المرجع المظلوم

الحاج غفار العراقي

gaffar_1370@yahoo.com

قد تكون الكتابة عن هذا الإنسان العظيم صعبة للغاية وذلك لما يحمله من فكر وعبقرية وإيمان لا زلنا نتهجى حروفها ولم نفهم إلا القليل القليل منها ، إلا ان ما يدفعنا للكتابة هي الأسباب نفسها ، فهذه العظمة وهذه العبقرية لا يجب أن تمحى من الذاكرة ولا يجب ان تكون مرحلية بل يجب أن تكون نبراسا يقتدى به خصوصا للأجيال الحالية والأجيال اللاحقة والتي سوف تكون أكثر فهما له واشد إتباعا لنهجه الوضّاء ، فبمقارنة بسيطة بين جيلنا الحاضر والجيل الذي واكب الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) يمكننا أن نستدل على هذه الأطروحة فكلنا نعرف أن هذا الثائر العظيم و في نهضته الكبرى لم يكن معه إلا ثلة ممن فهموا غاياته وعرفوا مقاصده فاتبعوه ولم يناوؤه. وان الأغلبية في ذلك الزمان كانوا بين عبد للدنيا الفانية وبين خائف من السلطة الطاغوتية المتمثلة بيزيد بن معاوية بن أبي سفيان وهو الذي كان خليفة للمسلمين آنذاك . واختار هؤلاء الخائفون والدنيويون جانب يزيد وتركوا الحسين (ع) هو والثلة القليلة من أصحابه وأهل بيته يواجهون الجيوش الجرارة والسلطة الجائرة وحدهم رغم النداءات الكثيرة والخطب المتكررة التي وجهها إليهم الحسين(ع) بالعودة إلى الله والعودة إلى الدين الإسلامي الحنيف الذي يدّعون الانتساب إليه ولكن وكما قال الشاعر :

أسمعت لو ناديت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي

فقد أعمى بصائرهم الطمع بالجوائز وأصبح الخوف من الطاغية مسيطرا على تفكيرهم. ولكن وبعد ان فقدوا هذا الرجل العظيم وبعد ان عرفوا أنهم فرطوا بمن كان ملاذهم ومنقذهم من جور السلطة الدكتاتورية أصبح الإمام الحسين (ع) رمزا للتحرر والثورة على الظالمين ، وجيلا بعد جيل ازداد حب الحسين وازداد التمسّك والاقتداء بنهجه وازدادت الجموع المطالبة بالثأر لدمائه الطاهرة .

وما حدث للحسين (ع) ينطبق تماما على ما حدث لحفيده الشهيد محمد الصدر (رض) فقد حاربه اغلب الناس وقاطعه المقربون وأصحاب العمائم واتهموه بمختلف أنواع التهم فساعدوا بذلك أعداءه (من حيث يشعرون أو لا يشعرون) على التخلص منه ومن أفكاره المناهضة لأصحاب الباطل جميعا ، وفعلا فقد دبّر له طاغية العراق صدام عملية شيطانية استهدفته مع نجليه بعد رجوعهم من تأدية صلاة العشاءين في الحرم العلوي الشريف .

وتكرر مشهد التمجيد بعد العداء مرة أخرى فقد أدرك المعادون قبل المحبون انه هو القائد الرسالي وهو المنقذ من حكم الطاغوتية البعثية وهو الممهّد لدولة الإمام المهدي (ع) ، وأضحى هذا الثائر الكبير كهفا ومنارا للثائرين وأطلق عليه لقب ( حسين العصر ) لما مثله من تشابه في النهضة ضد الظلم والظالمين .

واعترف من كان يعاديه ويناوئ أفكاره انه كان على خطأ كبير في اعتقاده بسبب أئمة الضلال الذين لم يألوا جهدا في الطعن به وبمرجعيته بسبب كشفه لحقائقهم الخافية بعد ان كان الناس يرون ان كل معمم هو مثل أبو ذر الغفاري وسلمان المحمدي فاتضح انه مثل عبد الله بن أبي وعمر بن العاص وغيره من كانوا يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر .

وهكذا أصبح هذا الرجل ورغما عن الرافضين هو مرجع المسلمين الأول حتى لغير مقلديه لأنهم لم يجدوا من مراجعهم ما يلبي ويسد حاجاتهم الدينية والاجتماعية .

فقد طرق السيد محمد الصدر (قدس سره ) كل الأبواب الفقهية والأصولية والعلمية وحتى الرياضية والفنية والاجتماعية ، ففي مجال الفقه لا توجد مسألة متروكة ومهملة في كتبه خصوصا في رائعته الكبرى سلسلة ( ما وراء الفقه ) التي يتناول فيها أسباب ومسببات المسائل الفقهية .. ، وفي الأصول كان لا يضاهيه احد من المراجع الموجودين وكان هو الوحيد الذي يشرح ويعرف مطاليب السيد محمد باقر الصدر المفكر والفيلسوف العظيم والذي اعدم على يد الطاغية أيضا ولنفس الأسباب ، أما في الأخلاق فقد أعطى دروسا ليس لها نفاد خصوصا في كتابه الذهب ( فقه الأخلاق ) ، وفي مجال الطب أيضا لم يترك فقرة تهم المجتمع إلا وتناولها بإسهاب وتوضيح، ولم يدع الأمور العشائرية بدون تدخل أو يتركها كما تركها الآخرون فقد أحسّ بالخطر الكبير الذي سيلم بالمجتمع إذا بقيت حالة العشائر العراقية بدون متابعة أو مراقبة من الحوزات العلمية فأّلف كتابا قيما شرح فيه كل ما يهمهم ويهم تقاليدهم وأعرافهم .

أما رائعته الفريدة في فقه الفضاء فحدّث عنها ولا حرج فهي رسالة عملية الأولى من نوعها في هذا الإطار وما سبقه إليها احد من الفقهاء وتحدّث فيها عن الأحكام العبادية في الفضاء الخارجي بعد ان يصبح سهلا ويسيرا على الإنسان . اما كتاب الله القرآن الكريم فقد دافع عنه وعن الشبهات التي أثيرت حوله من قبل المرجفين الذين أرادوا أن ينالوا من عبقريته التي أعجزتهم عن أن يأتوا بآية من مثله وكان كتابه في هذا الصدد هو ( منة المنّان في الدفاع عن القرآن ) ، ودافع أيضا عن الأنبياء والشبهات التي أثيرت حولهم وحول عصمتهم بكتاب (رفع الشبهات عن الأنبياء) .

أما قضية الإسلام و المذهب الخالدة وهي الإمام المهدي (ع) فقد أشار إليها بموسوعة كبرى تناولت اغلب وأكثر واهم الموضوعات المتعلقة بعلامات ظهور الإمام ومدة غيبته و مكان تواجده ومقر انطلاق ثورته وعدد أصحابه وكيفية مقتله وغيرها الكثير مما لا يسع هذه السطور ونترك للقارئ المطلع على هذا الدر الخالد ان يصفه بما شاء لأنه وكما قال احد فقهاءنا المعاصرين (رحمه الله): لا يجب ان تخلو مكتبة من موسوعة الإمام المهدي (ع) وكتاب ما وراء الفقه للسيد الشهيد الصدر ( قدست نفسه الزكية ) .

الصدر الرسول

حينما نتكلم عن الشهيد الصدر الرسول نجد انه قد عانى كما عانى من قبله اغلب الرسل من تهم وافتراءات باطلة ما انزل الله بها من سلطان ، ونستطيع أن نلاحظ إن هناك شبه كبير من حيث الاتهامات الموجهة له والموجهة لكل نبي وهي كما يلي :

1- النبي هود (ع) تعرض إلى الدعايات والتكذيب (( والى عاد أخوهم هود قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره أفلا تتقون . قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك في سفاهة وإنا لنظنّك من الكاذبين )). كذلك نجد ان المرجع الديني السيد محمد الصدر (قد) تعرض لهذه التهمة في بداية مرجعيته وقالوا انه غير أهل للمرجعية وانه كاذب في ما يدعي ولا يمكن الرجوع إليه ، إلا أن إصراره على مواصلة درب الكفاح والجهاد جعله الرجل الأول القادر على ان يلبي طموحات الشارع العراقي في الأمور الدينية بعد ان اتضح ان علمه ومرجعيته لا يضاهيها احد .

2- أما النبي الثاني فهو نوح (ع) وقد تعرض لتهمة الجنون (( كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر )) ، (( ثم تولوا عنه وقالوا معلم مجنون )) . وهذه التهمة تعرض لها الرسول الصدر من قبل أعداءه الذين فشلوا في إلصاق التهمة الأولى وبعد ان رأوا ان مرجعيته في تزايد مستمر وان مقلديه اخذوا بالتكاثر حتى في خارج العراق حينما أعلن وفي أجرأ تصريح (انه اعلم الأحياء) فاستشاط المعاندين لهذا التصريح وقالوا انه رجل مجنون .

3- أما الاستهزاء فقد عانى منه نبينا موسى (ع) (( قال يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون )) ، وعانى هذا المرجع المظلوم كما عانى النبي (ع) خصوصا حينما أمر بإقامة صلاة الجمعة التي كانت متروكة من قبل المراجع السابقين وكانت تقرأ في الرسائل العملية لهم فقط ! إلا انه وبقوته القلبية المعروفة أمر بها وأقامها وصلاها بنفسه في مسجد الكوفة المعظّم وانتعشت الساحة الإسلامية بخطب كان الشارع العراقي بحاجة ماسة إليها خصوصا بعد المد البعثي والتكتيم على كل ما هو إسلامي من قبل حكم البعث . إلا أن أعداء الدين لم يرقهم ذلك فبدأوا بالاعتراض بعد أن عجزوا عن الوقوف بوجه هذا المد الجماهيري الذي وصل إلى المليون في صلوات الجمعة في مدينة الصدر والكوفة فقالوا كيف تكون الخطبة باللغة العامية من قبل مرجع يدعي انه الأعلم ، فجاء الرد سريعا منه وبكلمة بسيطة جدا لا تحتاج الى شرح او تفصيل ( حبيبي ، رسول الله وأمير المؤمنين والحسن وجميع الأئمة المعصومين كانوا يكلون الناس على قدر عقولهم وإنني في خطبتي صلاة الجمعة لست القي درسا في المكاسب او الكفاية أفلا تعقلون ) .

4- النبي نوح عليه السلام تعرّض للتحقير من قبل قومه (( ولقد أرسلنا نوحا الى قومه إني لكم نذير مبين أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم اليم . فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشر مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نضنّكم كاذبين ) ، وهذا الشيء انطبق تماما على الرسول الصدر حينما جاء إلى الأمة بعد ضياعها بين الظالمين وبين المتلبسين بلباس الدين وفي فترة لم يدرك الكثيرون تكليفهم الشرعي إزاء الإحداث والصدامات المتتالية فانبرى هذا المرشد الكبير وأعلنها صرخة مدوية بالولاية العامة لأمور المسلمين فكانت هذه هي الضربة القاصمة لاولئك المتلبسين بعدما أنهى تلك الخرافة القائلة بان كل من يرتدي العمامة هو على حق دائما !

فلذلك شن أعداؤه حملة كبرى وهذه المرة بحجة ان الولاية غير صحيحة متحججين بأشياء لا يمكن ان تقنع أحدا ، وشاء الله ان ينصره في هذه المعركة الخطيرة أيضا ( يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) .

5- التكفير والتكذيب التهمتان اللتان ابتلي بهما اغلب الرسل (ع) كما جاء في قوله تعالى (( قالت رسلهم افي الله شك فاطر السموات والأرض يدعوكم ليغفر لكم ذنوبكم ويؤخركم الى اجل مسمى قالوا إن انتم إلا بشر مثلنا تريدون ان تصدونا بسلطان مبين )) ، (( كلما جاءت امة رسولنا كذبوه فاتبعنا بعضهم بعضا )) ، (( كذبت قوم نوح المرسلين )) ، (( كذبت عاد المرسلين )) ، (( كذبت ثمود المرسلين )) ، (( كذبت قوم لوط المرسلين )) .

وهكذا نرى ان اغلب الأنبياء والرسل قد تعرضوا لهذه التهم التي تعرض لها الشهيد الصدر وهذه المرة كان الطعن في مؤلفاته التي لم يستطع اغلب الموجودين على الإتيان بمثلها ، فقالوا ان هذه هي مؤلفات السيد محمد باقر الصدر وان السيد محمد الصدر يقوم بإزالة الغلاف عنها فقط ثم يكتب اسمه !!

فكانت هذه التهمة بحق من أسخف التهم التي وجهت إليه لأسباب عديدة منها كيف يقوم شخص ما وفي أي مجال بسرقة مؤلفات كاتب معروف ليس على الصعيد العربي فقط ولا على الصعيد الإسلامي بل ان شهرته تجاوزت الآفاق العالمية ، أفلا يستطيع شخص ان يتعرّف على هذه العملية الخطيرة ؟ ألا يستطيع ان يتعرّف عليها العلماء المعاصرون للسيد محمد باقر الصدر ام ان كل هؤلاء العلماء والمراجع متواطئون ؟ ولو تنزلنا ولن نتزل لكن ان تنزلنا وسلمنا بما تقولون فمن هو السيد محمد باقر الصدر ؟ أليس هو الذي تركتموه يصارع السلطة البعثية المجرمة وحده؟ أليس هو المرجع الذي قلتم عنه انه إسرائيلي وعميل لإيران ؟ لكن شاء الله ان ينصر رسوله الصدر على كل المنافقين والدجالين مرة أخرى ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) .

6- أخيرا وكما واجه نبي الرحمة والإنسانية محمد (ص) تهمة العمالة للأجنبي (( وقال الذين كفروا ان هذا إلا أفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاءوا ظلما وزورا )) .

ايضا واجه السيد الصدر هذه التهمة كآخر سلاح يستخدمه هؤلاء بعد ان عجزت كل التهم السابقة من النيل منه ومن مكانته في نفوس الناس . فقالوا ان السيد محمد الصدر هو مجتهد فعلا إلا انه استخدم الدين كغطاء لأنه عميل للحكومة العراقية وعميل لإسرائيل وأمريكا ! واعتقدوا ان هذه التهمة ستنجح ولن يستطيع ان يكشفها احد لأنه لا يمكن تفنيدها وتناسوا عباراته التي كان يرددها في مسجد الكوفة المعظّم ( كلا كلا أمريكا ..كلا كلا إسرائيل ) ونسوا أيضا ان رئيس وزراء إسرائيل قال ان الخطر يأتينا من الشيعة في العراق على يد هذا الرجل الأبيض ( ويقصد السيد الصدر ) ونسوا أيضا انه فضح ولأكثر من مرة السلطة الحاكمة ولم ينفذ ما طلبت منه في ترك مسجد الكوفة بحجة الترميم ودفع ثمن إصراره دمه ودماء نجليه مصطفى ومؤمل .

إلا انه من الطريف انه بعد استشهاده عادت تهمة العمالة مرة أخرى ولكن هذه المرة من قبل الحكومة نفسها واتهموه انه كان عميلا لإيران ولأحزاب معادية لحزب البعث الحاكم في العراق ولديه خطط للإطاحة بالنظام العراقي وظهرت هذه التهمة بعد ان بث تلفزيون العراق برنامجا قالت فيه ان السيد محمد الصدر كان مرجعا دينيا كبيرا وزعيما للحوزة العلمية في النجف الاشرف وقد كان عدوا لأمريكا وإسرائيل .

فلا يعرف لحد الآن ما هي التهمة الحقيقية التي يمكن ان تصدق يمكن ان تكون بحق هذا الرجل المظلوم ؟ ولمن كان عميلا؟ اقول انه حقا كان عميلا لكنها عمالة من نوع خاص ولم يستطع التوصل إليها إلا القلائل وهي عمالة لله تعالى ولأمير المؤمنين وللحسن والحسين وللإمام الحجة (عليهم السلام ) اللهم اجعلنا من العملاء السائرين على نهجه وخطه الشريف وكما أوصانا في خطبه نقرأ الفاتحة .

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com