دعاية البعث تزوّر تاريخنا في ثورة 1920م

 محسن ظــافــرغريب / لاهاي

algharib@kabelfoon.nl

المطلوب من لدن القضاء العراقي للتحقيق الضاري الحفيد الهارب

عقيد الجيش البريطاني لجمن والشيخ ضاري المحمود

إثر ثورة 1920م العراقية الأم ضدّ الإحتلال البريطاني للعراق، لجأت بريطانيا العظمى للتخفي وراء واجهة وطنية، لأن الحكم الاستعماري المباشر يستفز المواطنين ويؤلبهم ضد الغزاة، بينما المتاريس الوطنية قادرة في بعض الأحيان، على امتصاص النقمة وتأجيل الانفجارات المحتملة.
ولجأت بريطانيا أيضاً لإعادة النظر بمواقع رجالها، وبالمهام الموكلة لهم، وبالبؤر التي ساهمت في الثورة وكانت لها فيها أدوارا هامة، لتجفيف منابع تلك البؤر الثورية الهامة في العراق الجنوبي ومن ثمّت الفرات الأوسط ولتمنع تكرار المناخات التي تؤدي الى الثورة مرّة أخرى.
ضمن أطراف الفرات الأوسط إستجابت المناطق التي أولتها بريطانيا عناية ثانوية: البادية الغربية الممتدة على ضفاف الفرات الذي يمتدّ الى ألف و15كم وعليه سدّ القادسية ويكوّن بحيرة القادسية؛ وسائل ري وتفرّع الى شطّ الحلة وشطّ الهندية التي جاء منها رئيس الحكومة المالكي، ثم يلتقيان ثانية شمالي السماوة ليمرّ بالناصرية وسوق الشيوخ ويمرّ بهور الحمّار. فكان الفرات شريانا حيويا للإحتلال لكي تؤمن الملاحة لسفنها، وبالتالي السيطرة على المنطقة الوسطى صعوداً الى الحدود التركية في الجزيرة. وبإعتبار أن قبيلة نائب رئيس حكومة العراق الحالية د. سلام زكم الزوبعي( زوبع) تقطن ضمن هذه المنطقة، ولأن زعيم هذه القبيلة وعدداً غير قليل من أفرادها إستجابوا لتنادي أخوتهم العراقيين في الوسط والجنوب، فقد جاء وقت الإنتقام من الحلقات الضعيفة وتصفية حساب الماضي من ناحية، ولعدم تكرار مثل هذه المشاركة في المستقبل من ناحية ثانية.
كان ضمن السبل التي اعتمدتها بريطانيا في معاقبة تخوم بؤرة ثورة 1920م في العراق الجنوبي وزعمائها بأن شددت عليها الحصار، لأنّ أفرادا من زوبع كان عمله الموروث قطع الطرق، وجعل الملاحة في الفرات الأوسط صعبة أو مستحيلة، إلا إذا كانت على شكل قوافل وبحراسة عسكرية مشددة. كما لجأت بريطانيا الى التضييق على الزعماء وعلى الذين شاركوا في الثورة، من خلال زيادة الضرائب أو المطالبة بضرائب سابقة، وفي حال التأخر أو الإمتناع عن أدائها ضمن المهل المحددة، كانت بريطانيا تقطع المياه عن أجزاء كثيرة من أطراف الفرات الأوسط، لإتلاف المحاصيل الزراعية، ولإلحاق أكبر الأذى والخسائر بالسكان وبالثروة الحيوانية، الأمر الذي إضطرّ الكثير الى النزوح الى الوسط والجنوب العراقي سعيا الى المرعى والمياه، ومن ثمّت العودة من ثانية للبداوة الأصل.
فإن كان ثمة موقف مقاومة للاحتلال البريطاني، والمتاعب التي خلقوها له، فإن الخلاف الذي طرأ بين العقيد البريطاني المسؤول السياسي لأطراف البادية الغربية لجمن والشيخ ضاري المحمود، زعيم قبيلة نائب رئيس حكومة العراق الزوبعي، شملته دعاية البعث الزائفة برعايتها إنتاج فيلم" المسألة الكبرى" من ثروة العراق كنفط حاضرة البصرة الطيبة الخربة الحلوب ومحافظة التآخي، العراق المصغر كركوك، في مظهر للإختلاف المتبادل بين الطرفين الأصيلين العراق الجنوبي وبريطانيا العظمى!
فالجد ضاري الذي إقتضت مصلحته مساومة عقيد لجمن ساوم بالمثل ثورة 1920م العراقية، ليكون حلقة وصل وسطى مع رجال جبال الشمال العراقي، لتموين الثورة بالرجال والسلاح والعتاد لإدامة زخمها اللوجستي صوب النصر على الغزاة الأجانب. والإنكليز الذين عانوا الكثير ودفعوا ثمناً غالياً لأن العراق ثار من شماله الى جنوبه، كانوا يهتبلون السوانح كي يعيدوا الأرجحية لقواتهم، وكان الشيخ ضاري ضمن حلقات تلك السلسلة الطويلة، سيّما أنه مثل التحالف العضوي الشبيه بدور حفيده نائب رئيس حكومة العراق اليوم، بين طائفة أهل السنّة في علاقتهم مع الغالبية العراقية المسلمة الشيعة في مواجهة الغزاة، وامتزجت الدماء الوطنية ببعضها لتؤلف حقيقة أصل اللوحة الفسيفسائية العراقية كأنموذج لمقاومة البريطانيين بالأمس واليوم بعد قرن من الزمان بقيادة أميركية طرأت على منطقتنا، وكأنك يا جنرال جون أبا زيد ما غزيت.
أما الطرف الخصم لثورة وسط وجنوب العراق عقيد لجمن، فيُعد أحد عناصر رتل الإستطلاع وقوامه فريق جواسيس بريطانيا الذين وفدوا من حيث وفد البعث بالتناص حافر إثر حافر وبدعم أميركي إقتضته حروب الخليج وحصانها الهرم صدّام المُدان الذي إنتهت صلاحية حصانته ليُعدم قبل نهاية العام الجاري كأيّ، وهو أحد عناصر الرتل الخامس بإسم الثورة العربية الكبرى ضد الإستبداد العثماني، وإرثه مطية الأجنبي لتأمين صحراء المنطقة الغربية ببـُداة أطراف العراق الغربية بشبكة جواسيس الإحتياط المضموم الذي يضطلع اليوم بدوره بإسم العرب العراقيين السنة في التفاهم والتعاون مع فلول الضاري الحفيد وأيتام المُدان صدّام، خاصة في العراق.
سنة 1880م وُلد لجمن في مدينة بتر سفيلد البريطانية، ودرس العلوم العسكرية في ساند هرست، الكلية التقليدية لبيادقها من بـُداة أعراب الثورة العربية الكبرى، وتخرج فيها بتفوق لتطبيق مؤهلاته في أصقاع الإمبراطورية البريطانية التي لاتغرب عنها الشمس وتنافس الإمبراطورية العثمانية، بدءً بكيان جنوب أفريقيا الى الهند حتى وضع عصا ترحاله في أقطارالبلاد العربية. وبعد ان جال في أماكن عديدة، استهوته البلاد العربية بشكل خاص، فاستهوته موانئ خليج البصرة(هكذا كانت الدولة العثمانية تسمّي الخليج رسميّا)، ولم يدع بلدة عربية في المشرق إلا وطأها؛ القدس، حلب، بيروت، دمشق، القاهرة، فالمدن الأصغر مثل دير الزور، طرابلس، صيدا وغيرها العديد. لقد بدأ بتطبيق برنامجه المُعد بتعلم اللغة العربية، فجعل له معلمون في جُل المدن التي مرّ بها، وكان لهؤلاء المعلمين أكثر من دور، يتضح من خلال الخدمات التي كانوا يزجونها لعقيد لجمن أو المهام التي كانوا يقومون بها. ورغم أنه كان موضع شك من قبل السلطات التركية، وخضع لعيون الشرطة السرية التركية المعروفة آنذاك بـ "الخفية"، فقد تمكن من تمويه تحركاته ومواصلة مهمته، سواء من حيث تغيير الزي الذي كان يرتديه، أو من خلال المهن التي كان يمارسها.
في سنة 1910م، توغل في الصحراء مسافة 750 ميلاً منطلقا من مدينة كربلاء المقدّسة، ثم عاد الى بغداد ليبدأ رحلة الى الشمال العراقي شبه جزيرة الأناضول مجتازاً 1300 م، ليقفل عائدا ثانيةً الى فلسطين، وظلّ هناك وقتاً طويلاً يكتب التقارير عما رآه في جولاته الى قيادة الجيش البريطاني الهندي ومكتب الإستخبارات، ويحرر المقالات لمجلة الجمعية الجغرافية الملكية.
وبعد ترحال واسع وأعمال متعددة خدم في دائرة الإستخبارات البريطانية في سُنجق البصرة متعاوناً مع السير برسي كوكس وولسن وفيلبي وكان بين مساعديه عالم الآشوريات الشهير ايس.
شارك لجمن في كلّ المعارك التي دارت بين الجيشين البريطاني والعثماني في العراق، بدءً بالبصرة حتى الموصل. وبعد أن وضعت الحرب الكونية أوزارها، تقلب في وظائف وأماكن ليصبح المسؤول السياسي عن الصحراء الغربية للعراق، وفيها عرف شيخ ضاري.
الاجتماع الذي عقده لجمن في الرمادي لوجهاء وشيوخ المنطقة وبينهم ضاري، حدد الموقف والإحتمالات بصورة نهائية. ففي الوقت الذي كان لجمن يطبق سياسة بريطانيا؛ فرّق تسد الطائفية ويوطىء للأعراب سياسة النفاق والشقاق في العراق، كان شيخ ضاري يستثمر من ذلك ما يغذي عناصره الطفيلية، وقد بان موقفه خلافا لدعاية البعث الزائفة في فيلم" المسألة الكبرى" ومثله فيلم صدّام" الأيام الطويلة" الدعائي لتزوير دوره الهامشي الطفيلي المشبوه فالمكشوف لاحقا، فإختلف الضاري الجد وعقيد لجمن.
وبعد مرور شهر من ذاك الإجتماع إستدعى لجمن ضاري الجدّ الى مقرّ عمله خان النقطة بين دلتا فلوجة، هيت، حديثة، عانة، وراوة، ثم أبو غريب( نهر أبو غريب رافد من الفرات يمرّ جنوبي الفلوجة حتى منطقة الزيدان جنوبي خان ضاري، ثم ينشطر الى فرعين جنوبي الى مطار بغداد- عامرية ضواحي بغداد الغربية. والشمالي طريق بغداد فلوجة العام مرورا بقضاء أبو غريب حتى الغزالية إحدى بؤر الإرهاب اليوم. الفرعان يتلاشيان الى فروع أصغر في بساتين عدّة) على طريق حصيبة( القائم) ومدفن أول رئيس منتجب لجمهورية العراق المشير عبد السلام عارف الذي لقي مصرعه شمالي البصرة بسقوط طائرة السمتية التي أقلته لدى عودته الى بغداد، وحيث لواء دليم، فهرع ملبيا في 12 آب 1920م قبل قدوم لجمن من بغداد حيث تناول طعام العشاء مع المس بيل، ومع قادة آخرين، خلصوا في تداول الخطة التي شملت تعاملهم مع عرب العراق ومن ضمنهم ضاري. كان المُدان صدّام قد عبّد طريق بغداد- عنة، وكان ترابيا طوله 350كم. في الفلوجة التي تشتهر بالكباب ضريح الشاعر معروف الرصافي، وكان قائمقامها في عهد ملك العراق الوطني غازي، إبراهيم صالح شكر المتوفى سنة 1944م، وقد حصل من الملك على بندقية صيد هدية. كان صحافيا وأصبح مدير ناحية ثم قائمقام في سامراء، تكريت، الكاظمية، المقدادية، دلي عباس، قلعة صالح في محافظة ميسان، وأقصي من قائمقام خانقين بإرادة ملكية وقعها الوصي الأمير عبد الإله لتأييده ثورة 1941م ضدّ الإنجليز ومساعدته سياسيين وعسكريين للهرب عبر خانقين والمنذرية الى
إيران. أشار إليه العقيد صلاح الدين الصباغ في كتابه" فرسان العروبة في العراق". قهوة شكر اليوم تقع عند بلوغ شارع الكفاح ساحة النافورة ببغداد، حيث جامع نائب(سفير) الإمام المهدي ضريح محمد بن عثمان العمري الخلآني، وضريح الشيخ عبد القادر الكيلاني إمام التصوّف الصفوي الفارسي لدى طائفة أهل السنة في العراق.
ما كاد لجمن يصل الى المخفر حتى ادعى انه اضطر الى سلوك طريق غير عادي، نظرا لأن زوبع تقطع الطرق. كان وهو يتحدث مع ضاري يشتم ويتهم بهدف الإستفزاز والتحدي، وكان ضاري يحاول ما استطاع أن يتحمل ويصبر ويوضح، لكن الطرف الآخر يزداد حدة ورفضا. وفي هذه الأثناء وصلت جماعة وهي تصيح وتستنجد معلنة أن البدو قطعوا الطريق وسلبوا المسافرين، فطلب لجمن من القوات الموجودة في المخفر أن تصطحب عددا من رجال ضاري وتتعقب الجناة، ودخل مجددا غرفته ومعه ضاري، واستمر في الإهانة والتأنيب، ووصل الأمر حدود التهديد بالتصفية، وأشار الى ما لحق عددا من الزعماء الوطنيين العراقيين في الوسط والجنوب العراقي نتيجة عدم الإمتثال لأوامر بريطانيا من نفي وسجن وتشريد. وضاري الذي كان يستمع وينفي أيّ مسؤولية عمّا وقع من حوادث، وان زوبع لم تشارك فيها، حاول أن يتجنب الصدام، لكن حين بلغت الإهانات حدا جارحا أقرب الى السباب والشتائم خرج من الغرفة للحظة وأبلغ من بقي من جماعته، وبكلمات قليلة، ان لجمن تجاوز كل الحدود في التعامل معه، فهبّ أقرباء ضاري وأفراد من جماعته لنجدته.
أطلق ثلاثة من رجال ضاري، ابنه( له إبنان؛ خميس وصليبي) ومعه اثنان، النارعلى لجمن وأصابوه إصابات بالغة، وحين كان يتخبط بدمه ولم يمت أفزع ذلك ضاري الجد فأجهز عليه بالسيف مضطر لابطلآ. يقول بعض مؤرخي حياة عقيد لجمن أنه كان جريئا ونشيطا وذا مزاج شاذ يقوده في أغلب الاحوال الى التهور، وهو بنظر الإنكليز ضرب بقسط وافر في سياسة بريطانيا على الصعيد العربي أكثر من أيّ شخص آخر ووصفته وزارة الحربية البريطانية بعد مصرعه بأنه رجل أقوى من الصعاب، وإنه يستطيع السفر والعيش دونما شوق الى وسائل الراحة التي وفرتها للإنسان مدنية الغرب، وإنه كان معتدا بثقافته الأوروبية. وتضيف الوزارة المذكورة إنه كان قادرا على مشاركة وجدانية في تقاليدها الثابتة، وعلى العيش عيشة عربية بالرغم من تشبثه بتفكيره الخاص.
بعد مقتل لجمن بدا واضحا ان المنطقة بأسرها، وزوبع على التحديد، ستتعرض للانتقام، الامر الذي دفع الجميع للاستعداد والى المبادرة لمشاغلة البريطانيين تقيّة ومن ثمّت الى إرهاقهم، فتم الإحتماء بالقبائل الأخرى والتنسيق معها، والى إحياء الأحلاف القائمة بينها، كما لجأت زوبع الى قطع الملاحة في نهر الفرات، والى تكبيد السفن التي تمرّ فيه خسائر فادحة، إذ أغرقوا بعض السفن، والى قتل عدد كبير من أفراد الحاميات البريطانية، والى نسف أجزاء من السكك الحديد لمنع وصول الإمدادات والنجدات، فاشتبكت هذه القوات مع القوات البريطانية في غير موقع. ولعل أبلغ الخسائر وأكثرها تأثيرا سيطرة الثوار على نهرالفرات وشلّ الحركة فيه، مما أعاق حركة البريطانيين وجعلهم يحشدون قوات كبيرة لمعاقبة القرى وسكان ضفاف الفرات الأوسط. وبعد جهد وتضحيات كبيرة قدر لبريطانيا أن تحرر سفنها المأسورة وان تنقذ أعدادا من الجنود والبحارة الذين كانوا على متونها، وبدا واضحا ان الكفة أخذت تميل لصالح البريطانيين، ممّا دفع ضاري وعددا كبيرا من المقاتلين الى الإتجاه صوب الشمال العراقي، خاصة بعد توسع استعمال الطيران وملاحقته للثوار، ووقوع عدّة معارك كانت الغلبة في أغلبها للجانب البريطاني، نتيجة التفوق بالأسلحة الحديثة آنذاك والأعداد الضخمة حشود الجنود.
في 23 أيلول أمر "فريق ركن هولدن" بتوجيه قوّة عسكرية كبيرة للقضاء على مقاومة الفرات الأوسط، فدكت هذه القوّة قلعته وقطعت الماء عن مزارعه وأدت الى انكسار الثوّار. وفي اليوم التالي احتفل بالفلوجة بالنصر على العراقيين وضمنهم زوبع. وبدأ التفكير بالإنتقال الى مكان أكثر أمنا، وباعتبار أن زوبع تنتشر على ضفاف الفرات فقد اتجهت الأنظار الى جبل سنجار والجزيرة وصولا الى ماردين، وهكذا ارتحل القوم الى هناك.
ورغم ان عفواً عاماً صدر بعد 1920م، الا إنه لم يصرّح بخصّ ضاري وأولاده وعدداً من زوبع، مما اضطر هؤلاء الى البقاء في الأماكن التي وصلوها، فأقام ضاري في قرية من قرى الجزيرة السورية حتى سنة 1927م.
تقدم ضاري كثيرا في العمر وتعرض لأمراض عدّة، ما أدّى الى انهاكه وثقل حركته واضطراره الى مراجعة الأطباء بين فترة وأخرى، وفي إحدى تلكم المراجعات، وكان يفترض ان يتوجه الى حلب للمعالجة، فقد حمله سائق سيارة الأجرة، الذي كان متواطئا مع الإنجليز، حمله بالإتجاه المعاكس وسلمه الى مخفر سنجار. فأوقف بضعة أيام في المخفر المذكور ثم نقل بعدها الى بغداد حيث لم تتح السلطات البريطانية إمكانية العلاج فأخذت صحته تتدهور يوما بعد آخر، حتى قدم للمحاكمة، وقرر الطبيب الإنكليزي الذي فحصه إن المتهم في وضع صحي يحتمل المحاكمة. وقد جرت المحاكمة فعلا، وقدمت السلطات عددا من الشهود الذين شهدوا ضده، في الوقت الذي امتنعت أو أخرت سماع عدد من شهود المتهم، وبعد محاكمة سريعة وشكلية، ظهر المتهم خلالها في حالة من المرض الشديد والإعياء البالغ، بحيث بدا أقرب الى الغياب عن الوعي، وبالتالي عاجزا عن الدفاع عن نفسه. وصدر الحكم على الشيخ ضاري بالإعدام ثم ما لبث أن خفف الى الأشغال الشاقة المؤبدة.
كان ضاري في الثمانين من العمر. وفي لحظة وعي قال للقضاة إنه على وشك الموت ولا يبالي بأيّ حكم يصدر عليه، وإنه إذا لم يمت الآن في هذا المكان، فسوف يموت غدا في السجن. وهذا ما كان بالفعل، إذ ما كاد يصل الى السجن حتى اشتدّ مرضه ودخل في غيبوبة.. وبدل أن يُنقل الى المستشفى فقد جرى تمريضه وأشرف عليه بعض السجناء خاصة من زوبع، وعند فجر شباطي سنة 1928م توفي.
ما كاد يعلن الحكم ويصل الى أسماع جماهير الثورة حتى هاجت وتجمع الكثير منهم عند مقر المحكمة ثم قرب السجن. أما عند وفاة ضاري في اليوم التالي فقد بلغ غضب الجماهير حدا لا يوصف، فتجمع الآلاف وأرادوا انتزاع الجثمان، لكن قوى السلطة حالت بينهم وبين ذلك، بحجة تشريح الجثة ومعرفة أسباب الوفاة! وان السلطة ستلجأ الى نقل الجثمان لمقبرة الشيخ معروف. وبعد أخذ ورد، ومفاوضات شاقة، أمكن الوصول الى اتفاق يحفظ الأمن والنظام أثناء التشييع ويسمح للأهازيج ومرّت الجنازة في عدّة أحياء، وعبرت النهر الى جانب الكرخ، وصادف توجه المندوب السامي الى دار الإعتماد حين كانت الجنازة تجتاز الجسر، فاضطر هذا الأخير الى أن يقفل عائدا.
بعد ثلاث ساعات، وهي المدة التي استغرقتها الجنازة لتصل المقبرة، ظلت الجماهير محتشدة ما يربو على الساعتين كي تنتهي المراسم. ولدى إنزال الجثمان الى القبر كان صغار تلاميذ المدارس وسط زغاريد النسوة وأهازيج:
 

عاينوله للكاتل لجمن
هز لندن ضاري وبكاها
منصورة يا ثورة ضاري
ساعة ومضمومة يا لندن
الدنيا غدارة يا ابن العم
نام هنيه يا كاتل لجمن
يا شيخ اتهنه بها النومة

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com