|
هل بإمكان "المالكي" أن يقلب الطاولة على الجميع علي آل شفاف إن إرضاء الجميع غاية لم يدركها الأولون, ولن يدركها الآخرون. فسعي بعض جهلة السياسيين لإرضاء جميع الأطراف, بما فيها التي لا ترضى إلا بالاستئثار بالحكم, هو ما أوصل العراق إلى ما هو فيه. ولو قيض الحكم مرة أخرى لتلك الأطراف التي يسعى البعض لإرضائها فإنها ـ وكما جرت عليه عادتها ـ سوف لن تكلف نفسها عناء البحث عما يريده الآخرون, فضلا عن عناء إرضائهم. . . على كل حال, وعلى الرغم من كل ما نحن فيه, فإن الأوان لم يفت بعد, ويمكن المالكي ـ بالكثير من الجرأة والقوة والصلابة ـ تدارك ما فات. فعلى الرغم من أن تسمية الحكومة الحالية بـ "حكومة المالكي" هي تسمية مجازية تماما, إذا لم تكن ظالمة. لكونها حكومة أمر واقع, فرضتها على "المالكي" ملابسات وتوافقات سياسية معروفة, وضغوطات أمريكية وإقليمية. كانت نتيجتها حكومة هجينة ومبعثرة الولاءات. حكومة شلاء, غير قادرة على فرض أي إجراء تريده, لأن رئيسها يفتقد الصلاحيات التي تمكنه من القيام به, أو اتخاذ القرارات اللازمة لتنفيذه. فضلا عن القيود الأمريكية المفروضة على تحركات الجيش والشرطة, والتي دفعت المالكي للتصريح بأنه لا يمكنه تحريك سرية واحدة من الجيش إلا بموافقة الأمريكان . . . على الرغم من ذلك كله, إلا أن موقف المالكي كرئيس وزراء منتخب ـ وعلى العكس مما يظن البعض ـ قويا جدا لو أحسن استغلال الفرصة الحالية السانحة, وأحسن قراءة ما ينتشر هذه الأيام من إشاعات أو تسريبات (أمريكية وغير أمريكية), حول الانقلاب الذي تخطط له أمريكا ضده باستخدام ذيول البعث, وأحسن فهم ما تريده أمريكا بدقة منها. فأمريكا ليست هائمة بحب البعثيين أو غيرهم, لكنها تبحث عمن يحقق لها أي نجاح في العراق. ولكون البعثيين الذين طالما لعبوا دور "الهلوك" التي ترتمي بأحضان الشرق والغرب على حد سواء, يعرفون أبعاد هذه السياسة النفعية الأمريكية, وقد جربوا فائدتها وخبروها منذ الستينات؛ فقد حرصوا على إرسال الرسائل تلو الأخرى إلى الأمريكان لإقناعهم بأنهم هم ـ وهم فقط ـ من يستطيع أن يحفظ مصالح أمريكا في العراق والمنطقة, حتى لو كان ذلك على تلال من الجماجم وأنهار من الدم. إذ لا مانع لديهم من حكم العراق ترابا يبابا قفرا بلقعا . . فالمهم أنهم يحكمون وحسب. وقد حرص البعثيون بمعونة همج التكفير المدعومين من دول معروفة, على محاولة إقناع الأمريكان ولو على مضض ـ كما تزعم هذه التسريبات ـ بالانقلاب أو بحكم العسكر مرة أخرى على الطريقة الباكستانية. إذا سلمنا بهذه الشائعات أو التسريبات المتعمدة, وسلمنا ـ جدلا ـ بقرب حصول حدث من هذا النوع: فهل هناك ـ يا ترى ـ ما يمنع من قيام المالكي نفسه بهذا الدور؟ وهل لدى الأمريكيين أي مانع من قيامه بذلك؟ إن قيام المالكي ـ نفسه ـ بانقلاب أبيض يجمع من خلاله كل أطراف السلطة التنفيذية بيديه, وبالتالي الضرب بيد من حديد كل من يتلاعب بأمن وحياة العراقيين, سيوفر على الأمريكان ردود الفعل الشعبية والسياسية التي قد تدخل العراق في ما لا يمكن الخروج منه إذ ما استعانت بذيول البعث أو ذيول صدام, إذ لا يقبل العراقيون بعد الآن ببديل بعثي مهما كانت النتائج, كما أن قيامه بذلك الأمر سيحفظ ما ء وجه الأمريكان, وبعض (مصداقيتهم) المفترضة التي قد تنحدر إلى الهاوية, فيما لو استعانوا بالبعثيين, الذي ادعوا بأنهم جاؤوا لتخليص العراقيين من ظلمهم واضطهادهم. إذا فالمالكي هنا هو البديل الأكثر قبولا من أي بديل آخر, لأنه ببساطة رئيس الوزراء الفعلي المنتخب. يبدو لمن يدقق في هذه التسريبات إن هناك رضى ضمنيا لدى الأمريكان بهذا الأمر, بل إن قيام المالكي بهذا الدور قد يمثل الحل الأمثل لدى الأمريكان, فيما لو أبدى المالكي شئ من القوة والصلابة الحنكة. وبهذا يمكن المالكي أن ينقذ العراق أولا, ثم يخرج أمريكا من ورطتها في العراق, ويصحح أخطاءها فيه, ثانيا. يمكن المالكي ـ مثلا ـ القيام بهذا الانقلاب الأبيض الذي يجمع من خلاله كافة خيوط السلطة التنفيذية بيديه, عن طريق فرضه الأحكام العرفية في البلاد (ويمكنه استثناء مناطق الأكراد, لعدم الحاجة أولا, ولضمان تأييدهم أو وقوفهم على الحياد ـ على الأقل ـ ثانيا), ومن ثم تجميده أو تعليقه لعمل البرلمان, وجمعه قيادة جميع الأجهزة الأمنية بيديه هو, دون أي من مساعديه المفروضين عليه؛ والسيطرة الكاملة على جميع وسائل الإعلام العراقية, وعلى ما تبثه كافة وسائل الإعلام الأجنبية لمدة مؤقتة. كما يمكنه القيام بخطوة مهمة جدا وهي استدعاء الذكور ممن هم بأعمار من 18 إلى 45 سنة للخدمة العسكرية أو المدنية واستغلالهم في معسكرات البناء والإعمار لمدة ثلاثة أشهر مثلا, لكون من يقوم بمعظم عمليات عدم الاستقرار في البلاد هم في الغالب من هذه الفئة العمرية. فحصرهم في معسكرات وتحت أنظار الدولة يخلق لها الجو الصحيح لتعديل الأوضاع والسيطرة على جميع مناطق البلاد, كذلك فإن قيام هذه الأعداد الكبيرة بالعمل الشعبي وببناء مجمعات سكنية مثلا أو غيرها. يشعر المواطن الشريف بفخر كونه يساهم في بناء وطنه. وبمنحهم رواتب مناسبة ستجمد مشكلة البطالة أيضا لنفس الفترة, مما يشعر هؤلاء الشباب باستقرار مؤقت. لكن, هنا يأتي دور السؤال الأهم, وهو: هل يمتلك المالكي المؤهلات الشخصية الكافية لقيامه بهذا الدور؟ أو هل يستطيع السمو بنفسه وقدراته إلى المستوى الذي تتطلبه هذه المهمة الكبرى؟ ثم, هل بإمكانه كسب ثقة الشعب العراقي, وبعض الأحزاب الكبيرة التي يحتاج دعمها؟ وهل بإمكانه إقناع الأمريكان بقدراته, ووضعهم أمام الأمر الواقع؟ وهل بإمكانه مواجهة الضغوط الإقليمية, وفرض المعادلة الجديدة بالقوة, في مواجهة محيط معاد لها بالكامل, وحريص على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء؟ وهل بإمكانه فرض المعادلة الجديدة في الداخل بالقوة, من أجل استعادة الأمن والسلام في ربوع العراق؟ إن أفضل من يجيب عن هذه الأسئلة وغيرها هو "المالكي" نفسه!! أخيرا, ربما يحسب البعض أن هذا الأمر, لو حدث لكان ردة عن الديمقراطية التي طالما تغنى بها الكثيرون, وحلم بها آخرون! لكني ألفت انتباههم إلى أنهم بذلك سيكونون أقل حبا لوطنهم ولشعبهم من الأمريكان والبريطانيين والأوربيين عموما لكون هؤلاء ضربوا الديمقراطية وحقوق الإنسان عرض الحائط عندما تعارضت مع مصالحهم أو هددت أوطانهم وشعوبهم ـ وهم أصحاب أعرق الديمقراطيات في العالم ـ فسنوا قوانين مكافحة الإرهاب التي تحد من الحريات العامة وأجازوا التنصت على المكالمات متجاوزين بذلك حق الخصوصية المحفوظ لكل فرد, وقتلوا على الشبهة في لندن, وذلك كله لأسباب احترازية تعتبر تافهة إذا ما قيست بما يجري في بلدنا وعلى شعبنا. فالواقع يفرض ـ بما لا يقبل التأجيل ـ على الحكومة المؤيدة بالشعب القيام بأي إجراء قادر على إخراج البلد مما هو فيه. بما فيه الأحكام العرفية و(تجميد) البرلمان أو تعطيل مؤقت لبعض فقرات الدستور أو تعطيل مؤقت لبعض القوانين أو فرض مؤقت لقوانين أخرى تحد من بعض الحريات أو الحقوق. ولو طبقت هذه الإجراءات بعد سقوط الصنم مباشرة لوفرت علينا الكثير من الدماء والأموال ولعشنا الآن في بحبوحة الديمقراطية التي يسعى إليها الكثيرون.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |