ها هي هولندا تقف اليوم، على عتبة مرحلة جديدة من المواجهة الشاملة مع الجالية المسلمة، بعد أن" قرر مجلس الوزراء الهولندي، الجمعة، حظر النقاب، الذي ترتديه بعض النساء المسلمات، على وجوههن، أو أي غطاء آخر للوجه، في الأماكن العامة. وقالت الحكومة الهولندية إن القرار مرجعه مخاوف أمنية. وكانت وزيرة الهجرة والاندماج، ريتا فيردونك، قد تقدمت بمشروع القرار إلى مجلس الوزراء، الذي سارع بالموافقة عليه. وسيُرفع القرار، في وقت لاحق، للبرلمان الهولندي، للتصويت عليه، والذي يعتقد، وعلى نطاق واسع، أنه سيحظى بغالبية الموافقة والإجماع حسب السي إن إن. ومن الجدير ذكره، أن هولندا، تعتبر واحدة من أكثر البلدان الأوروبية تسامحاً مع المهاجرين. ومن هنا، لا يمكن اتهام هولندا، وغيرها من الدول التي بدأت تستشعر هذا الخطر، بالعنصرية والتمييز ، بل المتهم الوحيد هو من ورط هؤلاء في هذه المواجهات العبثية الخاسرة، و"كبروا في رؤوسهم ونفخوا فيها وحشوها بالتخاريف والأوهام ". وطالما أن هولندا وغيرها، قد فتحت سابقاً، أبوابها وشرّعتها لاستقبال هؤلاء المهاجرين. والمسؤول، فعلاً، وقولاً حقاً، هم من ما زالوا يمارسون سياسات عنصرية ضد الأديان الأخرى، ويمنعون الآخرين من ممارسة معتقداتهم وشعائرهم الدينية، ويغلقون الأبواب في وجه أبناء جلدتهم، ويفرضون عليهم نظام الكفيل، والاستعباد، والفيزا، ويجرَّدون الناس من جنسياتهم ولا يمنحونهم اإياها، ويبقونهم "بدون" هويات في جرائم عنصرية جماعية تتفاعل تأثيراتها الاجتماعية، والسياسية، والقانونية مع الأيام.
يبدو إذن، أن الأمور باتت تتجه نحو مزيد من التصعيد، والتأزم بين الجاليات المسلمة في أوروبا، بشكل عام، وهولندا، بشكل خاص، والبالغ عددها هنا قرابة المليون نسمة. وقد تجلى النفور، والتوتر، ووصل الانفصام، والفرز والتباعد ذروته مع اغتيال المخرج الهولندي ثيو فان كوخ، وهو بالمناسبة حفيد الرسام الشهير، وذلك على يد الشاب المغربي محمد بويري في 2 نوفمبر تشرين ثاني 2004. بويري الذي كان عضواً في جماعة التكفير والهجرة، دمّر مستقبله بعد أن تعرض للتعبئة، وغسل الدماغ، وحُكم عليه لاحقاً بالأعمال الشاقة المؤبدة، وما تلا ذلك من أعمال انتقامية طالت بعض المسلمين الآمنين الأبرياء. وفي الحقيقة، فلقد اختل ميزان العدل وتعرض للانتهاك، منذ أن أخذت بعض من جماعات التأسلم السياسي على عاتقها مهمة تحقيق العدالة بيديها على الأرض، والقصاص من "المرتدين، والمارقين الكفار" وذلك حسب أدبياتها، بكل ما في ذلك من تعارض، وتحد صارخ على اختصاصات العدالة السماوية نفسها. ومن يعتبر هذه الدول ديار حرب، وكفر، وشر مستطير، فحري، والأولى به، ألا يطأها، وألا يدخلها إلا "فاتحاً، أو محرراً"،(ودائماً حسب أدبياتهم وخطابهم)، أو أن يقبل العيش بقوانينها، ويتشرب ثقافتها، ويتفهمها طالما أنه اعتبرها موئلاً، ومنقذاً، وملاذاً أخيراً له.
ويبدو أن الأمر لن يقف عند هذا الحد، إذ تقوم هذه الجماعات بدفع كثير من المغرر بهم من الشبان، والفتيان، نحو الصدام مع مجتمعاتهم، وتبني مواقف عدائية ضدها، بكل ما يستتبع ذلك من ردود أفعال سلبية عامة، لا تدخل في صالح تلك الجاليات المهاجرة على الإطلاق، وبدأت تشعر بتضييق الخناق حول عنقها. وما الإجراء الهولندي الأخير إلا أول الغيث الذي قد يجرف معه إمكانية التعايش بسلام إلى الأبد. لا بل تعمد بعض من هذه الجماعات، وفي عملية تحدٍ واضحة للقوانين، والأعراف، والتقاليد السائدة في هذه البلدان، على استفزاز الآخر المحتلف بإبراز الشعارات، والرموز الطائفية، وادعاء العصمة، والتفرد، والنجاة، في مجتمعات تعيش على التسامح والتعايش بين الجميع ودون تمييز، أو تحيز، وعنصرية.
والسؤال الأهم، ألا تخشى هذه الجماعات، من بروز جماعات دينية نازية ومتطرفة، على الطرف الآخر قد تتمتع، يوماً ما، بتأييد "شعبي ضمني عام"، تحاول الاقتصاص من مهاجرين أبرياء، وبسطاء لا ناقة لهم ولا جمل بكل هذا الصراع، وبما يحدث من تصعيد واستغلال، واتجار بالأديان؟
إنها نهاية حقبة. وإن تلك السياسات التي انتهجها بعض المتطرفين، والغلاة المتعصبين والمسيسين لم تصب أبداً في صالح المسلمين، وفي خانة التعايش والوفاق، والأمن الأهلي والمدني في هذه المجتمعات. وهم بسياسات التحريض والتصادم والمواجهة، هذه، يساهمون، عن جهل أو علم، بخسارة المهاجرين للكثير من المكتسبات، التي كانوا يتمتعون بها في ظل هذه الدول العلمانية التي آوتهم من الظلم، والقمع، والطغيان، وسيأتي، لا بدّ، اليوم الذي سيحن فيه كثيرون إلى "الأيام الخوالي" من التسامح والتعايش التي أطاح بها الجهلة والأدعياء. وقد يتحول هذا، في مراحل متقدمة، لموجة شاملة، من الإجراءات القاسية والانتقامية، قد تحتاج أوروبا بكاملها، إذا لم يتوقف أولئك المهووسون عن هذياناتهم، وهلوساتهم لإقامة دولة الخلافة والإسلام، في ديار الكفار. كما يغلقون، في ذات الآن، الباب، نهائياً، أمام آخرين يجدون أنفسهم محشورين في بيئات الاستبداد، ومضطرين للخلاص، ويفكرون بالهجرة والفرار، في معادلات مقلوبة تثير الدهشة والاستغراب، من ديار "الإيمان إلى ديار الكفار"، ويجدون فيها الخلاص، والأمن، والأمان.