان لا يزيد على قتيلين يوميا، هذا إضافة إلى أن معظم الجنود هم من الوافدين الجدد إلى أمريكا والكثير منهم ليس لديه جواز سفر أمريكي ولا عائلة تنتظره هناك، لذا فإن هذه الأرقام لا يمكن مقارنتها بالحرب الفيتنامية!

وقد ركز الإعلام أيضا على احتمالات خسارة الحزب الجمهوري في الانتخابات الأمريكية القادمة لمجلس النواب بسبب الوجود الأمريكي في العراق والحرب على الإرهاب، وهذا أيضا يعد نوعا من التهريج الإعلامي حتى لو كانت مصادره أمريكية، لأن معيار انحياز الأمريكي هو جيبه كما يقولون، أي الوضع الاقتصادي في البلد وليس احتلال العراق أو أخطاء الإدارة الأمريكية فيه، وأن المؤشرات الاقتصادية الحالية تجعل من احتمالات خسارة الجمهوريين مجرد عواء إعلامي وحسب،‏ فقد أدت الحرب في العراق وأفغانستان والحرب على الإرهاب عموما إلى نمو الاقتصاد الأمريكي بمعدل‏3,5%‏ وهو أعلى معدل نمو تم تسجيله خلال ثلاثة عقود، حيث في الثمانينيات‏ كان النمو بمعدل3,1%‏ وفي التسعينات كان بمعدل‏3,3%‏ ،‏ وبرنامج الخفض الضريبي على الفقراء والطبقة الوسط الذي أقرته إدارة بوش قد وفر للأمريكي العادي من400إلى600 دولار شهريا، وأن معدل البطالة قد انخفض إلى ‏4,6%,‏ وهو أقل معدل منذ ستة عقود، حيث كان معدله للسنوات الأربعين الماضية بحدود‏6%,‏ كل ذلك تحقق بسبب الحرب في العراق خصوصا‏، السبب بسيط جدا، إذ ليس كما يروج الإعلام من أن فواتير الحرب كانت باهظة تقدر بترليون دولار أو يزيد، يمكن أن تكون كذلك لو كانت أمريكا تشتري سلاحها من الخارج، لكن لو نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى نجد أن هذه الأموال هي التي صنعت تلك الأرقام الاقتصادية، لأنها صرفت بداخل أمريكا وكانت السبب بتنشيط الاقتصاد الأمريكي، حيث كل السلاح والعتاد والتجهيزات العسكرية الأخرى وحتى الغذاء والرواتب كلها ذهبت لشركات وبنوك أمريكية، هذه الأموال تحديدا هي التي خلقت هذه المعجزة الاقتصادية في أمريكا، وإن الصاروخ الأمريكي من نوع كروز الذي تقدر قيمته بمليون دولار، في الواقع أن المواد الخام التي تدخل في صناعته لا تتعدى مئة دولار، أما باقي القيمة تأتي من العمل، فهو الذي يعطي المادة الخام قيمتها، وهذا الأمر يسري على كل احتياجات الجيش الأمريكي في العراق، فإن الكلف العالية التي يعتقدون أنها سوف تطيح بالحكومة الأمريكية ليست كذلك، بل هي مزيدا من العمل وثراء ورفاهية لشعبهم. لذا فإن الأمريكي الذي سوف يدلي بصوته سينظر لهذه الحالة ولا يكترث لإحباط سياسي أو عسكري أو موت جنديين يوميا فقط كمعدل عام، بل ينظر لما يدخل جيبه في نهاية الشهر وكم سيدفع من فواتير للضرائب، وربما ينظر أيضا للوضع الأمني، وهذا يعتبر من صالح الإدارة الأمريكية، لأنها من أكبر المتشددين في هذا المجال.

أضف لما تقدم أن مسألة الانسحاب الأمريكي في العراق غير ممكنة قبل تحقيق الأهداف، لأن الأهداف ذات الطبيعة الأستراتيجية لا يحددها حزبا معينا، ولكن الرأسمال المالي الأمريكي هو الذي يضع استراتيجية الدولة والإدارة تضع السياسة التنفيذية لها فقط، لذا فأن الطرفين الجمهوريين والديمقراطيين يتفقون حول هذه المسألة، بل هناك ديمقراطيين أكثر تشددا في تحقيق النصر من الجمهوريين في الكونجرس، وهم اليوم يطالبون بزج ضعف العدد الحالي من الجنود في العراق لتحقيق النصر الأكيد، لكن ما نسمعه ونقرأه من الإعلام حول هذه الخلافات ما هي إلا مجرد حملات إعلامية ترافق جميع الانتخابات هناك، والإعلام العربي الأعور لا يقرأ سوى هذه الترهات الإعلامية التي ترافق الانتخابات ويعكسها على الوضع العراقي.

كل هذه الأمور تعرفها الإدارة الأمريكية وتجيد اللعب عليها، وتحسب أيضا حساب لمحاولات إطالة وجودهم أملا بانسحابهم قبل تحقيق الهدف النهائي للحرب، وهي مستعدة لمواجهتها، لكنها متراخية لأنها تعرف تماما أن ما يجري حاليا يصب في مصلحتها، ومصلحة إدارة بوش تحديدا، كما أسلفنا، لذا فإن سياسة النفس الطويل للتعامل مع الملف العراقي برمتها من صالح الإدارة الأمريكية، كما وأن الذي يتصدى لمشاريعها مجرد سذج في السياسة، صحيح أنهم يجيدون الألعاب البهلوانية ومحاولاتهم تطيل من أمد الاحتلال، ولكن في النهاية سوف لن يحدث شيء خارجا عن مشيئة أمريكا، مهما فعلت دول الجوار هي عصاباتها المنتشرة في أزقة العراق الذين يتقاتلون فيما بينهم بدماء الأبرياء.

ربما يبقى هناك أمرا مهما للغاية، وهو أن الضغوط السياسية قد تستطيع أن تحقق بعض المكاسب على حساب جهة دون أخرى، ولكن لو تمسك القادة العراقيون للعملية السياسية بالثوابت الصحيحة وتخلوا عن المحاصصة الطائفية بالرجوع إلى منطق العقل، الذي نعبر عنه في الموروث الشعبي "اعطي الخبز خبازته" سيكون موقفهم أقوى في الحكومة والموقف سيكون أكثر تأثيرا في البرلمان، لأن البرلماني سوف يكون خجلا من نفسه حين يعارض ما هو صحيح وواضح، لكن بوجود حكومة هزيلة كهذه، يستطيع الذين يعملون لصالح أجندات دول الجوار فرض شروطهم الصعبة على الجميع، وهنا الخسارة الحقيقة، أي حين تتنازل حكومة المالكي وتخضع لضغوط زلماي الشاذة ومن يقف خلفه من العراقيين، فإنها تكون قد تنازلت عن حقوق الشعب لصالح من لا يستحقها. وإن المراقب لأداء زلماي، الطائفي للنخاع، يستطيع بسهولة اكتشاف أنه يغني على ليلاه أكثر ما يمثل إدارته، فهو يعطي مهلة شهرين، طبعا مهلة تعجيزية، في الوقت الذي يقول فيه الرئيس الأمريكي أن لا مهلة محددة، ودعمه لحكومة المالكي مطلق وثقته بالرجل كبيرة على حد تعبيره، ولو صدقت الأقاويل التي ترددت من أن بقاء زلماي في العراق سوف لن يستمر أكثر من نهاية العام، يكتشف المرء على الفور العلاقة بين مهلة الشهرين التي أعطاها للمالكي والمهلة التي أعطيت له لكي يرتب أوراقه ويحزم حقائبه قبل أن يترك العراق.

ما يلفت النظر أيضا أن الثالوث المقدس الذي يعمل عليه زلماي هو: أولا التفاوض من المقاومة "الشريفة" ليس مشروطا بإلقاء السلاح وليس شرطا أن تقبل بدخول العملية السياسية كشريك، وليس شرطا أن تعرف بنفسها، ولا وجود لأي شرط أخر، أي باختصار "منتهى الدلال" أو "تعال أحبك الآن أكثر" على حد تعبير أحد الأصدقاء"، والمحور الثاني هو تسليط الضغوط على الحكومة لقبول كل شروط المصالحة مهما كانت مذلة أو فيها هدرا للحقوق، أما المحور الثلث فهو حل المليشيات بالقوة بغض النظر عن كل الاعتبارات! حتى لو بقي العراقي يقتل ويهجر ويذل من قبل العصابات المسلحة للبعثيين والتكفيريين! وحتى لو تمكنت العصابات المسلحة البعثية من السيطرة على أجزاء أوسع من العراق! إن هذا الثالوث المقدس الذي يعمل عليه زلماي، لا أعتقد أنه يمثل رأي الإدارة الأمريكية، ولا يمكن أن يمثلها بأي حال، بالرغم من أن زلماي يمثل الدبلوماسية الأمريكية في العراق، لأن الأمريكان في العادة يمنحون الدبلوماسيين هامشا من التصرف شرط أن يحققوا نتائج على أرض الواقع تصب في مصلحة أمريكا، لكن زلماي الذي لم يعد مرغوبا به من قبل أوسع مكون عراقي مازال مستمرا بهذا الأداء السيئ، لأنه يعرف تماما أنه تاركا العراق في القريب، وما يشجعه على ذلك هو أولا التراخي الأمريكي في مسألة الأمن لوجود الرغبة الشديدة بإقامة نظام ولاية الفقيه من قبل الإسلام السياسي الشيعي، وثانيا وجود مليشيات هذا التيار التي زجوا بها للمعركة الطائفية بعد أحداث تفجير المراقد المقدسة، وثالثا هو ضعف الحكومة المشلولة والتي كبلتها شروط زلماي أيام التأسيس، حيث أن السبب الأخير ما كان ليحدث أيضا لولا وجود المليشيات والرغبة بتحقيق نظام إسلامي في العراق أو على جزء من ترابه، وهو الذي خلق الذريعة القوية بيد زلماي ليصل إلى هذه النتيجة من أن الحكومة غاية بالضعف والهشاشة.

فلو استطاع المالكي الخروج من هذه الدوامة من خلال تخلي أطراف الإسلام السياسي الشيعي عن حلم ولاية الفقيه، وألقت مليشياتها بالفعل أسلحتها، لكان بالإمكان تشكيل حكومة قوية من الكفاءات أو التكنوقراط تستطيع أن تلجم كل الخارجين على القانون ومن يفاوض البعثيين مقابل دماء العراقيين، لكن اللعب يجب أن يكون على حذر فالعدو شرس متمرس على الغدر ومحترف للجريمة ولديه من الأدوات الكثير.

أعتقد أن أصحاب مشروع دولة "ولاية الفقيه" في العراق قد أدركوا الآن أن نظامهم مستحيل التحقيق على أي جزء من العراق، وإن استمرارهم بالمحاولة ربما سيفوت على العراقيين الفرصة التاريخية لإقامة نظام ديمقراطي يتساوى فيه الجميع، وربما يعود العراق إلى أزمنة القهر الطائفي والعنصري، وربما يؤدي إلى حرب أهلية فعلا، وربما يتحقق كل ما ليس بالحسبان في حال استمرار تمسكهم بهذا النظام المستحيل التحقيق تحت الهيمنة الأمريكية على العراق، وعليهم أن يدركوا حقيقة أن استمرار الوجود الأمريكي في العراق يحقق المزيد من الرفاهية للشعب الأمريكي وليس العكس كما يتصور السذج من السياسيين أو كما يصوره الإعلام العربي الأعور الذي لا يرى إلا بعين واحدة مصابة بالتراخوما، وها هي النتائج واضحة للعيان.

لهذه الأسباب أستطيع أن اسأل سؤالين فقط، ما الذي يحدث لو ألقت المليشيات أسلحتها؟ وحتى لو سلمتها للحكومة؟ وما الذي يحدث لو اكتفت الكتلة الأكبر بالمحافظة على موقعا في البرلمان وأن تتخلى عن حصصها في الحكومة لعناصر عقلانية مؤهلة ومسلحة بالخبرة بدلا التمسك بتمثيل بائس لوزراء يأخذون قراراتهم باستعمال المسبحة، أي "بالخيرة"؟

سأترك الجواب على هذين السؤالين للذين يملكون مليشيات مسلحة ومازالوا يتمسكون بإقامة نظام ولاية الفقيه.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com