كم أستمتع وأحس بنكهة، وروح، وطعم الحياة، حين أتابع فيلماً من أيام زمان بالأبيض والأسود لنجوم السينما الكلاسيكيين الناطقين بالعربية، ولاسيماً حين كنت أرى تلك الممثلات الجميلات، وهن باسمات، ضاحكات، وشبه عاريات، مقبلات على الحياة، وبالمايو، والبكيني، والشورتات وهن يتراقصن كالغزالات الشاردات برشاقة، وحيوية، واندفاع، تبعث في النفس الحمية، والنخوة، والفحولة، والحياة. وكم هي جميلة تلك اللقطات التي كنا نتابعها لممثلين في البارات، والكباريهات وهم يرشفون ما تيسر من المنكر، والعياذ بالله، و"يكرعون" المشروبات الروحية بأنواعها، والجميع متحرر من كل التابوهات والعقد، والأوهام، ورزمة المحرمات التي رافقت صعود حقبة الوهابية المظلمة التي ألقت بظلالها على الشارع، وأنماط السلوك البشري العصري المتحضر وأعادته قروناً ضوئية إلى الكهوف والمغاور والوديان. وكم أشعر بالحنين إلى تلك الأيام الخوالي الجميلة، حين كنت أرى الممثلين من أيام زمان، وهم حليقي الذقن، ببذاتهم الأنيقة، والياقات البيضاء، والكرافاتات وهم ينضحون حماساً، وألقاً، وشباب، وحيث يندر أن ترى معمماً، أو داعية، أو فكراً ظلامياً يبث الحقد، والكراهية، والبغضاء، ويدعو لسفك الدماء، والحروب والاقتتال. وحين كنت تستقل تاكسي، أيام العز والفتوة والشباب، كان أول ما تراه هو السائق الباسم المنتشي الجذلان، وأول ما يتناهى إلى سمعك هو صوت فيروز وهي تغرد كبلبل سابح في فضاء لازوردي رومانسي آسر خلاب، أو عبد الحليم، وناظم الغزالي، ونجاة، وفريد الأطرش وأسمهان، وفي أسوأ الأحوال فهد بلان. أما اليوم، وفي هذه الأيام النكداء السوداء، وفور انحشارك في أية وسيطة نقل عام، فأول ما ستسمعه هو الأدعية وأصوات الدعاة، وهم يحرضون على الموت، والفتنة، واحتقار الحياة للفقراء، ويدعونهم للموت، بينما يفتون ويتمنون الخلود لشيوخ النفط، ويدعون في صلواتهم لطويلي العمر" أولي الأمر"، بالعيش المديد والبقاء إلى الأبد على كاهل وصدور الناس. وفورا سيلعلع صوت ابن باز وفتاويه المتخلفة عن العلم والحياة، أو حلقات لمحمد متولي الشعراوي بابتسامته الصفراء وقصصه المسلية عن التبسيط واستسهال الحلول و"تمشاية الحال"، ويندر أن تفوتك شذرات عطرة من أشرطة الشيخ كشك، أو فصول، غريبة من مسرحيات عمرو خالد.
ورغم أن تلك الأفلام كانت تعرض بالأبيض والأسود فإن في خلفيتها الفكرية، والدرامية، والقصصية من الألوان الزاهية، واللمحات القوس قزحية الجميلة، أكثر بكثير من كل التقنيات الحالية التي يستخدمها فنانو الأعراب الجدد من تفريخات زمن البترودولار الرخيص، وحقب القبائل، والعشائر، وسيادة ثقافة الجهل، والدجل، والجواري، والغلمان، والخصيان. لا شيء في خلفية المشهد سوى السواد، والقحط، والتصحر، والبداوة المنحطة التي رافقت تمدد السلفيين والمتزمتين، والمتاجرين بالأديان المتسلطين على عقول الناس، وفرضوها على أذواق وحياة الناس، والتي لا يزيل طابعها الأسود كل تقنيات التلوين المستخدمة اليوم في عالم الإنتاج.
لقد غابت الجميلات، والشورتات، والمايوهات، والبكيني والويسكي، والبيرة، والجن، والكباريهات، والبارات، والنبيذ الفرنسي الفاخر من على الشاشات، وحل محلها النقاب، والجلباب، واللحى، والأثواب القصيرة, وقصص العفاريت والجن الأزرق وعذاب القبر والجان، ودور العبادة، وزمزم كولا، و العرقسوس، و"الشربات" المصرية وعصير البرتقال، وعم السواد والبلاء، وساد الجهل، وفسد الذوق العام، وصار الديكور الديني، والتمسح بالوهابية لكي يتم تسويق الأعمال الفنية تجارياً، وليس لوجه الله طبعاً، هو السائد والمعيار والأساس في الفن الهابط الناطق بلغة الضاد. كما صار الممثلون، والممثلات، وبمناسبة وبدون مناسبة، يتسابقون لإبداء مظاهر التقوى، والورع، والإيمان، وكأنهم مدفوعون لنفي شيء ما، أو أنهم دعاة أزهريون في مهمة دعوية بين مجموعات من الوثنيين، والجاهليين، والكفار، ولا يكاد ينطق أحدهم ببضع كلمات إلا ويحشر فيها عشرات العبارات ذات الدلائل الغيبية، والإيمانية الميتافيزيقية، و"التحمدات والتشكرات"، وكأنه يستعد لإقامة الصلاة والتعبئة لإحدى الغزوات، وليس للقيام بدور فني خالص فيه رسالة توعوية للناس. كما ترى الممثلة المنقبة ذات العشرين ربيعاً وقد تحولت لعجوز مخرفة شمطاء وقد ماتت فيها الحيوية والشباب وهي في عز الشباب، وتتساءل في سرك لماذا تختفي شابة بهذا القدر من الجمال وراء ذاك الكم الهائل من الشراشف، والقماش، والبطانيات؟ وما الذي يرعبها؟ ومم تخاف؟ ولماذا هي مكشرة، ومتوترة، و"مزنبرة" ومتشائمة إلى هذا الحد من التوتر والرجفان؟
وأصبحت تلك الصور الكلاسيكية الجميلة، التي كنا نراها، من محرمات ومحظورات فنية تتعرض لمقص الرقيب، وفتاوى الفقهاء، وكل يدلو بدلوه فيها على هواه، وصارت مدرسة النقد اللاهوتي والسلفي الوهابي هو السائد في هذه الديار، وينزل على المنتج والمخرج كل غضب الله فيما لو انحرف عن الخط العام، وذلك خشية أن تمر هذه الأعمال على مجتمعات التصحر، والانغلاق وتعكر الصفو العام، أو تخرق التابوهات و"تضل" الناس، إضافة لسطحية القصص، وضعف منطقها، واستسهال الحلول فيها، وصممت وكأنها تتوجه إلى أولئك المخدرين من المحجبات والمنقبات وأصحاب اللحى والعمائم والجلباب، وليس لبشر يعيشون في الألفية الثالثة التي أماطت اللثام عن كثير من الخزعبلات والترهات، وأدخلت البشرية في طور جديد من المنطق، والعلم والوعي العام. وكم تبحث في ثنايا الأعمال الفنية المعاصرة عن قصة إنسانية، أو مشهد فيه منظر يريح القلب والنفس، كوجه ضاحك سافر باش، أو منظر يحرك في النفس مكامن الحلم والاسترسال، ويفتح الآفاق، أو أية رقعة زاهية خضراء تبشر بوجود أحياء وحياة. فلا ترى، ولشدة الأسف، سوى البدو، وقوافل الجمال، والنوق، والحمير، والبعير، والسيوف المشرعة، والنفوس المحتدة، والسباب، والتهديد والوعيد والثأر والانتقام، والوجوه الكالحة المكشرة العبساء التي ترعب الأطفال، وتجهض الأجنة في بطون النساء. وأدركت على الفور، السر الكامن وراء ازدياد حالات العجز الجنسي، ورواج الفياغرا والمقويات الجسنية، والكسل، واليأس العام، وعزوف الناس الكلي عن الحياة.