شخبطة على الحائط .. الجاحظ عصري زمانه
توما شماني / تورونتو عضو اتحاد المؤرخين العرب
tshamani@rogers.com
الجاحظ بصري النشأة ولد فيها يوم كانت البصرة مدينة حبلى بالثقافات. عرف الجاحظ بالجاحظ لجحوظ في عينيه وعاش 96 عامًا في مدينة النخيل والشعر والتاريخ، حيث استوعب ثقافات زمانه العرب واليونان والفرس والهند التي عرفها عصره والتي جمعها الجاحظ ووعاها.
في صباه باع الخبز والسمك في سوق البصرة، ثم بدأ يأخذ العلم على أعلامه. درس العربية وآدابها عن الأصمعي وأبي عبيدة وأبي زيد الأنصاري، والنحو على الأخفش، واجاد في علم الكلام على يد إبراهيم بن سيار البصري. وكان يأخذ اللغة مشافهة من الأعراب، وقد كان الجاحظ يتردد على المربد أيضاً في ضواحي البصرة ليستمع إلى مناظرات اللغويين. ويلتقي حنين بن إسحاق وسلمويه فيتعرَّف على الثقافة اليونانية، ويقرأ ابن المقفع فيتصل بالثقافة الفارسية، قيل عن نهمه الدراسي انه كان يستأجر دكاكين الوراقين ويبيت فيها ليقرأ كل ما فيها من كتب مؤلفة ومترجمة، ويطلع على كل ثقافات عصره من عربية وفارسية ويونانية وهندية. والمشاع عنه انه في يوم ما سقطت عليه رفوف الكتب فلقي حتفه. كان الجاحظ موسوعة زمانه، وتعتبر كتبه دائرة معارف حيث حوت كل ما كان يدور في زمانه وهو بذلك ليس مؤرخا فحسب بل شاعرا ونحويا ومفلسفا بل دارا للنشر لاهل ذاك الزمان الذين كانوا يعتمدون لاول مرة القرطاس البدائي، كتب في كل شيء تقريبًا؛ كتب في علم الكلام والأدب والسياسية والتاريخ والأخلاق والنبات والحيوان والصناعة والنساء والسلطان والجند والقضاة والولاة والمعلمين واللصوص والإمامة والحول والعور والدين والقيان والهجاء.
لعلميته كان الجاحظ يرفض الخرافات رفضا كليا، وينقد من يرويها من أمثال أبي زيد الأنصاري، اذ يقول: (إن أبا زيد أمين ثقة، لكنه ينقصه النقد لأمثال هذه الأخبار التي يرويها عن السعالي والجن، وكيف يراهم الناس ويتحدثون إليهم ويتزوجونهم وينجبون). رفض الجاحظ بشدة القول بأن سب الولاة فتنة ولعنهم. وعجب من أن الذين يقولون بذلك الرأي مجمعون على لعن من قتل مؤمنًا متعمدًا، ثم إذا كان القاتل سلطانًا ظالمًا لم يستحلوا سبه ولا لعنه ولا خلعه، وإن أجاع الفقراء وظلم الضعفاء، ولان الجاحظ كان من جماعة المعتزلة فكان يرى لابد من الخروج على الإمام الظالم في حالة وجود إمام عادل، مع الثقة في القدرة على خلع الظالم وإحلال العادل محله، دون إحداث أضرار أكثر مما يتوقع جلبه من المنافع. تبنى الجاحظ مذهب المعتزلة الذي نشأ في مدينة البصرة، كما كان الجاحظ كان من رواد مسجد البصرة وقد عرف عنه شغفه ومشاركته مع من سموا جماعة المسجد او (المسجديين)، وقد كان الجاحظ منهم ويقول صاحب الأغاني أن المجلس كان يضم (عمرو بن عبيد ، وواصل بن عطاء، وبشار الأعمى ، وصالح بن عبد القدوس، وعبد الكريم بن أبي العوجاء ورجل من الأزد) فكانوا يجتمعون في مجلس الأزدي ويختصمون فيه. للجاحظ اسلوب مميز ليس له ضريب فهو سهل واضح عذب مع استطراد وفكاهة، يحمل الموسوعية و النظر الثاقب والاستسلام للعقل اذ كان بحق وحيد زمانه.
يقولون انه كتب 360 كتابًا في كل معارف ذاك الزمان، الذي كانت فيه بغداد مركزا للاشعاع الفكري ومن أشهر كتبه (البيان والتبيين) ثم (الحيوان). وكتاب البيان والتبيين يتناول موضوعات متفرقة كالتحدث عن الأنبياء والخطباء والفقهاء والأمراء والحديث في البلاغة واللسان والصمت والشعر والخطب والرد على الشعوبية واللحن والحمقى والمجانين ووصايا الأعراب ونوادرهم والزهد واشياء كثيرة اخرى. كتاب الحيوان للجاحظ هو أول كتاب وضع في العربية في علم الحيوان لأن من كتبوا قبله أمثال الأصمعي وأبي عبيدة وابن الكلبي وابن الأعرابي والسجستاني وغيرهم.. كانوا يتناولون حيوانًا واحدًا مثل البعير أوالنحل أوالطير وكان اهتمامهم بالنواحي اللغوية فقط، اما الجاحظ فقد اهتم باللغة والشعر وفي طبائع الحيوان من نواحي متعددة. ولأن الجاحظ كان غزير العلم مستوعبًا لثقافات عصره فقد كانت كتبه تمتد لتشمل القرآن والحديث والتوراة والإنجيل وأقوال الحكماء والشعراء وعلوم اليونان وأدب فارس وحكمة الهند بالإضافة إلى تجاربه العلمية ومشاهداته وملاحظاته الخاصة.
من طرائف الجاحظ قال أتتني امرأة وأنا على باب داري فقالت، لي إليك حاجة، وأريد أن تسير معي. فقمت معها إلى أن أتت بي إلى صانغ، وقالت له مثل هذا. وانصرفت، فسألت الصانغ عن قولها، فقال أمرتني أن أنقش صورة شيطان، فقلت لها لم أر الشيطان، فجائت بك لانك تشبه الشيطان. من طرائفه الاخرى قال ما أخجلني أحد إلا امرأتان، إحداهما كانت طويلة القامة، وكنت على طعام، فأردت أن أمازحها. فقلت لها انزلي كُلي معنا فردت قائلة اصعد أنت حتى ترى الدنيا. وقال الجاحظ كنت مرة في سوق البصرة ورايت رجلا قصيرا على مطية مسرعا ورجلاه تتطايران في الهواء فقلت له مازحا (كأنك صعوة في اصل حش اصاب الحش طش بعد رش) اي كانك عصفورة على بقعة حشيش اصابها رذاذ من المطر ثم زخ، وما انتهى الجاحظ حتى رده الرجل القصير ببيت على نفس القافية والوزن قائلا (وكانك بعرة في است كبش مدلاة وذاك الكبش يمشي). وروى الجاحظ أيضا: أتيت منزل صديق لي فطرقت الباب فخرجت إليّ جارية من الهند، فقلت: قولي لسيدك الجاحظ بالباب، فقالت: أقول: "الجاهد بالباب"؟ -على لغتها- فقلت: لا، قولي له الحدقي بالباب! فقالت أقول "الحلقي بالباب"! فقلت: لا تقولي شيئاً. ورجعت. قال الجاحظ: جاءني يوماً بعض الثقلاء فقال: سمعت أن لك ألف جواب مسكت، فعلمني منها؟ فقلت: نعم. فقال: إذا قال لي شخص، يا جاهل! يا ثقيل الروح، اي شيء أقول له؟ فقلت: قل له: صدقت!