خطوط التصدّع تصيب حياتنا العربية!!

 د. سّيار الجميل

لقد بتنا ننتظر طويلا نصا مبتكرا وروحا جديدة ووعيا معاصرا واصولا رائعة تسديها إلينا الحياة العربية التي نجد أنفسنا مكبلين في خضمها ونحن في بدايات زمن جديد.. ومن المؤلم حقّا انك تجد المجتمعات الحيوية تسعى جميعا، كلّ بطريقتها، من اجل إثراء حياتها، وإخصاب إبداعها، وتطوير إمكاناتها، وتقويم أخطائها.. ونحن ومن معنا نقف مذهولين جدا إزاءها، بل وأنها اختزلت الزمن وأدخلت التكنولوجيا والالكترونيات كل الميادين، وان ثورة المعلومات والإعلاميات لم تعد حكرا على أناس دون آخرين، وان الثورة العلمية في الجينات والأمراض والأدوية والجراحة فاقت كل التصورات.. المشكلة، إننا لا نفكّر طويلا في كل هذا التسارع التاريخي الهائل الذي تضبطه المجتمعات المنتجة التي أخذت ترصد جملة من المشكلات الكبرى للطبيعة والإنسان والبيئة والغلاف الجوي للأرض ومجريات الكون، علما بأن العرب وشعوبا غيرهم تشاركهم محيطهم أذكياء وليسوا بقاصرين أبدا عن اللحاق بحياة العصر، ولكن ثمّة أسباب تحول دون انطلاقهم وتشكيل مكانتهم العالمية.
 من هنا نتساءل : لماذا أصيبت حياتنا بجملة صاعقة من خطوط التصدّع ؟ لماذا اخفق العرب في مشروعاتهم التي أسموها بالنهضوية والثورية والحضارية ؟ إن علامات حياتنا المتأخرة تتمثل ببطء ولادة الأفكار وتأسيسها في إطارها، بل وسرعة اختفائها بسبب فوضى التناقضات والاستلابات التي تعم كل أساليبها وممارساتها. إن العرب لم يتوقفوا البتة في استخدامهم آخر مستحدثات تكنولوجيات العصر، ولكنهم يحاربون كل الايجابيات الصادرة عن العقل والفكر، بل وان الكسل التاريخي قد فرض نفسه فرضا على الملايين من الناس !
 لقد ولدت ابرز خطوط التصدّع جنبا إلى جنب أساليب البناء، ولكن تلك الخطوط كانت وستبقى دهرا طويلا أقوى من كل البنيويات، فالإنسان عندنا متعلقّ بتلابيبها.. وما دام يخلط بين المعاني والأشياء ويقحم القيم السامية في مشكلات العصر الراهنة، فسيبقى يقترف بحق نفسه ومجتمعاته خطايا لا تعد ولا تحصى ! إن المشكلة هنا ذهنية وسايكلوجية وتربوية قبل أن تكون اجتماعية أو سياسية.. إنها مشكلة ذاتية تتمثّل بسوء تعامل مفجع مع متغيرات متداخلة لا حدود لها مع توالي الأيام ! إن حراك العرب الفكري اليوم لا يستوي وعظمة المواريث القيمية والحضارية التي تمتلكها مجتمعاتنا، والتي تفتخر دوما بأدوارها الناصعة في تاريخ البشرية، ولكن التصدعّات القوية أصابت كل ثقافتنا وأفكارنا ومناهجنا ( حتى التقليدية منها ).. وبات كل المبدعين ندرة وسط موجات خليط اجتماعي بائس ومتوحش لا يعرف كيف يقرأ، ولا كيف يكتب ولا كيف يفكّر ولا كيف ينتج، ولا كيف يغتنم الفرص السانحة، ولا كيف يثمّن الزمن، ولا كيف يستعذب الكلمة، ولا كيف يؤصل الأشياء، ولا كيف يدقق المعاني.. مما يسّبب شقاء الوعي للنهضويين الحقيقيين. لقد عّم التأخر والتخّلف الحياة العربية وطغت المشكلات، وعمّ فيها أشباه المثقفين، وامتهن الطفيليون أغلب مرافقها، فأخذت مكوناتها تضمحل شيئا فشيئا.
 لقد شهدت الحياة العربية ثلاثة أجيال في القرن العشرين، إذ كان هناك جيل ما بين الحربين العظميين 1919 – 1949 الذي اتسمت نخبه بالبحث عن الحرية والاستقلال الوطني والبناء الفكري ولكنه سحق ولم تقم له قائمة على يد جيل ما بعد الحرب الثانية 1949 – 1979 الذي تبلور عن ثقافة راديكالية إيديولوجية ثورية تعجّ بتيارات قومية وماركسية أخفقت في مهامها وأهدافها، مّما ولّد جيل لما بعد 1979 الذي سيقفل حياته في العام 2009 والذي يتمّثل بأحزابه وجماعاته وتياراته الدينية المتشدّدة والتي وصل بعضها السلطة اليوم. واعتقد اعتقادا جازما بأن المثقف الحقيقي هو الذي غاب تماما ولم يعد يجيد اللعب بمهارة فائقة وسط تيه من التناقضات الاجتماعية والانسحاقات السياسية والانغلاقات الفكرية !
 إنني اعتقد بأن خطوط التصدّع ستبقى تكتنف حياتنا لثلاثين سنة قادمة، وستواجه مجتمعاتنا تحديات خطيرة جدا، فالصراعات الداخلية ستزداد كثيرا وستتقوقع المحليات على نفسها، وستتضخم المشكلات اليومية وخصوصا في المجتمعات المكتظة بالسكان.. وستضمحل الثقافة أكثر وسط تهريجات إعلامية وانحرافات تربوية وضحالة علمية.. وستنزلق بعض مجتمعاتنا في صراعات داخلية وتسوء الخدمات فيها، كما ستضعف الارادة بالاستجابة إلى التحديات الصعبة.
 إنني أدعو ليس إلى معالجات سياسية أو انقلابات عسكرية بل إلى الوعي بالمشكلات، وينبغي تنظيم برامج ومشروعات للحياة والاعتراف بالحقائق والابتعاد عن الأوهام والشعارات، وإيجاد حلول واقعية.. إن معرفة خطوط التصدّع بين الداخل والخارج سيمكننا من التفكير نحو الأفضل.. إن توحش السلطة الاجتماعية وفجاجة القوى السياسية ستبقي حياتنا مكبلة بالأغلال عن كل ما يفكّر به الإنسان السويّ.. إن تأسيس مشروعات تربوية وثقافية وإعلامية متمدنة ستعمل على تنمية التفكير وتأسيس الوعي بالعقل لكل انسان قبل غليان العواطف والهيجان في الشوارع. إن الضرورة تقتضي تأسيس مشروعات كبرى من اجل إعادة تسهيل القراءة والالتزام، وإصلاح المناهج وفهم الآخر، والإحساس بالمسؤولية، وتثمين الزمن، وتعلم لغات حيوية، وتنظيم العمل، والوفاء للمؤسسة، والمنافسة الشريفة، والدقة المتناهية، ومكافأة المبدعين، والاستفادة من الآخر، والوعي بقيمة الإنتاج، ونظافة العلاقات العامة، وبث الإعلامية السامية، وتربية جيل عالي الثقافة، والحوار مع العالم، واستخدام أساليب طيبة، وإيقاف هجرة الكفاءات، واحترام الرأي الآخر.. كلها وسائل تخلص العرب ليس من خطوط التصدّع حسب، بل من كل الأدران التي تجتاحهم منذ زمن طويل. فهل ستسطع شمسنا على العالم ؟ نعم، ولكن بعد ليل طويل جدا !!

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com