|
الحرّة ترفع الستارة عن تاريخ المسرح العراقي
د. سّيار الجميل مدخل معرفي نقدي لايختلف اثنان حول اصالة المسرح العراقي منذ بداياته الاولى، تلك البدايات التي تعتبر جذورا حقيقية للنهضة الفنية في العراق منذ اواخر القرن التاسع عشر.. والمسرح واحدا من اهم الفنون الادبية والاجتماعية التي ترقى بالانسان وفكره نحو الاسمى دوما، وهو فن قديم يعود في فلسفته وعروضه الى الاغريق، ولقد تردد على لسان بعض العلماء والمؤرخين العراقيين ان المسرح اصله التاريخي في العراق القديم وخصوصا في حضارة بابل.. وان هذا الفن الراقي يعّبر عن وجدان الناس وآمالهم وطموحاتهم.. وتكاد تكون خشبة المسرح ميدانا حقيقيا لترجمة أي واقع سياسي او اجتماعي او ثقافي.. وللمسرح آلياته ووظائفه التي يستخدمها الفنانون في الاخراج وعرض المضمون.. من خطايا العراقيين انهم لا يعترفون بفضل احدهم على الاخر مع انهم يمتلكون تاريخا مثقفا لامعا طوال القرن العشرين.. وبذلك، فهم من افقر الناس على حفظ اعمالهم وعلى ارشفة نتاجهم وعلى اسداء الجميل بعضهم للبعض الاخر.. لقد مضت عقود طوال من الزمن ولم نسمع اية وسيلة اعلامية عراقية صرفة تخصص بعض الزمن لتاريخ أي حقل من حقول الثقافة العراقية وميادينها وجمالياتها.. بل كان هناك ثمة حظر على اسماء ومعطيات وكانت ثمة علامات استفهام على اعمال ومنجزات.. وتصل درجة التغافل والتجاهل الى سحب بعض الابداعات والتعتيم على كل اصحابها تعتيما ساخطا.. وفي لحظة تاريخية ماكرة، سقط كل شيئ على امل ان يتحقق الحلم النهضوي وحلم الحرية وحلم الخلق والوجود واستعادة المشروع الوطني على ايدي العراقيين انفسهم، ولكن تبددت الاحلام وذهبت مع الريح الهوجاء، علما بأن التغيير قاد الى انبثاق العشرات من الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية والقنوات الفضائية.. ولكن اغلبها ينسخ عن الاخر ولا هم للعراقيين الا الفضول السياسي الذي دخل في كل خلاياهم.. بل ولم يكتفوا بالسياسات والافكار والطروحات التي تنادي بالانقسامات والمحاصصات، بل راحوا يلعبون لعبة المزج بين السياسة والدين ضمن مهرجان مضحك يتفاخرون به الان وهم يرون ويسمعون طوفان حمامات الدم الذي يغرق العراق والعراقيين..
دور قناة الحرة : لماذا التمّيز وسط قنوات عراقية لا حصر لها ؟ في خضم هذا المعترك الخطير، تتجّرد قناة فضائية امريكية غير عراقية ولكنها تعنى بشؤون العراق وثقافاته لتقدم برنامجا مطولا على امتداد شهر رمضان المبارك الفائت ويختص بارشفة تاريخ المسرح العراقي ودراسته على امتداد 125 سنة من حياته الزاخرة، وبقدر ما نجح اعداده على ايدي ثلة من المختصين والفنانين الذين ابدعوا في اخراجه وتقديمه الرائع، بقدر ما فشل في الذي طرحه اغلب ضيوفه الاعزاء.. وقبل هذه الوقفة التقويمية، ازجي خالص الشكر لهذه القناة التي عودتنا على تقديم كل جديد اذ نجحت في العام المنصرم في تقديم برنامج شهري عن الاغاني العراقية نال رضى الناس واشبع نهمهم وسد حاجات كبرى في جهلهم.. ولقد كتبت عنه وقت ذاك، ثم سمعت ان مقالتي عنه غدت مقدمة لكتاب صدر عن الاغاني العراقية من قناة الحرة نفسها.. ولقد اقترحت بالتلفون قبل ايام على مقدمة البرنامجين الاخت الفنانة داليا العقيدي في القناة الحرة ان يتم التخطيط منذ الان لاخراج برنامج شهري في رمضان العام القادم يختص بالفنون التشكيلية العراقية وتاريخها الزاخر بالابداعات والعمالقة من الفنانين المثقفين الكبار الذين انجبهم العراق في القرن العشرين، ولكن شريطة ان تتّم الاستفادة من الاخطاء التي كانت في التجربتين الاثنتين عن كل من الاغاني العراقية والمسرح العراقي.. وبهذه المناسبة، اشير على اصحاب القنوات الفضائية العراقية ان يستفيدوا من تجربة قناة الحرة في دراسة ملفات وارشيفات موضوعات ناصعة في حياة العراقيين وثقافتهم الحديثة بدلا من هذا الهوس السياسي الذي لا يقدّم ولا يؤخر من حالة العراق المأساوية اليوم.. ان الثقافة والمنهج يعتبران من العوامل الاساسية في تكوين الوعي الجديد لدى العراقيين وتعرّفهم على تاريخهم القريب بكل ما حف به من مساحات مضيئة وضيئة..
مشكلات المسرح العراقي وتناقضاته 1/ الارشفة وتسجيل التاريخ نعم، لقد عانى المسرح العراقي من مشكلات وتناقضات لا تعد ولا تحصى وهو المجال الثقافي الزاخر بكل ما كان له تأثير وقوة في حياة المجتمع وتطلعاته من خلال توظيفات المعاصرة واستخدام التراث العراقي والتأثر الواضح بالمدارس العالمية. ان مهمة التوثيق والارشفة قد جاءت متأخرة جدا بعد كل ما اصاب العراق من حطام في الصميم، ولكن تبقى جهود كل المختصين والاساتذة والمؤرخين الذين كتبوا وارخوا للمسرح العراقي الحديث على امتداد اكثر من قرن كامل مهمة جدا، وسيحتاجها المؤرخون في المستقبل لمعرفة الدور الثقافي الذي اضطلع به الفنانون العراقيون في القرن العشرين. لقد كان المسرح العراقي احد ابرز ميادين الثقافة العراقية الحديثة بكل ايجابياته وسلبياته، وبكل منجزاته الكبرى والصغرى.. بل استطيع القول انه كان في جملته ومعطياته محاكاة للواقع العراقي ولطبيعة العراقيين وكلها تمّت على خشبة المسرح على امتداد اربعة عهود تمّثل في الحقيقة اربعة اجيال امتد كل جيل لثلاثين سنة من اعمال مسرحية نهضوية وصلت اعلى مستوياتها في عقد الستينيات من الجيل الثالث.. وهي جيل المستنيرين الاوائل 1889 – 1919، وجيل الليبراليين ما بين الحربين العظميين 1919 – 1949، والجيل الثوري الراديكالي القوميين والتقدميين 1949 – 1979 وجيل القوى والاحزاب الدينية 1979 – 2009. 2/ الفنان تحت وطأة السياسي ولقد شّكلت تلك " المحاكاة " في جوهرها الحدث التاريخي Event او الفعل المسرحي Action من خلال الدراما تراجيدية كانت ام كوميدية.. ولقد تبّنت المسرحية العراقية بشكل عام افكار وتطلعات كل جيل ازاء نفسه والعالم، ذلك لأن المسرحية العراقية انبنت منذ البداية على احداث شكلية واخلاقية واجتماعية وسياسية.. اخذت تتطور شيئا فشيئا ليرتبط أحدها بالاخر ارتباطا حيويا او عضويا بحيث شكّلت في بعض الاحيان حلقة في سلسلة مترابطة اخذت في اواخر القرن العشرين بالاضمحلال نتيجة الظروف العصيبة التي مرت بالمجتمع العراقي وبخاصة الحروب الصعبة التي اثرّت في صميم المجتمع، وقد غدا الفنان والمسرح تحت وطأة السياسي وقهر السلطة الحاكمة.. 3/ جدلية الصراع بين التقدم والتخلف لقد تلمسنا من دراسة ظاهرة المسرح العراقي، تلك المعاني الخفية لما وراء تلك الظاهرة وخصوصا في ذروة تطورها وعلى ايدي ابرز الفنانين العراقيين مشّكلة من الاحداث الداخلية جدلية في الصراع بين التقدم والتخلف، وبين تطلعات النخبة وبين خطوط السلطة.. وبين تقاليد المجتمع وثورة التغيير.. انها الظاهرة التي عّبرت باشكال عدة عن جملة من المسالك الخلفية التي نجحت في ادائها نخبة من الفنانين العراقيين الذين كان بعضهم من المثقفين وبعضهم الاخر من السياسيين وبعضهم الاخر ممن جمع الثقافة الحرفية والايديولوجية السياسية في التفكير والاسلوب والاداء.. ويبقى هناك البعض ممن عّبر عما تريده السلطة بشكل مكشوف وفاضح، فكان مثقف سلطة وما اكثرهم في المرحلة السابقة عندما بقوا حتى النهاية يرقصون ويدبكون سواء باختيارهم ام باجبارهم.. وبالرغم من كل ما قدّمه المسرح العراقي من ثقافة للعراقيين، وبالرغم من كل مناهج الحداثة التي استخدمها الفنانون والمثقفون والنقاد العراقيون، الا ان الغلبة في نهاية المطاف كانت للمتخلفين والمتحذلقين والبلداء والافاقين والجهلة في السيطرة على مقاليد المجتمع وتسييره نحو وجهتهم المظلمة!
الموصل : جذور المسرح العراقي كانت مدينة الموصل التي انطلق منها المسرح العراقي واحدة من امهات مدن النهضة العربية الحديثة، وقد شهدت جوانب حقيقية في انطلاق ظواهر عديدة بلورتها ظروف تاريخية متنوعة، بل وساهمت فيها عوامل نهضوية تمتد نحو القرن الثامن عشر. وكانت الموصل على امتداد التاريخ الحديث معبرا استراتيجيا فاصلا بين بغداد واطراف عدة برا ونهرا سواء نحو الاناضول واوروبا، او نحو البحرين المتوسط والاسود.. حتى اختيرت لتكون مركزا لتأسيس جامعة امريكية، ولكن المشروع لم ينجح لاسباب عدة. ومن يتابع البرنامج سيجد ان السيد المعدّ قد فتح المجال لتوضيح اهمية تلك الجذور، وكم حاولت مقدمته باسئلتها ان تثير الوعي للتعريف بمعلومات جديدة وآراء ثمينة، ولكن ضيوف اكثر من حلقة لم يهتموا لتاريخ المسرح وجذوره.. لقد جرى تغييب لمرحلة التأسيس وعدم تجذيرها لما فيه الكفاية.. ولم يعرف المشاهد اسوة بالسائلين من الذين حضروا البرنامج جوابا شافيا عن اهمية مدينة الموصل ومكانتها النهضوية ليس في العراق وحده، بل في عموم المنطقة. 1/ لماذا الموصل ؟ ثمة اسئلة تطرح نفسها دوما : لماذا مدينة الموصل وليس غيرها ؟ لماذا انطلقت اولى خيوط فجر النهضة العربية منذ القرن الثامن عشر في الموصل ؟ ما مكانتها الجغرافية وما تأثير موقعها ؟ ولماذا غدا شبابها اكثر ثقافة وحيوية ونشاطا في تلك الفترة المبكرة ؟ ما شخصيتها الاجتماعية ؟ ما تأثير خصوصياتها السكانية وتنوعاتها الاجتماعية ؟ لماذا لم تسلط الاضواء على ابرز رجالاتها في النهضة والاصلاح ؟ ما تأثير اولئك الذين نزحوا منها الى بغداد ليصدروا الصحف ويؤلفوا الوزارات ويؤسسوا المؤسسات ؟ ان انبثاق المسرح العراقي من مدينة الموصل له اسبابه التاريخية التي لم يزل كل العراقيين يجهلونها.. وكم كنا بحاجة الى اساتذة متخصصين في تاريخ الموصل الحديث وآدابها النهضوية امثال الاصدقاء الدكاترة : عمر الطالب وعماد عبد السلام رؤوف وابراهيم خليل احمد وغانم الحفو وذنون الاطرقجي وبهنام فضيل وزهير النحاس وعبد الفتاح يحي وذنون الطائي وغيرهم ليقولوا كلمتهم في هذا " الموضوع "، فمعرفة الشيئ تأتي من تأصيله والتعمق في جذوره.. 2/ الرواد الاوائل : ان رواد المسرح العراقي قد تخرجوا من المدرسة الاكليركية التي انشأت بالموصل عام 1750، وكانت ثقافتهم متقدمة ومعرفتهم للفرنسية لا تشوبها شائبة، ولكن منتجاتهم الابداعية كانت عراقية تاريخية او اجتماعية او اخلاقية. ولعل اول عمل مسرحي قدّم في هذا المجال بالموصل تمّثل كان للاب حنا حبش عام 1880، ثم توالت المسرحيات كي تأتي مسرحية (نبو خذ نصر) التي الفها الخوري هرمز نورسو الكلداني عام 1886 ومثّلت في العام 1888 على مسرح تلك المدرسة الاكليركية.. ان معرفة تطلعات مثقفين مواصلة اوائل في فن المسرح يمنحنا الثقة بقوة المنطلق، كما يعزز رؤيتنا لمستقبل وطن موحد لا يمكن تقسيمه ابدا.. ان التعرف مليا على ادباء مواصلة حقيقيين بمعزل عن ديانتهم ومذاهبهم واعراقهم، امثال : يونان عبو اليونان والدكتور داؤد الجلبي والسيد حبيب العبيدي وعلي الجميل والدكتور فاروق الدملوجي وثابت عبد النور وحنا رسام وسليمان صايغ وسليمان فيضي وروفائيل بطي وتوفيق السمعاني وسليم حسون ويوليوس جرجس قندلا وصديق الدملوجي ومحمد رؤوف الغلامي وحسيب السعدي وسعيد الجليلي ومحمد توفيق آل حسين اغوان وفاضل الصيدلي واسماعيل حقي فرج ويحي قاف وعبد المجيد شوقي البكري ونديم الاطرقجي.. وصولا الى ارشد العمري وخيري العمري وصديق الجليلي ومحمد حديد وعبد الجبار الجومرد ومجيد خدوري ومتي بيثون وذنون ايوب ويوسف الحاج الياس وسعيد الديوه جي ونوئيل رسام واحمد الصوفي ومحمد محمود الصواف ويونس بحري وغيرهم كثير سيمكننا من معرفة الواقع الذي عاشوا في خضمه وانطلقوا منه. 3/ الانطلاقة ليست تبشيرية لقد اثيرت مسألة اخرى في الحلقة التي قدمت يوم 30 سبتمبر ذلك ان احد الضيوف اطلق حكما غير مسؤول عندما قال : البدايات في الموصل كان اسلوبها تبشيري حتى العام 1908. وهذا حكم غير منصف ايضا، فان المسرح الاول برغم بدائياته في الموصل، الا انه كتب باقلام عراقية مسيحية وليست اجنبية تبشيرية، وان من يقرأ تلك البدايات المسرحية يراها مجموعة محاكاة كوميدية او تراجيدية تنزع نزعة اخلاقية محلية لا اثر فيها لتبشير بدين او مذهب.. صحيح انها جاءت مؤلفة من قبل قسس ومن معلمين من مسيحيي الموصل العراقيين، وانها مثّلت في مدارس دينية، الا انها لم تمّثل الا مجموعة تقاليد اجتماعية.. ولقد قام البعض بترجمة مسرحيات اوربية وخصوصا عن الفرنسية ومنها لمدام دي بو فوار وغيرها.. 4/ دور الموصل أم الربيعين لقد شهدت الموصل عند بدايات القرن العشرين حركة سياسية واصلاحية وتكوين احزاب وانطلاقة نخب وشراكة فنون وحركة اتصال فعالة.. وما ان غدت بغداد عاصمة رسمية للدولة العراقية، اخذت تستقطب الحياة الحديثة وبقيت الموصل معينا لا ينضب للعراق.. ولكن لحق بها ويا للاسف الشديد من الغبن الكبير، بل ووصل الامر الى تجاهل كامل لفضل الموصل على تبلور ظواهر تاريخية وفنية وثقافية نهضوية عراقية.. مع العلم ان الموصل بكل خصوصياتها لا يعد تعصّبا لها، بقدر ما يمّثل عشقا لعبقرية مكانها وما يمتاز به من جماليات، وانك لا تجد فيها أي نزعة لكراهية الاخرين ولا تعد خزينا لاحقاد الاولين والاخرين بفعل دورها في التعايش الاجتماعي الخلاق عبر التاريخ.. وأيضا بسبب تعدد عناصرها السكانية واطيافها الاجتماعية بشكل عجيب، وبالرغم من سمات التوّحد فيها الا ان المجتمع الموصلي بقي منغلقا على نفسه محتفظا بطبيعته ومحافظا على تقاليده الاصيلة.. ويمكنني ان اجد سريان هذا الى سنوات عقد السبعينيات، اذ بدأ المجتمع المديني يتحّول الى مجتمع هجين بفعل الاختلاط بين الريف والبدو والحضر القدماء، فحّلت الكارثة بكل من المدينة واطرافها. ضيوف البرنامج : مشكلات مستديمة لا تقبل اية حلول 1/ المواعظ والصمت ان المسرحية العراقية تبدو مترابطة ترابطا شكليا كما عرضها برنامج (ترفع الستارة) وخصوصا مع مسلك الشخصيات التي يجمعها اسلوب واحد تمثلها التقاليد العراقية المعروفة، ولكنني لا اجد في هذا التوصيف (او : المسلك) أي تبرير مقنع لما قدّمه البعض من الضيوف الذين ذهب بعضهم كي يلقي بمواعظه السمجة على الظاهرة برمتها، وصمت البعض الاخر عن الادلاء حتى بالشهادة الحقيقية لضعف في ثقافته اللغوية والعامة، وقدم البعض الاخر سفسطة وانشاء ومجرد لغو وتصفيف للكلمات والتعابير التي لا يفهم هو نفسه معانيها هروبا من وضوح الرؤية.. 2/ المسرح بين المعلومات الخاطئة والاوصاف الشجاعة وجاء آخر ليقدّم معلومات خاطئة لا يعرفها، وفرض اخر نفسه على الموضوع من دون أي خزين للمعلومات.. وتجّرد آخرون للتمجيد والتفاخر من دون أي نقد ولا اي تحليل ولا اي مكاشفة.. ولم ار الا اثنين فقط من الضيوف من تحّلى بالشجاعة ليقدّما وصفا شجاعا لما حّل بالمسرح والثقافة والفن في العراق من كوارث ابان المرحلة السابقة. وكلمة لابد من تسجيلها هنا بالنسبة لكل من يهوى الظهور على شاشة التلفزيون في قنوات فضائية اوصيه ان يكون امام الكاميرا ضيفا خفيف الظل وواضح التعابير وجميل الهيأة.. ولا يعتقد ابدا انه الوحيد الذي يمتلك الحقيقة، ولا يعتقد ابدا انه سيكون نجما او بطلا.. ولا يظن ان الدنيا كلها ستنسى هذا الوجود لكي تستمع الى ما يقول! ولا يفّكر ابدا انه سيغّير مجرى الحياة. 3/ استعراض العضلات : المنفوخون دوما ان الحياة مليئة بالاخرين، وان الحياة لا يمكنها ان تتوقف من دونه! ولعّل أسوأ ما لدى هذا الانسان : استعراض عضلاته بطريقة أنوية خالية من أي تواضع، ومجدبة من أي فرص للتنازل عن الذات المطهمة فيقوم بكل محبة ومودة بعرض جهود الاخرين ليفتخر بها امام الناس.. فالانسان ان عرف قدر نفسه، عليه ان لا يزاحم الاخرين باستعراض عضلاته وتاريخه الشخصي وصناعة امجاده، بل يدع كل الاخرين يتحدثون عنه وعن تاريخه وعن منجزاته ان كان له تأثير واضح في الحياة. لقد تعّود البعض من العراقيين وبسوء التربية التي اكتسبها ان يتنطع بنفسه، وان يستعرض منجزاته ويتفاخر بها على الناس، بل وباستطاعته ان يغّيب جهد الاخرين ليلبس ذلك لنفسه منكرا على الناس حتى ذكر اسماء زملاء له او مشاركين له او ابطال حقيقيين لعمل اشترك فيه بدرجة ثانية! الشيئ الاخر الذي أود اثارته هنا وانا اتحدث عن صفات بليدة يحملها البعض وهي لا تتفق وسجايا المجتمع الواحد، ان باستطاعة البعض ان يشيد بجهويته على حساب الطرف الاخر من المعادلة.. أي اعلاء شأن مكان محلي على حساب مكان محلي آخر من دون وجه حق.. فانني ان اوضحت باعتزاز ما لمدينة معينة من فضل معين في التاريخ، فان ذلك يمنحني قوة ومضاء وحسن تقدير.. 4/ العراق بين الكراهية والمكابرة انه لا يحتمل ان يسمع ان النهضة المسرحية قد ولدت في مكان معين من العراق ترّبى على كراهيته له! او لا يقبل ان يجد فئة اقلية ذكية وعريقة من سكان العراق قد نبغت واحترفت فن معين وثقافة معينة ونهضة معينة! ربما حب المكان وعشق ثقافة المكان والارتباط العضوي بذلك المكان يجعله يفضله على أي مكان آخر في بلاده.. لكن في الحقيقة ان هذه ظاهرة مرضية اجتماعية لا يمكنها ان تبقي على روح المواطنة والمعايشة الواحدة في اطار ثقافي عام، فما دام الامر يعرض على كل ارجاء العالم باسم ظاهرة ثقافية عراقية، فمن الاجدى ان يلتزم الضيوف باعلاء شأن العراق كله من دون نشر غسيل تعّود العراقيون على نشره بدافع امراض اجتماعية مترسخة عندهم وتشكّلها الكراهية والاحقاد العرقية والطائفية والجهوية والفئوية والطبقية.. الخ 5/ التمرد والفضاضة من ضمن الثقافة التقليدية التي اعتاد العراقيون على ممارستها ظلما وعدوانا بحق انفسهم كلهم، ان كل جيل يتقّدم يلعن ما انجزه الجيل السابق، بل ويستخف به ويقلل من شأنه وينكر عليه منجزه ويغّيب عناصره ورجاله ونسائه.. ناهيكم عن ناحية أخرى، من المهم جدا التعّرض لها ضمن هذا السياق ذلك ان من يعرض نفسه على شاشة التلفزيون يكشف عن بضاعته وثقافته، بل ويفضح نفسه امام الناس.. وكثيرا ما نجد ضحالة في الثقافة العامة، بل كثيرا ما نستهجن على المرء انعدام دقته واطلاقه لاحكام غير صائبة ولا حكيمة نتيجة لانعدام قراءاته او انه يقوم باستلاب جهد الاخرين ليعرضه مشوها تماما سواء يتم ذلك عن قصد ام من دون قصد! 6/ التربويات الخاطئة ومن المضحكات الاخرى ان اسمع فنانين عراقيين لا يعرفون لفظ الكلمات بطريقة صحيحة ولا مهارة لهم في مخارج الحروف مما يسبب مشكلات لا حصر لها.. وهي دليل ضعفهم وهزال ثقافتهم ازاء الاخرين.. ان بعضهم لا يعرف كيف يتكّلم ولا كيف يجادل او يحاور.. ثمة ظاهرة مفجعة اخرى في الثقافة العراقية اليوم، انها تعبير عن تربويات خاطئة ونتاج مدارس الخمسين سنة الماضية باستخدام نفس التفكير ونفس التعابير ونفس الشعارات ونفس التضليلات ونفس التشويهات التي تربى عليها اكثر من جيل.. ان جيل المد القومي 1949 – 1979 وجيل المد الديني 1979 – 2009 يبدو ان الثاني تربى في حاضنة الاول ونهل من شعاراته وافكاره وتعابيره الكثيرة.. انني لم ازل اسمع ترديد مصطلح (القطر) بديلا عن تعبير (البلاد)، ولم ازل اسمع توصيف حكومات القرن العشرين بطوله وعرضه صفة الحكومات الجائرة بديلا عن الحكومات السابقة ,, وايضا مصطلح جلاوزة النظام بدلا من اعوان النظام ومؤيديه.. 7/ كائنات متوحشة وكائنات خائفة لقد وجدت ان اغلب الضيوف من الفنانين والمثقفين العراقيين الذين استضافهم البرنامج كانوا يتكلمون وكأن على رؤوسهم الطير، انهم يبدون خائفين مرعوبين فلا يعبرون عن حقائق يؤمنون بها، بل يخفون اشياء كثيرة، او يستخدمون لغة رموز متساوقة شبيهة على طريقة : اياك اعني واسمعي يا جارة! ان الخوف لم يزل يكمن في الاعماق وخصوصا في الحديث عن المرحلة السابقة وكل احداثها ومجرياتها.. الخوف من الحيطان الموصدة.. الخوف من الكائنات الموحشة.. الخوف من التقارير الحزبية.. الخوف من نظرات العيون الزائغة والشوارب الكثة. لقد أبى الجميع ان يقولوا الحقيقة باستثناء ضيفين اثنين تحّلى كل منهما بالشجاعة في قول ما ارادا قوله! 8/ احتكار الخطاب ومن اللقطات المؤثرة والمثيرة التي لم اتحملها عند بعض الضيوف في حلقة يوم 4 اكتوبر اجتماع ضيفين اثنين احدهما يلبس قبعة والثاني من دون قبعة.. ويبدو ان طبيعتهما وموقعهما غير متكافئ، أي بين عميد كلية وبين فنان ممثّل.. لقد بدا لي هذا الاخير مسكينا بشكل يثير الشفقة، بحيث لم يتكّلم شيئا الا وقاطعة الاول وقمعه واستحوذ على الكلام مستأسدا بطول الجلسة وعرضها.. قلت في نفسي : كم هي اخلاقيات المهنة واخلاقيات الحوار مهمة جدا في ان يعطي الانسان للاخر اكثر مما يأخذ لنفسه ؟! وكم كنت أود ان نتوقف في هذه الحلقة عند الشاعر خالد الشواف الذي يعد صاحب المسرحية الشعرية في العراق، ولكن هذا لم يحدث ابدا! وارجو ان لا يتذرع احد بثقل الموضوع ازاء الوقت المختصر، اذ تلفت دقائق طوال بالتكلم في اشياء لا معنى لها.. وعلى انشائيات وعموميات وتنظيرات! ان من اسوأ الامور ان يسئل المرء عن معلومات وحقائق، ولكنه يتيه بنفسه في فجاجة من الكلمات والتعابير التي لا معنى لها، او يردد تنظيرات يحفظها على ظهر قلب ولا يفهمها الناس العاديين.. وهو نفسه لا يدري ما يقول.. وهذا ما اتلمسه عند اناس عراقيين لا يعرفون ابدا كيف يتكلمون ازاء نسوة ورجال من العراقيين الاذكياء من المهرة الحاذقين. اخطاء ينبغي ان تصحح! ارتكب بعض من كانوا ضيوفا على البرنامج جملة من الاخطاء التي لا يمكن قبولها البتة، وساقوم بتصويب بعضها نظرا لكثرة ما سمعته منها : 1/ ان الاحزاب العراقية قد ولدت منذ العام 1909، واستمرت في ولايات بغداد والموصل والبصرة.. وليس كما قال بعضهم : ان الاحزاب العراقية قد ولدت بعد تأسيس الدولة العراقية عام 1921! 2/ ومن الصواب القول ان الثورة البلشفية قد اندلعت في روسيا القيصرية عام 1917، وليس كما قال احدهم من انها اندلعت في الاتحاد السوفييتي! 3/ ومن الصواب القول ان الوزير مدحت باشا حكم بغداد ثلاث سنوات، للفترة 1869- 1871 اذ لم يكن يسّمى بوالي العراق، ولكنه منح صلاحيات واسعة من النفوذ على الولايات العراقية الثلاث. 4/ ان المجتمع العراقي لم يكن بدويا ـ كما ذكر احدهم، فالمجتمع العراقي عرف المدنية والتحضّر منذ القدم، وبقي مجتمعه يتوزع بين الحضر والريف والبادية. وحتى ان كان هناك بدو من العراقيين، فما علاقة هؤلاء بالمسرح العراقي ؟ 5/ انكر احدهم على النهضوي المثقف اليساري الموصلي القديم يحي قاف ان يكون اول مؤسس لدار التمثيل العربي، وانكر على الاستاذ الدكتور عمر الطالب قوله " لا جدال ان دار التمثيل العربي هي اول دار مسرحية في العراق "! اذ عّلق قائلا : " محتمل هناك 29 قبله " ولم يذكر واحدة من هذه ال 29!! 6/ قال احدهم ان التقاليد الدينية كانت تحكم فترة العشرينيات! والدليل ان اكثر الاعمال تاريخية ودينية متقيدة بوضعية المجتمع.. ولا يدري هذا المسكين ان تنوع العشرينيات وما قبلها برغم التخلف في العراق كان يسمح لجذب المطربين والمطربات والراقصات وتأسيس الحانات والخمارات والملاهي بشكل لا يضاهى وان الانفتاح بدا لاقصى مداه حتى بابقاء دور البغاء القديمة في واقع قديم قبل احتلال الانكليز للعراق.. وعليه، لا يمكننا ان نسقط الواقع اليوم على الماضي وصبغه بالصبغة السائدة اليوم، فالتقاليد الدينية كانت موجودة ولكنها لم تكن تتحكم بالمجتمع ولا بالدولة! 7/ من المضحكات ان يستخدم احدهم اسم يحي حقي بدلا من الاسم الحقيقي يحي قاف! ومن سذاجة البعض الاخر ان يستخدم مصطلح (المحافظات) وهو يتكلم عن العهد الملكي او العهد الجمهوري الاول من دون ان يدرك ان نظام المحافظات قد عمل به في عهد احمد حسن البكر، فهو اذن لا يدرك معنى المصطلح الاداري السابق (لواء وجمعها ألوية العراق)! 8/ لا اعرف تفسير كيف كانت السلطة العراقية في العشرينيات مهادنة ومحايدة، ولكن السلطات ضيقّت الخناق على مسرحية الوطن ؟؟ فالمعروف في عهد الملك فيصل الاول رحابة الثقافة وحرية الرأي وتجسير المثقفين وحيوية الاحزاب وتعدد الصحف والاهم من كل هذا وذاك انه لم يكن هناك أي رقابة ولا أي أمن ولا أي اضطهاد كالذي بدأ يتبلور في عقد الثلاثينيات ومع توقيع معاهدة 1930 وتطبيقها في العام 1932 التي جعلت العراق دولة مستقلة ذات سيادة وعضوة في عصبة الامم! 9/ انني اسأل عن تغييب اسماء او ذكر اسماء دون تعريف بها، فالفنانة المصلاوية انطوانيت اسكندر (اخت الفنانة عفيفة اسكندر) لم يعّرف بها ابدا، واقتصر على ذكر اسمها، بل لماذا لم يقّدم عنها وعن غيرها من الفنانات الاوائل أية معلومات تاريخية ؟؟ معنى ذلك غياب للمؤرخ الحقيقي من البرنامج الذي لم يعرف الا الفنانين وبعض نقاد المسرح! 10/ اذا لم يستطع الضيف المسكين تلفظ بعض الكلمات الاجنبية، فلماذا يستخدمها عنوة.. كان من المضحك ان يستخدم احدهم مصطلح (انتلجينسيا) بشكل يثير الشفقة!! وهكذا بالنسبة لمصطلحات اخرى لا يدرك هذا او ذاك تلفظها، فهو يرطن بلغته العربية، فكيف به وقد أتى على مصطلحات لا قبل له بها!
الذاكرة التاريخية العراقية ينبغي ان اوضح في هذا الباب بعض ملاحظاتي النقدية، اذ لا يمكن لكائن من كان ان يعبث بذاكرتنا التاريخية العراقية.. وهي التي يقف على رأسها نخبة من المختصين العراقيين، فمن ليس له باع في تاريخ العراق الحديث خصوصا من ساسة وفنانين وباعة كلام، عليه ان يكفّ عن ترديد الاسقام وتوزيع الاراء في تاريخنا : 1/ معاهدة 1930 العراقية ـ البريطانية : في الحلقة التي عرضت ليلة 29 سبتمبر 2006، قال احد الضيوف بأن الحركة السياسية في العراق قد انشقّت اثر معاهدة 1930 بين العراق وبريطانيا التي مهدت لاستقلال العراق، وهذا خطأ شائع في تاريخ العراق المعاصر، فالمعاهدة لم تسبب أي انشقاق في الحركة السياسية ابدا، فالانقسام السياسي تبلور بشكل واضح بعد رحيل فيصل الاول عام 1933 علما بأن العراق لم يخل من الاختلافات والتباينات السياسية منذ تأسيسه.. ويذكر الضيف بأن " التاريخ اصبح مرجعا ليحّرف فيه ويستخدم في المسرح "! وهذا تفسير باطل لكل من استخدم التاريخ من قبل المسرحيين او الاسطورة من قبل الشعراء لضرورات جوهرية يحتاجها المجتمع، فليس من الانصاف ان توظف المجتمعات تاريخها واساطيرها فنيا وادبيا ويحرم على العراقيين ذلك خصوصا وانهم في بدايات نهضتهم وانهم بدأوا يكتسبون الوعي التاريخي بأهمية العراق في التاريخ على امتداد العصور.. فكيف بنا نأتي اليوم لنقلل من شأن اولئك الذين وجدوا في التاريخ خزينا رائعا يصلح ان يكون مدرسة نهضوية ليس لاغراض سياسية، بل لاهداف اجتماعية وتربوية وسايكلوجية لا حصر لها ابدا! علينا ان لا نعكس واقع اليوم المزري على افكارنا وتجاربنا ونسقط مواقفنا السياسية على ما فعلته الاجيال من قبلنا.. ولا عيب ابدا من تاريخنا العربي والاسلامي والمسيحي بايجابياته وسلبياته حتى وان كنا ضد القومية العربية! 2/ فخ الاسقاط ولقد نجح الاوائل نجاحا منقطع النظير في توظيف الذاكرة التاريخية العراقية لبناء جيل مثقف وقوي وناضج.. وجرى في الحلقة نفسها تلك الفصل بين فنان السلطة وفنان الشعب.. ومرة اخرى يقع رهط من العراقيين في فخ الاسقاط.. انهم يسقطون تجربتهم المريرة في العقود الاخيرة من هذا القرن على القرن العشرين بطول عقوده كلها.. فأنا أسأل : الى أي مدى كان هناك تضييق من قبل الدولة على الفنانين ؟ بل وتجرأ احدهم لينال من الفنان الكبير حقي الشبلي عندما اتهم بأنه كان يخدم مصالح الدولة من دون ان يسأل نفسه ويجيب على السؤال التالي : هل كان الشبلي حقا مثقف سلطة.. ام انه كان يمارس دوره من خلال منصبه ؟ واذا كان قد مارس دوره عميدا للمسرح العراقي، فهل وظّف فنه في خدمة السلطة والنظام ؟ اننا نحن العراقيين لم نفرق حتى يومنا هذا بين " الدولة " و " النظام " و " السلطة " و " المجتمع ".. هناك خلط مبهم في المفاهيم، وهذا ما اجده في عموم الثقافة العربية المعاصرة.. وهنا تكون الطامة الكبرى في توزيع الاحكام بناء على سوء المفاهيم في الاذهان! ولما كان ذلك العهد الملكي برغم خلافنا مع سياسات السلطة، عهدا منفتحا وقد اطلق العنان لمزاولة تأسيس الفرق والجمعيات والمنظمات والاتحادات والنوادي وما كان يتيحه القانون وما يتضمنه الدستور.. فان الجيل العراقي الذي تربى على العهود الثورية منذ خمسين سنة لم يدرك طبيعة النظام المنفتح وابجديات الاساليب الليبرالية في ممارسة الفن والثقافة والاعلام وحتى مناورات السياسة والاعيبها.. اذ وجدنا ان نسوة لهن مكانتهن في المجتمع طبيبات ومعلمات ومحاميات يمثلن ادوارا مسرحية، وان رؤساء وزارات قد اشتركوا في تأليف مسرحيات.. بل ووصل الامر الى ان يحضر رئيس الوزراء ياسين باشا الهاشمي الى المسرح.. 3/ العراق والايديولوجيات وانني اتفق مع الضيف الذي قال بأن الدولة كانت تحاول ان تزرع نواة للمسرح، ولكنني اخالفه عندما قال بأن المسرح كان مسرح افكار تترجم الايديولوجيات الحزبية! وأسأله : هل كانت في العراق عند مطلع الثلاثينيات ثمة احزاب عراقية مؤدلجة ؟؟ هل كانت في العراق نخبا راديكالية واسعة ولم ينبثق الحزب الشيوعي العراقي مثلا الا في العام 1934 - 1936 بعد ان ولد الحزب الوطني الديمقراطي في العام 1933 ؟ وحتى القوميين، فلم يتبلور حراكهم السياسي بعد عن مؤدلجات وتنظيمات سياسية الا بعد الحرب العالمية الثانية، اذ بدأت التجمعات القومية في الثلاثينيات عن جمعيات ونواد كالمثنى والجوال! 4/ المسرح محاكاة للواقع لقد تنافرت وجهات النظر كعادة العراقيين عندما يتحاورون، ففي تقويم مسرحية (طعنة في القلب) التي كتبها سليم بطي وعرضت عام 1936 مسرحية واقعية تنافر الضيفان حولها وحول مضمونها بالكشف عن دور امرأة في علاقة مفضوحة مع رجل، فالاول وصفها بأنها جزء من الواقع، في حين رد الثاني عليه كونها ليست جزءا من الواقع.. برر الاول حكمه نظرا لأن المسرحية عرضت صورة واقعية عن المرأة في حين عدّ الثاني تلك الصورة استهانة بالمرأة!! نقدات من نوع آخر من هذا الخور في الجدل نجد انفسنا امام خور لغوي سقيم عندما يقول احد الضيوف في الحلقة التي عرضت يوم 1 اكتوبر : " ان العراقيون.." من دون ان يدري ما تفعله ان ؟، بل ومن المفجع ان يتكلم فنان عراقي يستلزم انه يحمل ثقافة معينة من دون ان يعرف من هو الشريف محي الدين حيدر وهو الموسيقار الشهير الذي اثرى الحركة الموسيقية العراقية باهم الادوار وكان مؤسسا للفرقة السيمفونية العراقية.. وأسأل : ان سّمى حقي الشبلي فرقته باسمه فما الضير في ذلك ؟ لماذا تنتقدوه ؟ وبمعزل عن كونه عميدا للمسرح العراقي او ابا روحيا له، فلقد كان ذلك عرفا لا شائبة فيه في مصر خصوصا نشهد انطلاق فرق مسرحية ابان العهد الملكي وهي تتسمّى باسماء مؤسسيها، مثل : فرقة الريحاني وفرقة جورج ابيض وفرقة يوسف وهبي وغيرها من الفرق التمثيلية. المسرح المدرسي والجامعي وبالرغم من تأكيد بعض الضيوف الحاذقين على دور المسرح المدرسي بالعراق ايام العهد الملكي، الا اننا لم نجد أي ذكر لمسرح الثانوية، اذ شهدت الاربعينيات حركة نشيطة في المسرح المدرسي في ثانويات العراق الشهيرة ببغداد والموصل والبصرة، بل ينبغي ان اسجل هنا ـ مثلا ـ للتاريخ ان الثانوية المركزية بالموصل التي بنيت منذ العام 1908 – 1909 بتبرعات اهالي المدينة وليس بانفاق من الدولة العثمانية (وهي الثانوية الشرقية اليوم) بنيت الى جانبها قاعة كبيرة مع مسرح شهدت خشبته تمثيل مسرحيات لا تعد ولا تحصى على مدى قرابة مائة سنة من اليوم.. بل وفات البرنامج ان يلقي بعض ضيوفه الضوء على المسرح الجامعي منذ الاربعينيات، اذ قرأت ان كلية الاداب ببغداد قد دأبت منذ تأسيسها على تشكيل فرقة مسرحية كانت تقدم عروضها منذ نهاية الاربعينيات ومن ابرز الذين مثلّوا فيها الممثل الشهير سليم البصري خريج قسم الفلسفة بكلية الاداب والعلوم جامعة بغداد. روعة الاربعينيات واستقطاب الخمسينيات ومن عظمة عقد الاربعينيات ـ كما ذكر احد الضيوف ـ كثرة ما تشكّل من فرق مسرحية وجماعات فنية عراقية في بغداد وبقية مدن العراق المهمة.. ومن كثرة الاقبال والانتاج استخدمت المقاهي والملاهي امكنة لتقديم العروض. ويصل الاستقطاب مداه وذروته في عقد الخمسينيات لدى ثلاثة من الفنانين العراقيين، هم ابراهيم جلال وجعفر السعدي ويوسف العاني، فلقد انبثقت كل من فرقة المسرح الشعبي التي لم تعتمد سياسة المواجهة مع الدولة، وفرقة المسرح الفني الحديث التي بدأت تثير بمواقفها المعارضة النظام السياسي.. ثم فرقة المسرح الحر التي اسسها الفنان جاسم العبودي.. ويعلق احد الضيوف قائلا بأن هذه الفرقة كانت تنفّذ وتطبّق ما تريده منها جهة معينة، وهو يقصد بهذه الجهة الحزب الشيوعي العراقي. وبدأت مدارس المسرح العالمي تجد نفسها ببغداد وقد غلب على الفنانين العراقيين الطابع اليساري، بل وكان بعضهم قد انخرط بالتنظيم الشيوعي.. وفي هذه الحلقات من البرنامج ينّصب الاهتمام كله على بغداد من دون أي ذكر لمسرح المحافظات الذي خصص له حلقة يتيمة واحدة لم تغطيه ابدا ولم تحلل انشطته الذاتية. ولكن في الحلقة التي بثت يوم 3 اكتوبر، اخذ الضيوف يضخمون من حجم النضال الوطني، وبدا انه منحصر لدى الشيوعيين العراقيين وحدهم.. بل وردد البعض الاسطوانة القديمة التي يقوم مضمونها بتزييف الحقائق وخلط الاوراق.. ذلك ان الحكومة أخذت تلاحق المتنورين والمثقفين ابان الخمسينيات! وهذا تلفيق تاريخي لا يمكن قبوله ابدا، اذ اعتقد ان الخمسينيات والستينيات هما العقدان اللذان وجد المثقف العراقي ذروته فيهما، بل وكانت هناك صلة حقيقية بين الدولة والنخب المثقفة بعيدا عن ملاحقة السلطة للسياسيين المعارضين.. اما ان نأتي لنطلق احكاما جائرة ان هناك ملاحقة للمتنورين والمثقفين.. فمن سيبقى اذن ؟ من كان يكتب في الصحف ؟ من كان يبدع في الفن ؟ من كان يبرز في النتاج الادبي ؟ من كان يقدم المسرحيات في فرق عدة ؟ من قام بتشكيل جماعات الفن ؟ انه تشويه حقيقي متعمد او ساذج كان ولم يزل مستمرا من دون منح كل ذي حق حقّه! ثم كيف يصف احد الضيوف ثورة او انقلاب 14 تموز 1958 بالواقعية الاشتراكية ؟ انها انقلاب عسكري في البداية، ثم لحقت بها ثورة اصلاحية بورجوازية لا يمكن وصفها بالثورة الاشتراكية ابدا! ذلك ان الزعيم عبد الكريم قاسم لم يقم بتأميم أي مرفق من مرافق الحياة الاقتصادية العراقية! تنوع المدارس والاتجاهات المسرحية العراقية انعقد في العام 1966، اول مؤتمر يعني بالفنون الجميلة ومنها المسرح، وعدت فترة الستينيات ازهى فترة وصل اليها العراق وخصوصا عندما رجع الفنانون العراقيون من اوروبا والاتحاد السوفييتي وامريكا الى العراق، وهم يحملون معهم تجارب قيمة.. كان كل من حقي الشبلي قد حمل تجربة مصرية فرنسية، وحمل يحي فايق وابراهيم جلال وجعفر السعدي تجارب امريكية، وعاد قاسم محمد بتجربة روسية.. اما عوني كرومي فكان صاحب ثقافة المانية.. في الستينيات قدمت اروع المسرحيات العراقية المتقدمة.. وغدت الحياة الفنية المسرحية العراقية خلية نحل تعج باعمال دائمة وثابتة ومبرمجة ومخطط لها.. وساهم معهد الفنون الجميلة مع الاكاديمية فخلقا قوة لا تضاهى فانتجت ذلك الجيل المسرحي الجديد الذي كان وراء ازدهار المسرح لما بعد العام 1960. مرحلة الازدهار : تطور المسرح العراقي بعد مرحلة الرواد الموصليين، وصل المسرح العراقي الى ذروته على ايدي نخبة ممتازة من المخرجين والممثلين الفنانين : حقي الشبلي ويحي فائق وابراهيم جلال وجعفر السعدي ويوسف العاني واسعد عبد الرزاق وبدري حسون فريد وخليل شوقي.. في حلقة يوم 5 اكتوبر تتوضح الصورة عن قيمة ما وصل اليه المسرح العراقي في الستينيات، مما اضطر الى اصدار قانون الفرق التمثيلية لعام 1964، وتأثير مخرجات اكاديمية الفنون الجميلة وانبثاق فرقة المسرح الفني الحديث عام 1967،ووصول المسرح العراقي الى ذروته في (النخلة والجيران) للروائي المعروف غائب طعمه فرمان وتنوع مدارس المخرجين العراقيين، اذ حمل كل واحد منهم نتاج مدرسته الاجنبية لتأسيس مدرسة عراقية لم تكتمل مع كل الاسف لأسباب سياسية وتاريخية.. انها مرحلة قاسم محمد وعبد المرسل الزيدي وسامي عبد الحميد والصديقين نور الدين فارس وعوني كرومي.. وستكتمل في السبعينيات والثمانينيات مع عزيز خيون وفاضل خليل وفخري العقيدي وعبد المحسن العزاوي وسليم الجزائري (التأثر لدى الاخير بالمسرح الجيكي) وصلاح القصب وعلي الشوك وسعدي يونس (التأثر لديه بمسرح البوليفار الفرنسي) وعبد الوهاب الدايني وجواد الاسدي وبيتر فايس (التأثر لديه بالمسرح التسجيلي الوثائقي) ومحسن العلي.. وغيرهم.. مع نضوج الفرق التي خلقت بينها روح المنافسة وبدأ المسرح القومي يستقطب الجميع.. وكم كنت اتمنى ان تخصّص حلقة او اكثر من البرنامج للاخراج المسرحي العراقي اذ اعتقد ان تشكيلة هذا " الموضوع " كان لبنة اساسية لمدرسة عراقية في المستقبل الذي اطل بشبحه المظلم مذ اندلعت الحرب العراقية ـ الايرانية في العام 1980. وحلقة خاصة بالممثلات العراقيات اللواتي لعبن دورا فنيا مهما في الحركة المسرحية وتاريخها وثقافة العراق الحديثة.. لقد اعجبني ما قاله المخرج الفنان فاضل خليل : كنّا اشبه بالعائلة لها طقوسها ولها محبتها.. نعم طقوس اجتماعية في كل يوم خميس كنا نجتمع في بيت واحد او نشترك في سفرات.. كنا عائلة واحدة والاحترام الكبير بيننا هو الاساس في نجاح العمل المسرحي العراقي ابان الستينيات لم نشعر بغربة نحن ابناء المحافظات في بغداد كانت الطمأنينة والاحساس المشترك يجمعنا. فكانت الاسرة الواحدة تسهل العمل الفني ويفتح الاب الباب لابنته والزوج لزوجته.. هذا القول يترجم تاريخا طويلا في الثقافة العراقية الحديثة التي اعتقد انها توقّفت عن النضوج في العام 1979 برغم استمرارها حية ومنتعشة.. ذلك ان سر ابداع العراقيين عندما يتوحدون على هدف معين في التحضر والتجديد.. ان سر نجاحهم في قوة تشكيلاتهم النهضوية والثقافية والحضارية وان سر تفرقهم وبعثرتهم وتشرذمهم يكمن في بشاعة تشكيلاتهم السياسية والحزبية والايديولوجية والطائفية والعرقية.. المسرح المحلي : المحافظات العراقية لقد خصص البرنامج حلقة واحدة لمسرح المحافظات وأجدها قليلة لا تفي بالغرض ممّا غّيب اسماء وفرقا واعمالا ومنتجات سواء في الموصل ام البصرة ام اربيل ام كركوك ام الحلة ام ديالى.. ولقد شهدت مثل هذه المدن حركات مسرحية محلية لا تضاهى بغداد، ولكنها بنفس الوقت لم تتطور ولم تستحدث فيها اية تقنيات.. ويمكنني تسجيل بعض التصويبات والملاحظات على بعض ما قاله الضيفان في حلقة يوم 20 اكتوبر، منها : 1. ان الاستاذ يحي قاف كان مديرا للمدرسة القحطانية في الموصل لأكثر من مرة، ومنها في سنوات 1960 ـ 1963 فالاخ حسب الله لم يتذكر تلك السنوات، وقد كنت ايضا احد تلامذة يحي قاف الاوائل وكان قوي العبارة بليغ الكلمات يهتم بصناعة الانسان ويخاطب عقله من خلال فنه المسرحي. 2. صحيح ان الفنان احمد سالار له فضل على الحركة المسرحية في كردستان.. لكنه نجح في تقديم الفولكلور الكردي وعرض نتاجه باللغتين العربية والكردية معا. 3. أخطأ أحد ضيوف الحلقة عندما ذكر نص العبارة : " قبل الحرب العالمية الاولى لا يوجد مدارس في العراق كانت هناك كتاتيب.. "! ويبدو انه لم يقرأ تاريخ العراق الحديث ولم يقرأ عن المدارس الاهلية والمدارس العثمانية والمدارس الرشدية في العراق وكلها مدارس مدنية لا كتاتيب دينية.. ولم يعرف هذا الضيف ان كلية الحقوق العراقية قد تأسست في بغداد منذ العام 1908، وكانت هناك ثانويات في امهات المدن العراقية.. وليعلم ايضا بأن مدارس البنات قد تأسست قبيل الحرب العالمية الاولى! 4. فرقة الرواد الشهيرة لم يذكرها احد مع الاسف، وهي فرقة عاشت طويلا في الموصل وتضم فريقا رائعا من الفنانين واشرف عليها الفنان المخرج شفاء العمري وقدمت اعمالا مهمة في السبعينيات كما اذكر.
الثمانينيات : زوال الارادة والتفكك وتفاقم الموبقات بدت الثمانينات بـ 25 فرقة مسرحية تعمل في بغداد والبصرة والموصل واربيل والسليمانية.. وفي الحلقة التي بثّت يوم 11 اكتوبر، وجدت نفسي امام ضيف يريد ان يبعدني قسرا عن الواقع بكلام لا معنى له واستعراض انشائي واستخدام مصطلحات لا مجال لها : المؤسسة الثقافية خزين من الاغواء / الانفجار البترولي / اغواء الذات للاخر / محفزات / محتشد / لغة التعقيل / لغة التخييل / التنميط / آليات تفجير / الاجتراحات المؤسساتية / تراكميات المخرج / معرقل معرفي / تنميط تجريبي / اداء بنيوي / تفجير الحواس.. الخ من اشاعة كلام لا تفهمه الناس! ولكن سمعت ايضا من ضيف آخر عن دور المثقفين كونهم اول المستشعرين بخطورة الحرب ودور النظام السابق في السيطرة على المثقف.. ودور المحاذير وان ضابط الامن في الوزارة يراقب الانفاس او ان يأتي ذلك من فنان بايع نفسه! وبداية المسرح التجاري وولادة الاسفاف والتدني مع مسرح للطفل وبعد العام 1985 دخلت عناصر غير فنية لتشوّه صورة المسرح العراقي واستمروا الى التسعينيات. وقفة تحليلية لحلقة 12 اكتوبر اعجبني في الصديق المخرج الدكتور شفيق المهدي ضيف حلقة 12 اكتوبر صراحته وجرأته ووضعه جملة هائلة من النقاط على الحروف.. قال : اصبح الفنان المحترف داخل صندوق الدولة اذا لم يمش على ما تريده الدولة يقطع رزقه.. وثمة مسرح حرب ومسرح تجاري لم يكن فيهما ابداع ابدا.. وان مسرحية المسرح العسكري لا تمت الى مضمون المسرح العراقي بصلة وان اغلب اعضاء المسرح التجاري زحف من قاع المدينة.. وان كل السلطة السابقة بثقلها لم تستطع ابدا من اختراق اكاديمية الفنون الجميلة.. ولقد بدأت مرحلة الاضمحلال اذ اخذت تنتهي الفرق المسرحية بين عامي 1987 وحتى العام 1992.. ولقد عبر مسرح البانتو ماين والصمت الموسيقى منذ 1984 عن دراما الاضمحلال بالحركات فان البوابين صاروا وزراء وضربت النكسة المسرح العراقي عدا الحرب بانحدار الفنون.. وانحدرت ثقافة الطفل انحدارا مخيفا ونال من القسوة الفجة ما جعلة في تمرد على طول الخط من دون أي تربية متسامية تفتح له ابواب الحياة والعالم.. لقد تحول الطفل الى عبد واصبح القائد الها واحد! (استطيع القول ان اطفال الامس اصبحوا اليوم شبابا يعبثون في طول البلاد وعرضها) ولقد حضر الرئيس صدام حسين مسرحية العطش والناس في بادرة لم يفهم مغزاها ابدا وهو القائل : الفنان كالسياسي كلاهما يصنع الحياة وان الفنان ابراهيم جلال قد تبنّى هذا الشعار ولم يكتف بتسويقه، بل بتطبيقه وجعل الموت يتقّدم ويعلق الصديق الاخ شفيق بقوله : انه شعار للسخرية واساءة للفنان، فالفن يتقدم على السياسة! وقفة تحليلية لحلقة 13 اكتوبر لقد كان المسرح العراقي ممثلا بالفرق الاهلية ولم يستفد ابدا من أي انتعاش اقتصادي استفاد منه البلد، وكان الاعضاء يصرفون من جيوبهم وبالرغم من ذلك، فلم يكن هاجس أي فرقة المردود المالي مقارنة بالابداع الرمزي.. ولا ادري كيف يعتقد البعض بأن ثمة استقرار نفسي قد عاشه المجتمع العراقي في فترة السبعينيات وفيه قصر النهاية وناظم كزار.. ولكن التسعينيات اصاب الخراب كل مرافق حياة العراق وخلقت طبقات طفيلية من خلال مسرح التهريج خصوصا بعد غلق الملاهي، فانتقل التسطيح الى المسرح، وخلا من الحكمة واسترخى الجمهور في القاعات المبردة وهو يستمتع بالنكتة السمجة والاسفاف العامي وفساد الذوق العام. ولقد اعجبتني حقا اقوال الصديق الاستاذ الناقد حسب الله يحي الذي تميّز هو الاخر بشجاعته في تحليل الواقع والتعمق في اسباب الاضمحلال وحالات الخراب.. لقد عمدت السلطة الى تسييس الثقافة فخلقت انحدارا بشعا ورداءة واسفافا اساء الى الذوق العام.. بل ولقد ارادت السلطة ان تستخدم الفن والمسرح وسيلة تعبوية للناس على الغلظة والحرب والمجابهة.. ـ على حد قول الاستاذ حسب الله ـ في الحقيقة، لم اكن موجودا في العراق لاشهد بنفسي ذلك المهرجان الدموي الذي عاشه العراقيون بكل كوارثه ومآسيه حتى وصفت تلك الحرب البشعة بحرب سلطات وحكام وليست بحرب وطنية حقيقية، علما بأن القناعة قد ترسخت في وجدان العراقيين انهم يحاربون بديلا عن العرب في مواجهتهم ايران وامتداداتها المخيفة. في خضم ذلك المهرجان المؤلم كان المسرح يضج بالحياة ويصر العراقيون على الحياة، وبقي التواصل مع الجمهور المسرحي حيا.. مع تناول موضوعات خفيفة الظل وفيها طعم فكاهة من دون وجاهة.. ولكن الانحدار بقي يسير ليعلن نفسه من سيئ الى أسوأ، فلقد نال الخراب من المثقفين العراقيين وخلقت طبقة طفيلية جديدة في الثقافة والمجتمع معا مع انحرافات بالغة الخطورة لتصفيق الفنانين في المهرجان، اذ ليس لهم خيار آخر من اجل لقمة العيش وجاء التسطيح وخلت الحكمة ومات الابداع واسترخى الجمهور للنكتة السمجة والاسفاف في التعابير! وفي خضم كذاك تعرض مسرحية كلكامش التي تقدّم دكتاتورا بصيغة تاريخية، ولكن لم يعد التيار يتوقف لمسرح بات هزيلا بعد ان بناه رجال خبرة وكفاح ومعرفة وفن. وقفة تحليلية للحلقة 14 يبقى الناقد حسب الله يحي يحلل ذاك المنحى الخطير في حياة المسرح العراقي الذي كان في ما سبق من ايام زمان يستضيف النقاد قبل العروض واعتماد المنافسة، وكان للمسرح العراقي مجلته الشهيرة (مجلة السينما والمسرح) التي كان يتلقفها القراء نظرا لخصب مضامينها وجودة اخبارها ورصانة مقالاتها وكان يرأس تحريرها الصديق الشاعر زهير الدجيلي وكان من ابرز كّتابها الصديق الناقد جاسم المطير.. وكنت قد اطلّعت على اعداد منها فوجدت كم كان دورها كبيرا في اشاعة ثقافة تقدمية في الحياة العراقية الحديثة. وكان ان تأسس منتدى المسرح، فقام بدور رائع في رعاية الاعمال المبدعة وتقديم اساليب جديدة وتوجهات شكلية متقدمة.. وكان الصديق الراحل المخرج عوني كرومي هو الوحيد الذي قدّم مسرحية وحيدة يدين مضمونها الحرب الكارثية الطويلة مع ايران، وذلك في العام 1984. واذكر ان من ابرز النقاد في الحركة المسرحية العراقية : احمد فياض المفرجي وعبد المرسل الزيدي وسعاد محمد خضر والدكتور عمر الطالب والدكتور جميل نصيف والدكتور علي الزبيدي وحسب الله يحي وزهير الجزائري وثامر مهدي وياسين النصير ولطيف حسن وغيرهم (وعذرا لمن لم اذكر اسمه) واغلبهم عد منتدى المسرح عمودا فقريا لعقدين زمنيين كاملين، اذ كان لدوره الحقيقي في الحركة المسرحية التي صاحبتها حركة نقدية واسعة مثلها نقاد مهرة كالذين ذكرنا اسماءهم في اعلاه. التسعينيات : انهيار العراق العراق يعيش اقسى مراحله مقارنة بما مرّ عليه من مراحل في القرن العشرين.. انه نتاج تاريخي حقيقي لما عاشه ابان الثمانينيات بحيث بدأ الفساد يعم المؤسسات، واخذ الوباء ينخر عظام المجتمع وبدأت الدولة تزيد من قيودها على المجتمع الذي بات يتفكك شيئا فشيئا نتيجة ما حل به من كوارث الحرب لمرحلتين، وبدأ البترول يهّرب او تستخدم كوبوناته لشراء الذمم وسيطرت طبقة طفيلية جديدة مؤلفة من عصابات لا تعرف غير النهب.. وزادت الهجرة وعمّ الجوع وازداد عدد المشوهين والمنحرفين.. وافتقد مشروع الدولة ثانية في ان يكون حاضنة للابداع والمبدعين.. واحتار الناس وخاف الناس وغاب الالتزام بضرورات المجتمع والحياة وغدت السلطة كائنا خرافيا بشعا.. في ظل هذا الوضع ولدت لجنة المسرح العراقي لتدعم المسرح الجاد من جد وجديد، ولكن بدا التفكك واضحا مع ذبول الكلمة القوية واصبح الفنانون جميعا في العراق برهان السلطة، وكان هناك التصفيق ولكن بدأ البعض يهرب نحو الغموض والتجريبية العالية.. دخل منتجون لا علاقة لهم لا بالثقافة ولا بالمسرح وجل ما يقدمونه هو لهو وتهريج. لقد لجأت الفرقة القومية الى التمويل الذاتي لكنها بدأت تنتج عروضا سخيفة وحل التمويل الذاتي لكي يجني صاحبه الربح.. لقد انزوت الاسماء الكبيرة وهاجر العديد من الكبار بعد تهميشهم.. وابقى البعض علاقته بالسلطة نظرا لارتباطه بها حتى وهو في خارج العراق مما شكّل علامات استفهام قوية حول ذلك! وانني اخالف احدى الضيفات الفنانات بقولها : في الفترة السابقة كان الفنان دائما يتحدّى (الحلقة رقم 12)، واعتقد ان هذا محض مبالغة لا يمكننا ان نجد أي فنان عراقي يتحدى السلطة البتة في العهد السابق! علما بأن هناك بعض العروض المسرحية التي حوربت في تلك المرحلة وتبلورت بعض الاسماء الجديدة ابان التسعينيات.. كان الخواء قد سيطر على كل الحياة الثقافية العراقية داخل العراق وبدأ العراقيون يحلمون بالتغيير وبأي وسيلة كانت. ولما دخلت المسألة العراقية بعدا آخر اثر دخول العالم في قرن جديد.. بدأت تلوح في الافق علامات ذلك التغيير الذي لم اجد أي عمل يتنبأ بما سيحصل! ملاحظات أخيرة في الحلقة 21، راقبت ما قاله الضيوف وسجلت بعض ملاحظاتي النقدية : هل المسرح العراقي هو الشعب العراقي ـ كما قال احد الضيوف ـ ؟ ام انه وليد الشعب العراقي ـ كما وصفه ضيف آخر ـ ؟ وقال ضيف آخر بأن ثمة ثغرات سياسية في المسرح العراقي وان المسرح العراقي بدأ مثقفا سياسيا فهو ليس على غرار المسارح العربية.. لقد ولد المسرح العراقي سياسيا وانه لم يسّيس! وهنا اسأل الاستاذ يوسف العاني : هل هذا بصحيح ؟ متى ولد سياسيا ؟ انه قد اصابه التسييس ليس من قبل الدولة، ولكن من قبل الحزب الشيوعي العراقي بفعل انتماء بعض الممثلين والفنانين العراقيين لذلك الحزب، وانهم كانوا من الشيوعيين ولا عيب في ذلك. وايضا اعلّق على ما قاله الفنان العاني بأن المسرح العراقي بلغ المستوى العالمي عندما وصفه بمسرح عالمي! وانا اخالف الرجل، فليس معنى تقديم عروض في مناطق معينة في العالم وباللغة العربية انه يصبح يكتسب الصفة العالمية! اعتقد ان المبالغة في غير محلها.. وكم كنت اتمنى ان يتطور المسرح العراقي ليقدم عروضا باللغات العالمية ويحصل على تقييمات عالمية.. ولكن هذا لم يحصل، ليس للعراق وحده، بل لكل المسارح العربية المعروفة. ومع كل ذلك، فلقد نجح المسرح العراقي قبل غيره في تقديم مسرحية لجيكوف قبل أي مسرح آخر، قدمه وهو في ظروف صعبة جدا.
وأخيرا : السقوط.. الاحتلال لقد كان الثمن باهضا لدى العراقيين بحيث سقط النظام وسقطت معه مؤسساته في عموم العراق واحتل الامريكيون العراق لكي تتفاقم المشكلات بشكل مخيف ومن جملة المآسي العراقية احتراق مسرح الرشيد الذي شكّل كارثة ليس اقل منها ضياع الارشيف العراقي لكل من الاذاعة والتلفزيون والسينما! لقد بدأ فصل تاريخي جديد اخذ العنف يزداد يوما بعد آخر، واخذت موجة العنف تطال الفنانين وتربعت في السلطة الجديدة فئة ليس لها أي اهتمام لا بالمسرح ولا بالثقافة الفنية واستعصت مشكلات لا حصر لها في العراق.. ولم يعد العراق يعرف الا موجات القتل والخطف وانقسام المجتمع وسيطرة المحتل وتزييف المعلومات والمحاصصة على المواقع وذبول الوجه الثقافي. لقد مات المسرح العراقي منذ 2003 – 2006 في الداخل، ولكنه شارك في بعض المهرجانات بعيد نقلته الى الخارج ليعّرف العالم بأن للعراق الوجه الثقافي وليس له أي وجه دموي.. انني اعتقد بأن تاريخ المسرح العراقي قد انتهى مع السقوط والاحتلال.. ويعيش الفنانون العراقيون اليوم قمة المأساة وخصوصا في ظل اوضاع أمنية مزرية، فضلا عن كونهم يتعرضّون للسخرية والتهكم والتهميش من قبل الملالي والقوى الدينية.. ان الفنان والمسرح يعيشان اليوم ازمة قاهرة في العراق.. والفنان لا يعرف ماذا يقول خوفا من التأويل! وان الجيل القديم لا يمكنه اليوم ان يبقى رهين الماضي.. اما الجيل الجديد، فينبغي ان يمضي قدما من أجل تأسيس جديد لمسرح عراقي جديد في القرن الواحد والعشرين. فهل سينجح يا ترى ؟ وهل باستطاعته ان يجد الظروف الملائمة لاعادة انتاج نهضته وبناء مستقبله ؟ وهل سيبقى العراق بكل خصائصه.. ام سيعبث به الزمن القادم ؟ هذا ما ستجيب عنه العقود المقبلة من السنين!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |