|
بغداديات.. دالغة ابو مطشّر بهلول الكظماوي / أمستردام
(ابو مطشّر) رجل بسيط، كان حينها في الثلاثينات من عمره, طيب القلب، فقير الحال، امّي لا يقرأ ولا يكتب. قدم الينا ابو مطشّر من مدينة العمارة الجميلة، وهي مدينة ناسها طيبون، ولكنهم يعيش الغالبية منهم دون مستوى خط الفقر على الرغم من تصنيفها دولياً (مدينة العمارة) أغنى مدينة في العالم من حيث الثروات الطبيعية المكنوزة فيها. امتهن ابو مطشر مهنة الحمالة في السوق التجاري عندنا في الشورجة ببغداد (حمّال عباية)، وحمّال العباية يختلف عن حمال (الجندة)، وذلك ان حمال الجندة هو من يلبس الجندة التي تشبه بـ (الجلال) السرج الذي يوضع على الحصان، ولكنها أخف وزناً واكثر ليونة وطراوة منه، فتوضع الجنده على ظهر الحمال وتحمل البضائع فوقها. أمّا العباية، فهي فعلاً كالعباءة مربعة الشكل وكبيرة الحجم وتكون من النوع (الجزّيـّة)، أي من الصوف الخشن السميك والقوي وتكون لها اربعة اطراف، فتفرش في الارض وتوضع المواد المراد نقلها عليها في منتصفها، وتطوي اطرافها الاربعة على الحمولة ليعقد طرفين متقابلين منها، امّا الطرفان المتقابلان الآخران فيعقدان على شكل هلال لتتدلّى العباية الحاملة للمواد على ظهر الحمال والهلال يوضع في رأسه، فيتوازن الحمل موزعاً على الرأس والظهر والاكتاف والسواعد. كان صاحبنا (ابو مطشّر) حمال عباية جزية، ومن سوء حظـّه العاثر انه كان مبتلى بداء السكّر، فكان لا يقدر أن يأكل أي شيئ حلو المذاق. ولكننا وجدنا في أخلاق أبي مطشّر وحسن معشره ونكاته اللاذعة وطرائفة يحتوي على حلاوة طالما فضّلناها على كلّ الحلويات. فكانت من ضمن (دالغاته) انه يقول : انه حلو فكيف يأكل حلوا ؟. و الدالغة في اللهجة العامّية البغدادية تعني الفكرة، والفذلكة والاطراقة في التفكير لتحصيل مخرج من مأزق وطريقة للافلات من مصيدة. و كلمة (دالغة) مأخوذة من أيام الاتراك، فهي تعني باللغة التركية الاستغراق في التفكير : dalginlik ____ dalgin و ألآن استعيض عنها شعبياً بكلمة (فيكة). نعود لأبي مطشّر، حين صادف في احدى الايام عيد الفطر، وبعد عطلة العيد فتحنا محلاتنا كالمعتاد، ومن الطبيعي أن نضع في مثل هذا اليوم حلويّات وسكاكر العيد (حامض حلو وجكليت) لضيافة الزبائن والزوار والجيران الذين يقدمون الينا في محلاتنا. و لمّا قدم ابو مطشر مهنّئاً بالعيد أخفينا عنه (قندون، وشكردان) الحلويات احتراماً لمشاعره لاصابته بداء السكّر وعدم قدرته أن يأكل منها، وكان حاضراً أحد الضيوف الذي لا يعلم عن مرض ابي مطشر بالسكري شيئاً، فأخرج هذا الضيف الحلويات وقدّمها اليه، فشكره ابو مطشر وقال له : صحيح أنا لم اذقها مسبقاً لأنني مصاب بالسكري ولكنني أعرفها انها (خوش جكليته طيبه) أي اعرفها بانها حلويات طيبة وجيدة رغم عدم أكلي لها سابقاً. فردّ عليه ضيفنا : وكيف عرفت ذلك ؟ فأجابه ابو مطشّر : لأن ابن عم حمدنه يعرف اللي ماص كاغذهه !، أي لأبي مطشّر صديق اسمه حمد، وبن عم حمد هذا يعرف الذي كان قد لعق الورقة التي يغلّف به هذا النوع من الحلويات !. فكانت حينها هذه الحادثة مثلاً نضربه كلّما حصلت حادثة مشابهة لها فنقول : (هم هذي مثل دالغة ابو مطشّر ؟). و ألآن عزيزي القارئ الكريم : دالغة ابي مطشر تذكّرني اليوم بدالغة الاستاذ الدكتور عدنان محمد سلمان الدليمي وخطابه قبل اسبوع في الاردن الذي القاه في مؤتمر الذكرى المئوية لولادة الشهيد الشيخ حسن البنا (رحمه الله) مؤسس حركة الاخوان المسلمين في مصر. فقد قال الدكتور عدنان الدليمي محذراً السنة العرب المجتمعين في المؤتمر، محذراً اياهم من السماح لبغداد أن تسقط في ايدي الصفويين، ويعني بهم الشيعة. و قطعاً ان الدكتور عدنان الدليمي لم يلتق في يوم من الايام بالشيخ حسن البنا (رحمه الله)، وحاله (الدليمي) هنا حال ابي مطشرنا الذي لم يكن قد ذاق طعم الجكليته، بل حكم عليها من خلال مص بن عم صاحبه حمد لورقة تغليفها. بل حتى (الدليمي) لم يسبق له أن قرأ أفكار الشهيد البنا المعتدلة، وحتى لم يستقرئ سيرة البنا المعتدلة وتقاربه مع الشيعة ولقاءآته المتواصلة مع العالم الشيعي الايراني السيد نواب صفوي، وكيف انهما (البنا وصفوي) كثيراً ما كانا يلتقيان في مشتركات فكرية اسلامية. بل لم نقرأ بكل سيرة المرحوم حسن البنا أيّة خصومة وعداء للشيعة والتشيع بصورة عامة وللصفويين بصورة خاصة. علماً أني كاتب هذه السطور لا أعتبر الصفويين يمثلون بتصرفاتهم الوجه المشرق للشيعة وللتشيّع مثلما لا أعتبر العثمانيين والوهابيين يمثلون الوجه المشرق للسنة والتسنن، فكلّهم (الصفويون والعثمانيون والوهابيون) بشر غير معصومين وفيهم المخطئ كما فيهم المصيب. نعم قد يكون للصفويين الايرانيين ذنب كبير اقترفوه مما أوجد لهم ضغينة عند الدكتور عدنان الدليمي, الا وهو اعتناقهم لمذهب التشيّع بعد أن تعلموه من اهله العراقيين. عزيزي القارئ الكريم : المعارك الكلامية التي تدور داخل اروقة البرلمان العراق وفي خارجه، وما هي داخل العراق منها وفي دول الجوار، والتي لا يمكن أن نفصلها عن التصفية الجسدية والتفخيخ والتفجير والقتل العشوائي الذي يطال كل المواطنين العراقيين ومن كل المذاهب والاديان والقوميات بدون اشتثناء، كل هذه المعارك والمجازر لا مذهب ولا دين ولا قومية ولا لون عراقي ولا طعم عراقي ولا رائحة عراقية لها (سوى لون وطعم ورائحة حزب صدام ونظامه وايتامه يضاف له الارهاب القادم من خارج الحدود) لابقاء العراق في دوامة وأزمات يستفيد منها الاحتلال الغاشم (نعم يستفاد منها الاحتلال وحده، لا غيره) في طول بقاءه. فما أن توشك حالة من الاستقرار للوضع الامني أن تتحقق الاّ ونفاجأ بتفجيرات لهذا الوضع واقلاق راحة وازهاق لارواح المواطنين العزل خدمة لادامة الاحتلال بدون اي مقابل يحصلوا عليه، (حتى انهم سوف لن يحصلوا على مصّة من كاغذهه). و اعتقد جازماً ان حادثة اغتيال بيار الجميل في لبنان ما هي الا حالة من حالات زعزعة الامن واقلاق المواطن العراقي الذي بدأ متفائلاً بزيارة وليد المعلم وزير خارجية سوريا وبداية لتقارب عراقي سوري واعد. ثم ما حصل مؤخّراً من تفجير سيارة رئيس البرلمان العراقي في مرآب البرلمان وهو من ضمن المنطقة المحمية من قبل قوات الاحتلال، ثم اغتيال احد مرافقي البرلمان واصابة المرافق الآخر في اليوم التالي...الخ ما ذلك الا رسالة بأن الاحتلال من مصلحته ادامة القلق وحالات الفوضى على ما هي عليه. بسم الله الرحمن الرحيم ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين. صدق الله العلي العظيم. ودمتم لأخيكم
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |