بعض ملامح استراتيجية النصر

 حمزة الجواهري

لم تصدر الدراسة التي كلفت بها لجنة بيكر - هاملتون لحد الآن، فهي في مرحلة الصياغة النهائية، والتي يعتبرها أحد أعضاء اللجنة أهم مرحلة في العمل، والسب في الصعوبة فيها أن اللجنة مازالت تبلور أفكار نهائية قابلة للتطبيق بحيث تستطيع تحديد "استراتيجية نصر" نهائية في العراق. وما تسرب منها لحد الآن يعتبر وجهات نظر شخصية أحيانا متضاربة حول مضامينها للحد الذي بدت به أمريكا وكأنها منقسمة بشأن العراق، أو إنها تتخبط كما يصفهم البعض. لكن ما يثير السخرية، حد الشفقة، هو أن المعسكر الذي يدعم استراتيجية خروج فوري أو سريع، أو معسكر التمني بأن تكون الاستراتيجية تهدف من حيث الأساس للهروب فورا قبل أن يسقط المزيد من الضحايا الأمريكان! هذا المعسكر راح يناقش ويدير الندوات ليل نهار أملا منه بالتأثير على الصياغة النهائية وإدراج تمنياته في هذه الاستراتيجية الجديدة ما دامت لم تنتهي كتابتها لحد الآن.

من أهم ملامح الاستراتيجية الجديدة هي تحقيق النصر، لذا سميت "باستراتيجية النصر" وليس الهروب بعد أن أوصلوا العراقيين إلى منتصف البئر على حد تعبير أحد المفكرين الليبراليين، لأن الكاتب قد وقع كغيره من المحللين تحت تأثير خطاب الديمقراطيين الذي ألهب ظهر الإدارة الأمريكية بسياط التقريع لكن لم يتحدث أيا منهم لحد الآن عن البديل بشكل واضح، لأن استراتيجية الحزب قبل الانتخابات كانت منصبة من حيث الأساس على نقد سياسة إدارة بوش بما يتعلق الأمر بالعراق، ولم يبلوروا سياسة بديلة لحد هذه اللحظة، لذا بقي هذا الفريق أسيرا لخطاب النقد والتقريع معولين على لجنةبيكر – هاملتون المشتركة بين الحزبين أن تأتي بما ينسجم مع خطابهم، إلا أنها لم تأتي بما تشتهي السفن، حيث بدت ملامح الاستراتيجية الجديدة تتضح أفكارها بالكامل تقريبا، وما هو أكيد لحد اللحظة أن النصر مطلوب حتى لو كان غاية بالصعوبة، لأن الانسحاب يعني الهزيمة والهروب المخزي للدولة العظمى. أما مشكلة المعسكر العربي الداعي لانسحاب فوري أو سريع، فإنه بقي يناقش فقط ما يطرحه الديمقراطيين من أفكار متضاربة دون الخوض في التفاصيل أيضا، أملا منهم وكما أسلفنا، أن يجد الهذيان طريقة لتقرير اللجنة في صياغته النهائية.

مما لا شك فيه أن الهروب يعني انتصارا كبيرا لسوريا وإيران، انتصارا حاسما ومدويا، وهذا الأمر مرفوض من كلا الطرفين في لجنة بيكر وهاملتون، أما إشراك هاتين الدولتين في الحل السياسي للحالة العراقية قد يعني أيضا نصرا لهاتين الدولتين على المشروع الأمريكي العراقي في المنطقة، وهذا ما رفضته معظم الأطراف أمريكيا وعالميا في حال تم اللجوء إليه من منطلق الضعف والشعور بالهزيمة، لكن اللجنة لم تنتهي من هذا الأمر بعد، فإن قنواتها قد فتحت مع إيران سرا كما تطالب به إيران دائما، ذلك لأن الإعلان عن أي مفاوضات مباشرة مرفوض إيرانيا رفضا قاطعا، وهو السبب الذي أفشل المساعي السابقة، حيث كانت رايس قد أعلنت عن هذه المفاوضات قبل انطلاقها. أما ما فعلته لجنة بيكر وهاملتون مع سوريا لا يقل أهمية عما تفعله مع إيران، إذ لحد الآن عقدت اللجنة أكثر من عشرة لقاءات مباشرة مع المسؤولين السوريين، وها هو رئيس الدبلوماسية السورية يتنقل من حضن عراقي إلى آخر من أصدقاء الأمس أيام كانوا في المهجر، ويعيد العلاقات الدبلوماسية مع بغداد بعد قطيعة دامت عقود!

فإذا كانت الملفات السورية التي تحتفظ بها الولايات المتحدة كثيرة ومتنوعة، فإن ملفات إيران أكثر منها وأعظم خطورة، خصوصا ملف تصدير الثورة الذي يثير الذعر في العواصم العربية، لما يحمله من مفارقات تثير غرائز التفكير العقلاني بحدة، حيث بالرغم من تحدي الجماعات الإسلامية المنتشرة في العالم الإسلامي لمشاعر الشيعة في العراق وتصدير الإرهابيين لهم وإصدار الفتاوى التي تبيح قتلهم، بذات الوقت نجد أن معظم تمويلها يأتي من إيران! هذه المفارقة تعني قطعا أن إيران لا تكترث لشيعة العراق بقدر اهتمامها بالحركات الإسلامية أينما كانت، ويعني أيضا أن إيران تعمل وفق برنامج تصدير للثورة الإسلامية واضح المعالم على حساب كل شيء، وهو الذي أنعش إلى حد كبير المجموعات الإسلامية المتطرفة عموما في كل مكان، ولم يعد سرا على أحد أن إيران قد دخلت في تنافس محموم مع السلفيين الأغنياء بالسيطرة على الساحة السياسية الإسلامية.

هذا الملف، ملف تصدير الثورة، يعتبر اليوم أكبر بكثير من الملف النووي، وما الملف النووي باعتقادي إلا محاولة إيرانية لصرف الأنظار عن هذا الملف الخطير والمرعب. فها هي مصر قد أدركت أخيرا الخطر، وأعلنت عن البدء بكتابة قانون لمكافحة الإرهاب على غرار القانون العراقي، لأن قانون الطوارئ لا يفي بالغرض ولا يحارب الإرهاب في مصر على حد تعبير الرئيس المصري في خطابه أمام البرلمان، بهذا القانون تريد مصر الاستعداد لموجهة الإرهاب الحقيقي للجماعات الإسلامية الإرهابية، مستفيدة بذلك من التجربة العراقية الغنية جدا.

أما الملفات الإيرانية خليجيا فإنها لا تعد ولا تحصى، وأي واحدة منها تثير الرعب في نفوس الخليجيين بما يسمح بأن تكون هذه البلدان مسرحا واسعا للعمل ضد إيران، أما العراق المنكوب، ففي حال لم يتوقف العنف فيه، سيكون الخيار الأخير بالنسبة له المواجهة مع من يسيء له مستعينا بالعضلات الأمريكية، لذا فإن الحديث عن ترك العراق والهرب منه، يعتبر من المحرمات أمريكيا، ومجرد التفكير به يعتبر سذاجة سياسية مطلقة لا تدرك خطورة هذه الملفات بالنسبة للمنطقة والعالم، أمنيا واقتصاديا وسياسيا.

لقد أصبح بحكم المؤكد أن هذه الاستراتيجية سوف تستعمل اليد الحديدية بدلا من تلك اليد المتراخية وفق نصائح زلماي والعرب من أصدقاء أمريكا، لذا كانت تحركات أمريكا بهذا الصدد واضحة جدا، كان أولها التحرك السريع للبنتاغون بإرسال57 ألف جندي، سبقها حديث للرئيس الأمريكي عن زيادة لا تقل عن عشرين ألف جندي في بغداد فقط، وهو بالضبط ما توقعته في المقالة السابقة التي كانت بعنوان " بعد أن هدأت رقصات الموت البعثية"، حيث أن استراتيجية النصر لا تعني الهرب من ساحة المعركة بأي حال، بل تعني الضرب في مقتل والعمل بذات الوقت على حل سياسي مناسب يرضي جميع الأطراف.

من المسلمات في السياسة أن الصراع في المنطقة لا يمكن أن ينتهي عند أزمة العراق، لذا يجب أن لا يبقى على حساب العراقيين فقط، وهو أمر تدركه سوريا وإيران معا، ويدركون أيضا أن استمرار قتل العراقيين هكذا بلا أخلاق سوف لن يمر بدون عقاب، إن عاجلا أم آجلا، لأن الدولتين تربطها بالعراقيين وشائج التاريخ والجغرافية والمصالح المشتركة والعلاقات الاجتماعية لا يمكن التغافل عنها بسهولة والاستمرار بلعب أدوار النذالة والقذارة المفضوحة ضد الشقيق بحجة الصراع مع أمريكا، ولا يمكن التغافل عن دور العراق الاستراتيجي في المنطقة والعالم مستقبلا، ولا يمكن الزهد بالمنافع الاقتصادية العظيمة التي تجنيها الدولتين، خصوصا سوريا، من العراق في حال استقرار الأوضاع الأمنية فيه، كما ولا يمكن أيضا أن تستمر الدولتان هكذا دون أن تتقاطع مصالحهم في العراق، لأن كلاهما يدعمان الأطراف المتصارعة داخليا، وهو ما يعني أن الدولتين سيتواجهان بشكل مباشر في المعركة العراقية الداخلية، يوما ما قريب، في حال استمر الوضع على ما هو عليه الآن، لأن مثل هذا التقاطع، بلا شك، ستكون له نتائج كارثية على مستقبل أي من الدولتين.

خلاصة القول، كلا الجارين يعرف حق المعرفة أن الصراع مع أمريكا سوف يبقى مستمر سواء كان بقتل العراقيين أو بغير ذلك، وإن الصراع أكبر من أن يكون بقتل الطفل البريء بلعبة ملغمة، ولابد أن يكون لدى المسؤولين في هاتين الدولتين قدرا من الإحساس الإنساني ويطرحوا على أنفسهم السؤال الذي حير الشرفاء في العالم، السؤال الذي يطرح مع كل قطرة دم تراق:

ما المصلحة من الاستمرار بقتل العراقيين الأبرياء مادام الصراع أبعد كثيرا من حدود الدم العراقي؟ خصوصا وأن الخروج من هذه الحالة سوف يتمخض عنه بعض المكاسب التي لم تكن سوريا أو إيران تحلمان بها ؟

داخليا، أي في العراق، وبعد أن تبين أن مشروع زلماي، الذي عمل في صفوف الطالبان فترة من الزمن، كانت نتائجه كارثية بكل المقاييس، فقد أغرقت تلك السياسية المتراخية مع الإرهاب العراق بالدم، وهذا يعني أن ما نجح بتطبيقه في أفغانستان لا يمكن أن ينجح في العراق، لأن سياسة الحوار والمصالحة بدون استخدام القوة مع من يريد استعادة السلطة كاملة غير مجدية، بل تعطي انطباع للإرهابيين أنهم الأقوى وإن النصر آت بلا ريب، وإن أمريكا سوف تهرب من العراق بمزيد من القتل وإشاعة الفوضى، وإن عدم تفعيل قانون مكافحة الإرهاب العراقي سببه خوف العراق والأمريكان من تطبيقه، وليس كجزء من مشروع زلماي الذي تبنته الإدارة الأمريكية بضغط من الحكومات العربية. وهكذا غدا واضحا أنه من الضروري تفعيل هذا القانون وكتابة قوانين مشابهة له في الدول العربية المرشحة لانتقال الإرهاب إلى أراضيها. وقد بدأ بالفعل تطبيق قانون مكافحة الإرهاب العراقي، وأول مذكرة يصدرها قاضي عراقي وفق هذا القانون كانت بحق الإرهابي الكبير حارث الضاري، كونه من أكبر دعاة الإرهاب وتأسيس الدولة الإسلامية السلفية التي تؤمن بمبدأ "الولاءوالبراء" الخطير، والذي يكفر كل من يسير على وجه البسيطة ويستبيح دمه وماله وعرضه. وليس غريبا على عمرو موسى أن يتدخل من جديد لوقف تطبيق هذا القانون، على الأقل في العراق، لكي يستمر الأوغاد الذين أرسلوهم بالقتل، وهذا الموقف ليس جديدا عليه، فالرجل قد أثبت أنه من أشد المؤيدين لقتل الشعب العراقي تحديدا، وقد عطل أكثر من مشروع يحقن دمائنا، ولم يكترث يوما ما للدماء الغزيرة التي تراق يوميا، بل كان فرحا بها، لأنها سوف تكون سببا بتوفير المزيد من فرص التوظيف للمصريين في العراق مستقبلا، وهذا أحد الأسباب الواضحة، لكن ما خفي أعظم.

مما لا شك فيه أن السياسة الزلماوية قد ألقيت في سلة المهملات، ومن المؤشرات القوية على استخدام اليد الحديدية وفق استراتيجية النصر الجديدة، هو إطلاق يد قوى الأمن العراقية التي تبين أنها فعلا قوية، وإن ضربها مؤثرا ويصيب بمقتل، كما تم طرد الآلاف من العناصر التي اخترقت قوى الأمن العراقية والتي كانت أحد أهم الأسباب التي شلت من قدراتها، لكن المؤشر الأقوى، هو تراكض قادة الإرهاب في العراق المشتركين بالعملية السياسية للخارج طلبا للنجدة والعون، أو هربا من مصير محقق كمصير الضاري، تاركين ورائهم ألائك المغرر بهم والمرتزقة من عناصر المقومة اللقيطة يواجهون المصير المحتوم، ولم يقف الأمر عند الجماعات الإرهابية، فالمليشيا الشيعية هي الأخرى عليها أن تحل نفسها، لأن الحكومة تبدو مصممة جدا على حلها بالقوة إن بقيت مصرة على حمل السلاح، لأن اليد التي تحمل السلاح بدون تصريح في المرحلة القادمة ستقطع، هذا إذا أردنا للعراق أن يستقر. لكن المؤشر الأبرز هو ما سمي بصحوة أبناء الأنبار، لأن أبناء الأنبار لم يكونوا يوما ما بغافلين عن جرائم التكفيريين، فإن عشائر الرمادي تدرك أكثر من غيرها مدى استهتار هذه الجماعات بالعراقيين من أي مكون، ولا يهمها الضحية إذا كان أحمر أو أصفر، فهي ليست صحوة ولكن إطلاق أيادي الشرفاء بالذود عن الدار والعرض والمال، وهي انطلاق لحرب ضروس على الإرهاب البعثي السلفي في ملاذاتهم الآمنة، وهناك الكثير من المظاهر الأخرى التي تدل دلالة واضحة على أن اليد التي ستضرب الإرهاب ثقيلة جدا.

هذه المظاهر التي نراها دفعة واحدة، لابد أن تكون ضمن توصيات لجنة بيكر وهاملتون المتفق عليها أمريكيا وعراقيا وعالميا، وهي جزء من "استراتيجية النصر" التي بشرت بها اللجنة، وما على الباقين سوى مراجعة مواقفهم لأن الآتي بلا شك سوف يكون أعظم.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com