|
اطفال الانفال (7) .. من أوراق مخيم اللاجئين في قرية زيوة الإيرانية يوسف أبو الفوز اطفال الانفال هو العنوان الداخلي لكتابي، الذي اردته شهادة بلسان ضحايا وشهود جريمة الانفال بحق ابناء شعبنا الكوردي، والذي بدأت العمل فيه بعد احداث الانفال مباشرة، وكنا لا نزال بالملابس التي اجتزنا فيها الحدود العراقية نحو الاراضي الايرانية، وفيما بعد صدر عن وزارة الثقافة الكردية في السليمانية، شتاء 2004، وتحت عنوان (لدي اسئلة كثيرة او اطفال الانفال ). حيث كنت مع انصار الحزب الشيوعي العراقي، في قلب الاحداث، وسط أجواء التحدي والموت والجوع والعطش. كنت مع بسطاء الناس، جزءا من المأساة، وواحدا من ضحاياها. كنت مع الجميع شاهدا على كثير من فصول جريمة الديكتاتور المجرم ونظامه الشوفيني الفاشي، و ما جرى بحق ابناء شعبنا الكوردي. في صفحات الكتاب ـ الشهادة حاولت أن ارصد بعض مما جرى، ومن خلال زاوية محددة : الأطفال الأكراد. لم اكتب فقط ما رأيت، وما سجلت في دفاتري، فشهادتي وشهادة الآلاف من الرجال والنساء، المقاتلين والطلاب والفلاحين لن تجسد الحقائق المروعة اكثر من شهادات الأطفال أنفسهم الممهورة بالصدق والبراءة والرعب، حملت أوراقي وتوجهت للأطفال وسجلت شهاداتهم مباشرة. في الحلقة رقم 1 نشرت جزءا من مقدمة الكتاب ليكون القارئ في صورة الاحداث، وفي هذه الحلقات المتتابعة اورد بعض القصص ـ الشهادات التي ضمها الكتاب. *** من أوراق مخيم اللاجئين في قرية زيوة الإيرانية 28/11/1988 اعرفها، اعرفها جيدا، سبق لها أن زارت مواقع المقاتلين الأنصار في كوردستان، التقيناها هناك، وكنا ايامها وخوفا ان يكون ظهور صورنا سببا لهلاك عوائلنا نتهرب من عدسة كاميرتها الشرهة. صحفية فرنسية، لن أصفها هنا كثيرا فهي في كل حال تبدو جميلة وأنيقة قياسا بوضع الجميع في المخيم ألان. تلك الأيام في الجبل لم نتعود على اسمها الطويل فأطلقنا عليها وللسهولة وارتباطا بحكايات ومغامرات رفيق لنا من الأنصار ترك دراسته في أوربا والتحق بصفوف الأنصار، سميناها : لويزا ! هاهي " لويزا "، ذاتها، مثقلة بكاميراتها ودفاترها تقطع دروب المخيم البائس جيئة وذهابا. وهاهي عثرت على لقطة تستطيع أن تنشرها في المجلات والصحف التي حولت الشعب الكوردي إلى فرجة، ولم يقبض سوى الكلام والوعود. اللقطة لطفل كوردي بأسمال بالية، يمتطي بقايا هيكل دراجة هوائية، لا أحد يعرف كيف عثر عليها، ويحمل بيده عصا طويلة. انه رسم كاريكاتيري لفارس مغدور يا مدام لويزا ! *** لماذا بت أرى لعدسات التصوير، التي تتكاثر هنا، استدارة رغيف خبز يفتقده أطفالنا في هذا المخيم ـ الفرجة ؟
10/12/1988 رغم البرد، كان صباح المخيم مشمسا، دفع بجميع سكان المخيم للجلوس عند باب خيمهم، أو التجول هنا وهناك. المخيم يمور بالحركة، صراخ الأطفال وهم يتقافزون بين الممرات الموحلة، بين صفوف الخيم، النساء ينشرن الملابس ويتحسرن على أيام النظافة في الأيام الخوالي في قراهن التي طردهم منها الديكتاتور، وحرمهن من ماء العيون العذبة، الشيوخ يثرثرون وهم يواصلون لف السجائر بتبغ رخيص مغشوش، الفتيات ينقلن الماء من البئر، الفتيان وهم يفتعلون المرور أمام خيم فتيات معينات، و... فجأة، وبشكل مفاجئ، وكأن السماء انشقت عنها، وبشكل منخفض، حامت في سماء المخيم، طائرة مروحية إيرانية، يبدو أن طيارها كان يريد استعراض قدراته لا اكثر. هل يمكن للكلمات أن توصف الذي حدث في أرجاء المخيم ؟ هل يمكن بالكلمات اقتناص الرعب الذي حل بالأطفال لرؤيتهم الطائرة تنقض على سماء المخيم؟ صراخ وعويل هستيري، ضج في كل أرجاء المخيم، رعب لا مثيل له حل بكل طفل، ودفع هذا بكل رجل وامرأة، وبخبرة سايكلوجية اكتسبت بالمران، واساسا من مشاهد الرعب المتكرر، اندفع كل رجل وامرأة لأقرب طفل لاحتضانه وتهدئته. ظن الأطفال أنها طائرة عراقية !
14/12/1988 يوم أخر يمر بطيئا، قاسيا، مملا، مزدحما بالبرد والحرمان والجوع والوحشة. صباح هذا اليوم، وحيث يقطن عدة آلاف من اللاجئين، صحا المخيم على لون جديد للطبيعة، هو لون أول الثلج الذي هطل طوال الليلة الماضية ! سيارة حكومية إيرانية، من سيارات لجنة المخيم، تمرق سريعا، في " الشارع " الضيق، الموحل بين صفوف الخيم، التي تهدم بعضها ليلا تحت ثقل الثلج ـ خيمتنا صمدت بقدرة الهية ـ تقف السيارة عند أحد الخيم. ينتبه الكثير لامرأة تنحب ورجل واجم إلى جانبها، يتساءل البعض : ـ ما الخبر ؟ وأكرر السؤال بنفسي، فتجيبني نازدار، جارتنا، وهي تحتظن طفلها بحركة لا إرادية : ـ ماتت ابنتهم ! واشهق مصعوقا : ـ (جيمه ن) ؟ تجيب، جارتي وهي تشد طفلها إلى صدرها اكثر : ـ نعم، جيمه ن ! تتداعى لي صورة جيمه ن. قامتها النحيفة، لون عينيها، ضحكتها، وشعرها،... واذكر تلك الليلة التي ظهر فيها عند باب خيمتنا قمر صغير تكلله ضفائر من ذهب وتلتمع على صفحتيه لوزتان تعلوان مشمشة صغيرة ! تلك اللحظة انطفأت في روحي شمعة ! آأأأأأه ! 15/1/1989 مكي ! شقي وملعون، وتعس ! رغم أعوامه الغضة العشرة، إلا أن وجهه قاس، حمل أثارا لجروح قديمة وحديثة ! عيناه ملونتان، تدوران سريعا، بشكل لا تستطيع أن تحزر أين تستقران، أما يده فسريعة في نهش ما عند الأطفال الاخرين، وكيل الصفعات لهم ! بشكل ما مددت معه جسور الألفة، وصرنا أصدقاء بسرعة، وصار بعض الأطفال يشكونه عندي. نهارا... له المخيم مرتع لهو وشقاوة. مساءا... يدور بين الخيم، كسيرا، يبحث عن عيون يفتقدها. كل غروب، حين تنادي كل أم طفلها، ينكمش مكي، تهرب منه كل شياطين الشقاوة، يتحول إلى كتلة هلامية من الحزن والوحشة والانكسار والدعة. في زياراته لي حدثني عن عبور نهر الشين، عن الطائرات والجند ومطر الرصاص الذي خطف عيون من يحب. قال : ـ أنا وأختي الصغيرة بديعة، فقط الذين نجونا عند عبور نهر الشين، بقية عائلتنا، ستة أفراد، أما موتى أو أسرى عند صدام حسين. وقال : ـ حاليا نسكن مع أحد العوائل من قريتنا، ناس طيبين. حين كان يحدثني لأول مرة، بحرقة ولوعة، احتبست دمعة على طرف جفني، غالبتها، لم أشأ أن يراها، حاصرتها، وجاهدت حتى غادرني، حينها هاجمتني مشاعر أخرى، خليط من الغضب والاحتراق. جففت دموعي. مكي أني مدين لك بالكثير.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |