|
مشاهد فيلية - عرس تحت وابل النيران الدكتورة منيرة أميد / بغداد المكان : احد أحياء بغداد فكرت في ابنتها الصغرى وعرسها المرتقب، تنفست صعداء أحست انها قد أدت واجبها، في حسن تربيتها، وأصرارها على تعليمها في ارقى جامعات بغداد، في هذا الزمن المضطرب، الذي لا يضمن فيه الشخص حياته ولو لدقائق أولحظات. التاريخ يكتب بدم الابرياء، الذين يقتلون وبدم بارد، ودون اية جريرة او ذنب، وليس هناك من يعمل على ايقاف نزيف الدم جاري لسنوات، رغم كثرة الصراخ عن خطط أمنية ووابل التصريحات والمبادرات، من سياسين يمسكون بمصير العالم، وآخرين يبحثون عن مكاناً لهم فيه. الاوضاع تسير الى المجهول .. وليس هناك بارقة أمل. كانت تشكو في السابق من انقطاع التيار الكهربائي، وجدته اليوم نعمة، لانها فرصة، لكي لا ترى ما يعرض على الشاشات من أفلام رعب حية، ابطالها اناس حقيقيون من أبناء بلدها. تذكرت مقولة جدها الذي كان يكرره دوماً. سيأتي زمان على العراق، سيسعى الجميع للهروب، وحتى أن كان ذلك زحفاً؟! انتفضت من الفكرة، وحاولت ان تبعدها عن تفكيرها. كانت دوماً تسعى للهروب وعائلتها من الواقع الذي وجدت نفسها فيه، ولكن كلما تصمم تقف في وجهها العقبات، فيثنيها عن المواصلة وتعلل نفسها ربما الظروف ستتحسن، والخير فيما يختاره الله. كانوا في خطر دام منذ عقود .. ولكنها أقرت أخيراً، الخطر لم يكن واضحاً وملموساً مثل اليوم، لانه متربص بك في كل لحظة وفي كل ركن، ليس هناك مكان آمن في هذا الوطن الاثير، الذي سمي ربما زوراً ببلد السلام، كما تزوّركل الاشياء هذه الايام. تركها زوجها قبل الاوان،، فقلبه الطيب المريض لم يمهله ليواصل معها رحلة الحياة، ففارقها في زمن ( الحصار) كما يكنى اليوم، لم يجد في المستشفى الذي اخذوه اليه، بعد اصابته بالجلطة، ما يستطيعون به أسعافه؟! فغادر وهو في ريعان الشباب. لا تعلم لماذا ذلك الصباح اوصاها بأبنتهما الصغرى قبل ان يغادر الى العمل كعادته؟! تركها تنوء تحت حمل ثقيل،وهو تربية أبناء ثلاث، لم تكن كبراهم قد بلغت الرابعة عشر. كانت هي تعمل موظفة في أحدى دوائر الدولة، في بلد أصبح فيه الموظف يستحق "الصدقة"* . وكان قبل ذلك بسنوات قد حرمها النظام من اهلها وأقاربها، اما بتصفيتهم او تهجيرهم . وجدت نفسها وحيدة، ومن حولها يستمدون منها هي العون. كانت المصائب المتالية قد صقلت شخصيتها القوية، المتحدية، فواصلت المشوار. انهت أبنتها الكبرى دراستها الجامعية، وتم تعينها في أحدى البنوك الكبرى، ولكن من خشيتها عليها، طلبت منها ترك العمل والجلوس في البيت، فتحت محلاً تجارياً لابنها الوحيد، ولكنها ايضاً طلبت منه ان يغلقه، لحين تتحسن الظروف؟! كانت تخاف عليهم بشكل مرضي. كانوا يلوموها من تبقى من أهلها. ولكن مع أصرارها والخشية من أي سوء قد يحدث، يجعلهم يتراجعون، متمنين معها، ان تتحسن الظروف. غداً تزف أبنتها الصغرى، الى ابن الجار، كانت تتمنى ان تجعل من هذا اليوم لا ينسى، وان تعلن عن الفرح الذي فارقهم منذ فترة طويلة، اتصلت بالاهل والاصدقاء والخلان. لدعوتهم الى العرس، ولكن طريقة الدعوة كانت تبدوا غريبة، تبدأ ان موعد الزفاف قد حدد منذ فترة طويلة، والعريس يستعجلهم، كما ان ابنتها سوف لن تبتعد، مجرد انها ستنتقل الى البيت المجاور. ثم تدعوهم للعرس، ولكن تؤكد انها تقدر الضروف، وانها سوف لا تزعل، ان لم يحضروا؟ ولكن واجبها أن تدعوا أحبتها، ومن تتمنى ان يشاركوها هذه المناسبة. تذكرت أحبتها واخواتها في خارج الوطن .. والتي كانت تحلم ان يكونوا الى جوارها. جربت الهاتف كثيراً، ولكن الخط اللعين لا يربط، اه ..واخيراً.. سمعت صوت شقيقتها الصغرى يتهادى الى مسامعها، فبادرتها قبل ان تتكلم متى العرس؟ فقالت غداً.. ثم تلاشى الصوت.. مرة يتمطط وأخرى يتقطع، لم تعد تفهم....تسمع ؟فضلت أن لا تستمر، المهم وصلهم الخبر. في المهجر تهاتفت الشقيقات، فعرفوا الخبر؟ قبل أسبوع اصيبوا بصدمة ؟ لدى سماعهم الاخبار عن عملية أرهابية جبانة، استهدفت عرساً في نفس الحي التي تسكنه أختهم. اللحظات ما بين سماع الخبر، والتحدث مع الاهل في العراق، كانت مرعبة، ولكن تنفسوا صعداء،ثم شعروا بتأنيب ضمير، عندما حمدوا الله، على سلامة اختهم وأقاربهم، لان هناك عوائل بريئة أخرى كانوا قد ذهبوا ضحايا تلك العملية الارهابية، لانهم مجرد أعلنوا فرحهم بعرس، هو من أول الحقوق الذي شرعه الله للبشر. أرادت أختهم مشاركتهم الفرحة وهي في المهجر، وعلى طريقتها. اتصلت بهم لتسأل عن الحضور، وماذا يفعلون . الليلة هي "ليلة الحنة" التي كانت من عادات العراقيين بكل طوائفهم الاحتفال بها الكل حسب تقاليدهم ومعتقداتهم. فلم تكن صينية الشموع والحناء تخلو من الياس، ومرآة ونسخة من القرآن الكريم والبخور في بيوت الفيلية. وكذلك لم تكن الليلة تخلو من الغناء والرقص والدبكة، وكانت الاغنية التراثية "كتان كتانة" ملح تلك الاحتفالات. رفعت السماعة وابتدأت بزغردة، افزع من كان على الطرف الاخر، فخجلت من الموقف، لانها أحسنت انها لا تفهم ما يعيشون فيه، وهم يخافون من اي شئ غير طبيعي، وان كانت زغرودة فرح. ولكن داعبتهم لتهرب من الموقف . وقالت هل انتهيتم من الغناء " وهل غنيتم، كتان كتانة؟؟؟ فاحست انها في مأزق آخر، قالوا لها، نحن نخاف ان يعرف احد انه هناك ثمة عرس، كي لا تنفتح شهية أحد الاخوة ( العرب) لفطورأو عشاء مع الرسول، فيأتي الينا كهدية على شكل مفخخة بشرية؟؟ احست بألم غامض يعصر احشائها، فكرت ان تسرق فرحة من هذا العالم البائس، فأرتدت على أعقابها، ولكن لكي لا تبدوا منهزمة، حلفتهم، ان يسرقوا الفرحة ولو للحظات، ليرقصوا على صوت التلفاز، اذا كان هناك ثمة أغنية .. ليغنوا " كتان كتانة،ولو مع انفسهم.. لآننا سنحول موسيقاه الى السلام الوطني، في الدولة الديمقراطية الفدرالية الموحدة!!! فكرت العروس وأهلها، نظراً الى انها لم تحضى بأي مراسيم يمكن ان يسمى عرساً، لتجرب الذهاب الى صالون الحلاقة، تعودت والدتها ارتياده منذ كانت صبية. طلبت الام ان تبقى هي مع من وصل من الاقارب،الذين جازفوا بالحضور. بينما غادرت مع اختها وخالتها. انتهت من تسريح شعرها، وتزينها، ووصل العريس مع أصدقاءه، ليأخذوها ومن معها الىالبيت، وصلوا الى الجسر المؤدي الى حيث يسكنون فوجدوه مقطوعاً، أستداروا في كل الاتجاهات ولكن جميع الطرق كانت موصدة، لم يكن يعرفون ماذا يحدث، أقترح احد اصدقاء العريس أن يذهبوا عبر الجسر المؤدي الى مدينة (الصدر) وهناك يمكن ان يدخلوا الى شوارع التفافية يمكن من خلاله العودة الى الحي الذي يقطنون فيه. عبروا الجسر،ولحظات و وجدوا انفسهم كمن دخل الجحيم، حرب حقيقية، القذائف تتساقط، الاشلاء متناثرة، النيران مشتعلة، آلاف المسلحين يملؤون الشوارع ويقطعون الطرق، تعرضوا للتفتيش اكثر من مائة مرة. الفال الحسن الوحيد في هذا اليوم، انهم ومنذ البدء تعرف عليهم أحد أصدقاء العريس من سكنة حي ( الصدر) فاستقل سيارته، واخذ يسبقهم ليفتح لهم الطريق، ويبدوا انه كان له مركز مأثر في المنطقة، فسهل لهم المرورولكن العروس ومن معها، كانوا كمن فارقوا الحياة من هول ما رأت اعينهم، وكأنهم مروا بيوم الحشر. الأم في البيت، تبتهل الى الله، وتناجيه، وتطلب منه ان لا يخذلها هذه المرة ايضاً، وان يعيد اليها أحبتها سالمين. الساعات تمر كدهور،اخيراً افلحوا في الوصول،بسلام ؟؟؟!!! والجميع ما زالوا في ذهول، لم يستفيقوا بعد. ومن حضر من المدعويين، مازالوا عالقين هناك، لانه أعلن عن حظر التجوال؟؟؟!!! ـــــــــــــــــــــــــــــــ * عند تدهور قيمة الدينار العراقي بعد حرب الخليج الثانية، اصبح الراتب الشهري للموظف يعادل بضع دولارات. لذا اصدرت فتوى من المرجعيات الدينية،تؤكد على ان الموظف يقع ضمن الفئة التي يمكن ان تشملها الصدقات.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |