هل هي قصة لحم مكشوف، أم فكر مكشوف؟

نضال نعيسة / لندن

sami3x2000@yahoo.com

افتقار للحس السليم، واحترام الآخرين، وضعف بالثقافة العامة، وجهل تام بتأويل الكلام والمضامين، هذه هي العناوين العريضة لتصريحات مفتي أستراليا، التي ازدرى فيها الكرامة البشرية، بشقيها الأنثوي، والذكري، وأتت من واقع ما يفكر به، ويوسوس به، وما يراه بالمرأة، عموماً، من كتلة لحم لإفراغ الشحنات الجنسية والكبت الأزلي الذي تحفل به مجتمعات الذكورة، والفحولة. ولم تكن شيئاً جديداً ولا غريباً، على هذا النمط من التفكير الذي نسمعه، وألفناه في مجتمعاتنا، ولو أتى بتصريحات أكثر تطرفاً، ولا معقولية من هذه لما كانت تعني شيئاً للكثيرين.
والجنس في النهاية وظيفة عضوية، وغريزة متأصلة في النفس البشرية، كالجوع، والعطش، والتنفس. فلم تحاط بكل هذه التابوهات، والمحظورات، والمتاريس؟ ولو عدنا لقصة الجنس، والمرأة، لوجدناها من ضمن الرفاهية التي احتكرتها القوى الاجتماعية المالكة لوسائل الانتاج، والمتسلطة على الطبقات الأضعف، والأشد فقراً، والتي كانت تتعرض لشتى أنواع الاستغلال. وكانت المرأة، ذات زمن، سلعة تباع وتشرى. وبسبب من قوة تلك الطبقات المسيطرة، ومن خوف الحركات الإصلاحية، والدينية منها، وإرضاء، واستمالة لها، فلم تسع لتحرير المرأة كلياً. ومن هنا، وللأسف، فقد استمرت في بعض المجتمعات المغلقة، تلك النظرة الدونية للمرأة، كسلعة، ومصدر للمتعة، وظل احتكارها قائماً لليوم، ومتاحاً للأقوى، ولمن يدفع أكثر. ولذا لا نستغرب غلاء المهور في تلك المجتمعات الذكورية المطلقة، وبالتالي، ارتفاع نسب العنوسة والطلاق، وتلك قصة أخرى، سنأتي على ذكرها لاحقاً..
وفي الحقيقة، وإذا نظرنا للأمر من وجهة نظر واقعية، فإن الأمر برمته لم يكن ليستأهل ردّات الفعل المختلفة التي صاحبته. إلا أنها تحمل مضموناً إيجابياً واحداً، وهو المزيد من التعرية لهذا الفكر الذي لم يبق عليه غطاء ولا ستر، وتكريساً عملياً للصورة التي ارتسمت في الغرب عن هذه المجتمعات المخدرة بالغيب، والسحر، والخرافات، والأقدار والأساطير. وصارت هذه التصريحات ومثيلاتها تحصيل حاصل، وتنبع كلها، وتصب، في خانة هذا التراث المشرّف، العظيم، ولا تحتاج لتأويل، وتفسير، وتوضيح.
ومن وجهة نظر إعلامية، وعملية إخبارية، بحتة، لا تشكل تصريحات مفتي أستراليا، أية مادة إعلامية، أو إخبارية يعتد بها، ويمكن للناس أن تهتم بها على أنها حادث طارئ، وجديد، وواقع للمرة الأولى. فطبقاً للقاعدة الإعلامية الشهيرة التي تقول ليس هناك من أية إثارة خبرية فيما لو عض الكلب رجلاً، أما قمة الإثارة الإخبارية فهي على النقيض، وحين يعض الرجل كلباً. وبنفس الإسقاط المنطقي، والعقلاني، لو دعا مفتي أستراليا وغيره للتسامح، والمحبة، ونبذ العنف، وتحريم القتل، والتكفير لكان وقف الجميع مشدوهاً، ولو قال مثلاً، إن الحرية الشخصية مصانة، ولكل إنسان، امرأة، كان أو رجلاً، الحق فيما يلبسه، ويرتديه، ويعتنقه، ومن يعتدي على هذه الحرية الشخصية فهو معتد أثيم، لكان شكل ذلك خبراً إعلاميا مثيراً، وجديراً بالمتابعة، والدراسة، والاهتمام. أما حين يجتر الفقهاء، والدعاة، والوعّاظ، أفكارهم المعروفة، والمكشوفة، التي أكل عليها الزمن، وشرب، يستبيحون من خلالها حياة الناس، يحللون، ويحرمون، ويفتون بالقتل والموت، وتكفير الناس، فهذا، والحق يقال، لم يعد يحتمل على أية إثارة. فهذا النوع من الفكر الماضوي، البائد المنقرض، العدواني، الغارق في سوداويته، وتخلفه، واحتقاره للجنس البشري، بات معروفاً للجميع، وليس من حاجة للمفتى الاسترالي، "مصري" الجنسية، أو غيره، للتأكيد عليه، أو ترديده. فصار معلوماً لسكان المعمورة بفعل قنوات التحريض، والحقن الطائفي المريض الذي أخذت على عاتقها مهمة تسويقه.
وبرغم أن هذا الرجل هارب من جحيم نظامه القهري الشمولي، وأخذ جنسية هذه البلد التي تحميه من المخبرين والبوليس السري في بلاده، ويعيش في كنف هذا البلد الإنساني العظيم، والذي فتح ذراعيه للملايين الهاربين من جحيم الاستبداد والطغيان المتأصل في شرقنا التعيس، فكل هذا لم يردعه عن سفح ماء وجهه، وإيصال رسائله الظلامية، أمام تلك الشعوب الراقية، والإفصاح عما في نفسه من فكر بائس أصفر غريب، في تلك البلاد التي آوته من جوع، وأمنته من خوف. كما أن كل ذاك التقدم، والرقي، والحضارة، والتسامح الإنساني، لم يؤثر في نفسيته، وعقله المشوه، ولم يحرك فيه إلا نوازع الشر الشيطانية وسوء الطوية، وموروثات الآفات الاجتماعية، والجنسية الشاذة، في مجتمعه، الذي فرّ منه، من بطش أبناء جلدته، تحت جنح الظلام، محملاً بقوارب المهربين.
هذا هو فكرهم، وهذا هو ديدنهم، الذي لا يحيدون عنه، وهذه هي عقولهم التي لا يؤثر فيها علم، أو حضارة، وتطوير، ولا تدخلها أقوى الصواريخ الفكرية، والاختراعات الحديثة، والتقدم العلمي الهائل الذي صنعه العقل البشري السوي، غير الشاذ، المتحرر من الأوهام، والخرافات، والخزعبلات، والزعبرات، والخرابيط.
هل رأيتم أسترالياً يحتج، ويقتحم سفارة إسلامية؟ أو يحرق علماً لدولة عربية؟ أو يكفـّر العرب والمسلمين؟ ويدعو عليهم بالموت أثناء الصلوات، والكنائس، والقدّاسات؟ أو دعا لطرد العرب المسلمين من أستراليا؟ وهل سمع أحدكم عن مظاهرة قام بها غوغاء أوروبا، ودهماؤها وهم ينقضون بلاوعي، وجنون منفلت على المنشآت التي تعود للمسلمين، ويحرقونها هنا وهناك؟ وهل سمعتم أن استدعى الاتحاد الأوروبي السفراء المسلمين، وطلب اعتذاراً عن هذه الإساءة البالغة لآدمية الإنسان، التي جاء في القرآن أن الله خلقها على أحسن تقويم، ولم تكن يوماً مجرد فطايس، ولحوماً سائبة مكشوفة للغربان، والكواسر، والعقبان، والذئاب، والخنازير تستثير، فقط، الغرائز الحيوانية في نفوس الآدميين.
بل على العكس تمت الدعوة لتشكيل فريق من المحامين في حال اللجوء للقضاء لمقاضاته أمام قضاء عادل على هذه التخاريف، كما تم تشكيل لجنة مختصة لدراسة حالته النفسية، والأسباب، والخلفية النفسية الكامنة وراء إطلاقه مثل هذه التصريحات.
المرأة ذاك الكائن البريء والجميل ليست مجرد موضوع جنسي يقضي الذئب البشري منها وطره، ويرميها على قارعة الطريق. إنها أم، وأخت، وزوجة، وابنة، ورفيقة درب طويل، وكائن إنساني رقيق. كما أن الرجل، في الآن ذاته، ليس وحشاً، متحفزاً، ومستعداً، في أية لحظة ليفترس أي امرأة تظهر أمامه، إنه أب، وأخ، وزوج مخلص، وابن بار، وعاشق صب رقيق، وكائن شهم مقدام أمين. وقانون الحياة، وناموس الطبيعة، تختلف كثيراً عن هذه الرؤية المريضة القاصرة التي يحملها، ويعبر عنها هذا الفكر المريض.
إنها نعوة، وإعلان وفاة لهذا الفكر المفضوح العليل، والسلوك المريض الذي أصبح في ورطة، تحتاج لأكثر من اعتذار، واستقالة، أو تقديم أي تبرير.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com