|
متى يبدأ التحديث والتغيير الحضاري؟ د. سّيار الجميل ثمة أسئلة خطيرة طرحتها في مقال لي نشر في صحف عدة يوم 18 نوفمبر 2002 بعنوان : " حقيقة مشروع " تغيير العالم " : متى يفهمها العرب دولا ومجتمعات ؟ " ، واعيد اليوم اثارتها من جديد نظرا لما شهدته وتشهده منطقتنا من الاحتقانات والاحتلالات والمتغيرات العنيفة والانتكاسات المريرة التي تصيب بنيتنا الفكرية وشرائحنا الاجتماعية وفئاتنا السياسية وكل القوى السلطوية في دول المنطقة.. وهل ستبقى الافكار عن " الاصلاح والتغيير " غير مدركة ولا يتم الوعي بها على درجة من اللقانة والنضوج ؟ هل سيبقى الناس يعتقدون بأن التغيير هو مجرد انقلاب عسكري او احتلال اجنبي او رجس من عمل الشيطان فيجتنبوه ؟ انها اسئلة لابد أن يسألها عدد كبير من معشر المثقفين الذين ربما اختلفوا في رؤاهم عن معاشر السياسيين حيال ما يخبئه المستقبل لهذه المنطقة التي لم تؤسس حتى يومنا هذا طريقها نحو المستقبل ، لا على مستوى المبادئ والدساتير ، ولا على مستوى المؤسسات والمجتمعات ، ولا مستوى التفكير وتنمية الذهنيات ! ثمة أسئلة تنتظر أجوبة وافية عليها من دون أي التواءات ولا أي تبريرات ولا إيجاد أي منافذ للهروب ، خصوصا ، وأننا نعيش في عصر تتسابق فيه المصالح الدولية وتتزايد فيه التحديات العولمية وتتنافر فيه البشاعات وتختلط فيه الرؤى ، وتتباين فيه الاتجاهات وتزّيف فيه المعلومات من خلال الإعلاميات الإلكترونية والميدية المتنوعة والأجهزة الخفية المتسّعة والمضادة !
الى متى تبقى " الامة في احلك ظروفها " ؟ لقد كنت ولم أزل اسمع -على امتداد حياتي - عبارة مهمة وخطيرة تقول بأن " امتنا تمر في أحلك ظروفها " إذ لاكتها الالسن لعدة أجيال مّنا سواء كانت تتضمنها خطب الأجداد قبل قرن من الزمن ، أو في كتابات الآباء قبل نصف قرن منه، أو في أقوال الرصفاء قبل ربع قرن ! وها نحن اجتزنا الزمن وتخضرمنا بين قرنين اثنين ، ولما نزل نسمع ونردد " العبارة " نفسها ! وستبقى الأجيال القادمة ترددها نفسها وتلوكها وكأنها غدت مستهلكة لا قيمة لها أبدا ، هي والمصطلحات التي ترافقها ، مثل : المخاطر والتحديات والأزمات والمشكلات والمعضلات.. الخ إنها وايم الله كلها صحيحة ما دامت المنطقة التي تحتل قلب العالم تعيش حالة غريبة من التناقضات.. وان ابناءها وابناء عالم الجنوب والعالم الاسلامي كله لم يستجيبوا حتى يومنا هذا لتلك التحديات بتأسيسهم تاريخ من نوع جديد ، ولم يعيدوا منهج العقل وتنمية التفكير معا.. كما وانهم لم يجدوا لهم حتى اليوم علاجات جذرية واقية وحدود دنيا من الحلول العملية التي ربما يعرفها الجميع ويتداولها أولئك الذين يفكرون بالمصير التاريخي الذي ينتظرنا جميعا ! ان عملية الاستجداء الحضاري عن عالم الشمال من جانب وعملية النفخ في قربة مقطوعة سوف لن تنفع عالم الجنوب ابدا ما دام سيبقى رهين التقوقع والتمزق امام قوى التكتلات الجبارة التي باستطاعتها ان تسحقنا كل يوم من كل النواحي. ان أي مشروع استراتيجي دفاعي ينبغي ان يكون ملكا لكل المنطقة لا ان يكون حكرا على دولة واحدة ليس لها الا التهديد وتصدير الكراهية وبث الفرقة.. ان المصالح العليا لكل منطقتنا ينبغي ان تكون في سلة واحدة بعيدا عن المنازعات والمناورات واساليب الثارات والمطامع والاستحواذ على الثروات.
انتحار الارادات واعادة إنتاج المستهلكات ربما يقول البعض بأن الأسئلة معروفة لا حاجة إلى أن نكررها مرات ومرات ! وربما يتنادى الجميع بأن الحلول جاهزة لا حاجة للعرب ولمن يشاركهم المصير في هذه المنطقة.. او مع أولئك الذين يعايشونهم في المنطقة بأن يطرحوا البدائل ! ولكن دعوني أتوقف عند هامش صغير ومتواضع لابد من التفكير فيه خصوصا وان البعض يطمح اليوم أن تتلاقى كل الاتجاهات والتيارات مع بعضها البعض من دون رصد مسبق كي تنبثق إرادة حضارية جديدة كتلك الإرادة الوطنية والقومية التي شهدت بتاريخها الحافل جملة من الأحداث التاريخية المريرة طوال عقود القرن العشرين بكل انتصاراتها وهزائمها ، بل وكانت منطلقا للعديد من الحركات الفكرية والسياسية الساخنة ، وكانت مواطنها بؤرا راسخة لعدد لا يحصى من التجمعات والمنتديات والأحزاب السياسية والنخب الثقافية سواء الليبرالية أم الراديكالية والتي لم تنجح ويا للأسف إلا في ترسيخ الحكومات العسكرية والأنظمة الشمولية والدكتاتوريات المنغلقة تحت مسميات وشعارات لا أول لها ولا آخر..
الاهتراء يصيب كل المنطقة : هكذا كان لدى العرب دولا ومجتمعات اكثر من مشروع مستلب من الاخر ، فكان عرضة للتهلكة بسبب قبوله نحر الارادات العملية والإنتاجية والإبداعية ومستعد دوما لاعادة إنتاج المستهلكات وبقايا المورثات العقيمة التي لا نفع فيها اليوم مطلقا كما يحدث اليوم في مجتمعات عربية واسلامية والتي كان لابد لها من عمليات جراحية تحديثية واصلاحية على غرار البيروسترويكا والغلاسنوست ( = الانفتاح والشفافية واعادة الإصلاح ) ! كان على الحكومات في كل منطقتنا أن تدرك سرعة التحولات وقوتها في العالم كله. كان عليها أن تفعل شيئا ما بخصوص ممارسة أية أنواع من التغييرات من اجل ما حصل في العالم أجمع وفي كل الاتجاهات ولكن ذلك لم يحدث - مع الأسف - ، بل حصل العكس وساد تكريس للسلطة وتوزيع للادوار واستشراء التطرف وتكريس التجزئة ومحاربة الديمقراطية وانتهاك حقوق الإنسان وتخصيب النزعة الما ورائية والإنشائيات الإعلامية والخطابات الفضفاضة الفارغة.. بل ووصلت الاوضاع الكلية في بلدان عربية معينة الى حالات جدّ مرعبة من الشظف والفاقة والتشرد والتهرؤ والتفكك والتردي وهي التي يعاني منها سكان اغلب البلدان العربية.. ومن دون أي محاولة للاصلاح الذي كان ولما يزل ينادي به البعض من المفكرين العرب المتنورين على الساحة منذ اكثر من عشر سنوات ! لابد أن نلقي بعدة تساؤلات مهمة في سياق الطرح في أعلاه :
دور المؤسسات المدنية والاهلية وعليه ، هل تقبل حكوماتنا كلها بأي دور للمؤسسات المدنية والأهلية لكي تفعل ما تريد في إطار القانون ؟ اعتقد إن الوقت قد فات اليوم ، إذ غدت التدخلات الخارجية ( والأمريكية خصوصا ) سافرة بحيث لا يمكن لأي حكومة في العالم اليوم إلا ورعاية مصالحها الحيوية إزاء هذا القادم الجديد الذي افتتح القرن الواحد والعشرين بكل قوة واندفاع وشراسة ، ومن المحزن جدا أن هناك من نبّه إلى مثل هذه التحديات قبل حلولها ومنذ سنوات خلت ومن بين صفوتنا العربية والاسلامية المفكرة.. ولكن يا للأسف الشديد لم تلتفت الحكومات العربية ولا مجتمعاتنا إليهم وإيجاد حلول عملية ونوعية للحياة المشتركة ، ففات القطار سريعا على الجميع وعبر ولن يتوقف عند جميع المحطات وبسواقه وبكل من فيه من الركاب.. فأين سيصطدم.. الله وحده يعلم !
تاريخ جديد للعالم سيبدأ العام 2009 ! كل هذا وذاك يعلمنا بما لا يقبل مجالا للشك أن تاريخا جديدا قد بدأ وسيبدأ فعلا – في نظري- عام 2009 أي اثر الاقتراب من نهاية العقد الأول من هذا القرن الجديد إذ سنلحظ اختلافا مباشرا عما ألفناه في القرن العشرين من التجارب والأحداث والتفاعلات والآثار.. إنني أجد بأن إرادة الدولة غدت أقوى بكثير من تطلعات المجتمع الذي لم يزل يعتقد بأن صوته له تأثيره وفاعلياته في الحياة السياسية ، وهو على خطأ كبير في التقدير وخصوصا بعد مرور القرن العشرين الذي عاش مختلف البدائل التاريخية بولادة وظهور وقوة وموت العديد من الأيديولوجيات والعقائد السياسية التي كنستها اليوم عمليات ما اسمي بـ " تغيير العالم ". وحتى ان بقيت بقايا وترسبات تلك الايديولوجيات ، فانها قد اختلفت عن ينابيعها الاولى وتطلعات اصحابها قبل خمسين سنة.. إذ غدا هذا " المشروع " هو المهيمن على هذا العالم لا يسمع فيه إلا صوته ولا يعمل إلا من خلال ما يفرضه على الآخرين من التوجهات والأساليب والمناهج والخطط والعمليات.
سطوة التاريخ وسقوط المستقبل إنني ادع نفسي كل يوم لوحدها قليلا ليس من اجل مناجاة السماء روحيا فقط ، بل من اجل التفكير في الأرض ومصيرها تاريخيا ! أفكر قليلا لأدع قرائي الأعزاء يفكرون مليا خصوصا عندما نسترجع ما كنا قد تربينا عليه نحن في القرن العشرين من القيم والثوابت والمبادئ والأصول.. أفكر اليوم كم أصبحت كلها هشة قابلة للانكسار والتفتت في أية لحظة من زمن جائر وعلى أيدينا انفسنا ! كيف كانت فكرة الوطن والسيادة وعلم البلاد والنشيد الوطني وجيش البلاد وحرمة الشبر من الأرض والمقدسات والشهادة والجيرة والتعايش والضمير ومصطلحات كالمجد والماضي التليد والزحف المقدس وتحرير الوطن من الغاصب الخ.. اذكر معلمنا كيف كان يقول والوردة البيضاء معلقة على صدره : الوطن كالثوب الأبيض الناصع علينا أن نحافظ على نظافته كيلا تصبه أي بقعة حمراء أو لطخة سوداء لا يمكن أن تمحى عنه أبدا ، فنكون قد سجلنا نقطة مشوهة في تاريخنا أمام كل العالم وستحاسبنا الأجيال على ذلك ! كنا نسأله ويجيبنا ونحن من اليافعين كيف نحافظ على أسوار الوطن وأسراره من العاديات ؟ وكيف نكون أذكياء ويقظين ومنتبهين ، فلابد أن نختبئ قليلا عندما تهب علينا العواصف الهوجاء.. وعلينا أن نتحاشى شراسة الخناجر والسكاكين كيلا نتضرج بدمائنا ونفتقد هيبتنا في العالمين !
مشروع التجديد والتغيير لا يقترن بأي مشروع امريكي وأخيرا ، متى يدرك زعماؤنا بأن مشروع تغيير العالم لا يمكنهم أبدا مناطحته ومقاومته بمثل أوضاعهم المفككة الراهنة ، فلابد من الشروع بمشروعات تغيير وتحولات في تكويناتهم وبنيوياتهم وأفكارهم وأنشطتهم ومؤسساتهم وأجهزتهم.. ولينظروا إلى ما يجري في كل العالم من تغييرات ، وآخرها ما حدث قبل أيام في الصين من تحولات جوهرية ! وعلى كل انسان واع ومدرك لاتون الحاضر ومخاطر المستقبل ان يتوقف عن الردح ليعالج الامر بمنتهى الحكمة والصبر واحترام الرأي الاخر.. لقد شهدنا منذ خمس سنوات واكثر بأن كل من يدلي بفكرة الاصلاح يتهم انه يمالئ امريكا وخططها في المنطقة.. وانني اعرف بعض الاخوة من المفكرين العرب من يحجم الان على طرح موضوع الاصلاح كيلا يتهم انه مشروع امريكا في المنطقة.. ان مصيبتنا لم تزل رهينة بايدي المتخلفين والمتعصبين لافكارهم الجامدة وتقاليدهم القديمة التي تجاوزها الزمن وما زالوا يتعبدون في اروقتها ليل نهار.. والاهم هنا التأكيد على تساؤل يقول : متى سينفصل في الذهن العربي والاسلامي اقتران مشروع الاصلاح والتجديد والتغيير بأي مشروع امريكي او غربي ؟ ان الخروج من سجن هذه الفكرة المقيتة ستحرر الانسان وستطلقه كي يتعامل مع كل العالم ويتعلم من كل تجارب العالم لبناء المستقبل بمعزل عن فكرة الهيمنة وبمعزل عن فكرة أي مشروع امريكي او غير امريكي.
وأخيرا : ما القول.. ما العمل ؟ وهنا ماذا يمكنني قوله في نهاية المطاف ؟
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |