الهَيْلَمة السياسية

نضال نعيسة / لندن

sami3x2000@yahoo.com

كل الدلائل، والتصريحات، والإيحاءات المبطنة، ومن جهات بعينها، كانت تشير بأن حدثاً سياسياً بارزاً كان على وشك الوقوع في لبنان. هذا، ويعتقد، في المرة القادمة، "إن شاء الله"، وعلى نطاق واسع، بأن نفس تلك التيارات السياسية، ستقوم بتحديد مكان، وزمان، لا وربما، الشخصية المعنية بالتصفية، ودون أن تقوم الجهات، إياها، وبنفس الوقت، بأي جهد، أو عمل، لمنع وقوعه. والسؤال الهام هنا، إذا كانت هذه الجهات، على هذه الدرجة العالية من الحدس السياسي العالي، والقدرة على استكشاف، والتنبؤ بالغيب السياسي، لِمَ لم يتربصوا، مثلاً، بالجناة، ويفشلوا الجريمة، ويقتادونهم إلى العدالة؟ إن عملية "التمهيد الإعلامي"، غير المسبوقة هذه، ثم توجيه الاتهام لناحية ما، هو أمر غاية في الغرابة، في تاريخ الجريمة السياسية، ويثير الكثير من علامات التعجب، والاستفهام، والتساؤلات. والأنكى من ذلك أنه مطلوب من الجميع أن يَنـْجَرّ وراء هذه "الهيلمة، والطوشة، ومبدأ "عليهم يا عرب"، ويعتمده كمدرسة سياسية جديدة، بدل "الكتاتيب" المضحكة السائدة في هذه الأيام.
ولا يمكن، في حقيقة الأمر، النظر إلى جريمة اغتيال الوزير بيار الجميل الآثمة، بمعزل عن جملة من الشروط، والمناخات السياسية السائدة، في ذات الوقت، في خلفية المشهد الحافل بشتى الدلالات، لتلقي عليها ظلالاً كثيفة، لا يمكن لمراقب حيادي، وموضوعي تجاوزها البتة، حتى ولو كانت أوركسترا الهيلمة، والصخب، والضجيج الإعلامي الهادر، تسيطر على الأجواء عامة، وتحجب الرؤية السليمة، والتمييز، عن البعض، أحياناً. غير أن العنصر اللافت والأبرز، هو الحاجة، والرغبة لدى أبطال المشهد لخلط، وبعثرة الأوراق، واستغلال أي حدث خدمة لمشروعها السياسي، وليس للصالح العام، في ظل غياب، أو تغييب لافت لأية إشارة إلى أي دور حكومي أوتحميله، ولو بجزء يسير، لأية مسؤولية عما جرى، وتحديداً لجهة التسيب والإهمال في حدوث عملية بهذا الحجم الكبير، وفي وضح النهار، وطالت مسؤولاً وزارياً، وحزبياً بارزاً، من غير أي رد فعل أمني يذكر. وتبقى هذه الجزئية، التي تحاول "الهيلمة" السياسية، ذاتها، تغييبها عن الأذهان، أمراً هاماً، يخلف وراءه عشرات علامات التعجب. كما إن كثرة المتصارعين، والفرقاء المتنافسين، وتضارب المصالح المتباينة والأهواء، والتيارات المختلفة، تحتـّم، ومن باب إعمال العقل والمنطق، توسيع رقعة النظر، بغير تلك الاتجاهات المعتادة التي دأب البعض على تركيز الأضواء عليها. وإنه من غير الممكن، ومن السذاجة السياسية، بآن، أن يتم، في كل مرة، هكذا، توجيه الأنظار باتجاه معين، وإلغاء احتمال وجود طرف ثالث، أو رابع، وربما سادس عشر قد يكون له مصلحة، مباشرة، أو غير مباشرة في فعل سياسي بهذا المقدار.
ولعل من أهم تلك الشروط، هو الوضع السياسي الداخلي اللبناني المتداعي الذي بدأ بالتفكك شيئاً فشيئاً، لصالح ما يسمى بقوى المعارضة، التي هددت بالنزول إلى الشارع، وخطت خطوات لا بأس بها في مشروعها لتشكيل حكومة وحدة وطنية، بكل ما في ذلك من ضعضعة، وإضعاف لموقف "الموالاة"، وإن جريمة اغتيال كبيرة قد تكون كفيلة بإعادة شريط الأحداث بضعة أمتار قليلة إلى الوراء، ولجم ذاك الاندفاع.
بنفس المؤثرات الجنائية، وفي محاولة للتأثير على جلسة مجلس الأمن، تم اغتيال جبران تويني عشية مناقشة تقرير ميليس، ويأتي اليوم، أيضاً، اغتيال الوزير بيار الجميل، في نفس الوقت الذي يجتمع فيه مجلس الأمن، وفي محاولة دؤوب، ظاهرة، لدفع وجهة نظر المجتمع الدولي، والأمم المتحدة باتجاه، وقولبة الرأي العام، وفق غايات محددة، للوصول إلى استناجات بعينها، وبانتقائية بارزة، ولا تخطئ، للون، ونوعية، وحجم الضحية.
ويبقى العنصر الآخر، ألا وهو ذاك الاختراق الدبلوماسي والسياسي الذي تجلى بزيارة الوزير المعلّم لبغداد، وما نتج عنها من قرارات، سحبت البساط من تحت كثيرين، وخلقت واقعاً لوجستياً مختلفاً تماماً عما كان، وبدا كما لو أنه عودة جديدة، وقوية إلى قلب المشهد بعد محاولات شرسة من التغييب والإهمال. ولم يكن هذا ليتم، لولا عين الرضا الدولية، لا بل مباركتها لدور فاعل لدول الجوار في الأزمة العراقية المستعصية. وكانت الحفاوة البالغة، والابتسامة العريضة جداً للوزير زيباري، تحمل الكثير من المعاني، والمضامين العميقة، الدلالات. ومن هنا كان لابد من حدث سياسي طاغ، وأكثر أهمية لتدارك هذا "الانحراف" الطارئ و"المخيف"، والخروج عن المسار، وعما هو موجود في بعض الأجندات. ولتغييب هذا الحدث، وصرف الأنظار كلياً عنه، لم يكن هناك بد من زلزال سياسي آخر، وعملية اغتيال، وبهذا الحجم، تمكّن من تحقيق هذه الغاية.
أن ما يحدث هو محزن، ومؤلم، فعلاً. محزن لجهة هذا الموت الدامي، والمجاني، واسترخاص أرواح الناس لحصد مكاسب سياسية. ولكن الأشد حزناً، وإيلاماً هو هذه الهيلمة السياسية، واستسهال الاستنتاجات، والقفز فوراً إلى تصورات، وأحكام مسبقة، تحتاج لكثير من البراهين والمعطيات، وتبدو ساذجة، وغير ذات بال، في كل معايير التعقل، والمنطق، والاستبصار.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com