|
في فيتنام .. لا وقت لاجترار الماضي د. عبدالله المدني / باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية زيارة الرئيس جورج دبليو بوش إلى هانوي في الأسبوع الماضي، وهي الثانية لرئيس أمريكي إلى هذا البلد منذ انتهاء الحرب الأمريكية – الفيتنامية قبل نحو ثلاثة عقود، لم تصاحبها أية مشاكل ومنغصات كيلا نقول أنها تمت في أجواء حميمية. على العكس من ذلك، قوبلت زيارة بوش إلى جاكرتا هذا الأسبوع بتظاهرات ضخمة شارك فيها الآلاف من الاندونيسيين الذين لم يكتفوا بالتنديد بالضيف وبلاده بل هددوا بقتله بعملية انتحارية ولجأ بعضهم إلى أعمال السحر والشعوذة من اجل إفساد رحلته. هذا علما بأن الفيتناميين، وليس الاندونيسيون، هم من صبت الآلة الحربية الأمريكية فوق رؤوسهم آلاف الأطنان من القنابل الحارقة وقتلت مئات الآلاف من شبابهم ونسائهم وأطفالهم في حرب دامت لأكثر من عقد. المشهدين المتناقضين السابقين إن عكسا شيئا فانهما يعكسان اختلاف ثقافتين. الأولى قادرة على تجاوز الماضي بكل آلامه ومآسيه وأحماله الثقيلة، والنظر إلى المستقبل بواقعية ومسئولية وإرادة حديدية. أما الثانية فعاجزة عن المبادرات الخلاقة بفعل استسلامها للأوهام والهواجس، فتلجأ إلى الضجيج والتهديد والسحر، وتركن إلى الشعارات الفارغة التي ما صنعت إلا المزيد من التخلف والانهيارات. والأخيرة على أية حال ليست ثقافة اندونيسية أصيلة بقدر ما هي دخيلة تسربت من مجتمعات الشرق الأوسط المحتقنة، ووجدت من يحتضنها وينشرها طبقا لتصريحات آخر ثلاثة رؤساء اندونيسيين في مناسبات مختلفة. ولأن الثقافة السائدة في المجتمع الفيتنامي هي ثقافة العمل والتعاون من اجل المستقبل وليس ثقافة المقاطعة واجترار الماضي والتجمد عند محطة تاريخية معينة، فانه حتى حكام البلاد، من الشيوعيين الذين لسنا في حاجة للتذكير بما بينهم وبين الولايات المتحدة والغرب من ثارات، تشربوا مفردات هذه الثقافة، وبالتالي لم يجدوا غضاضة في نسيان الماضي الكئيب والتعاون الشامل مع رأس النظام الرأسمالي، وهو ما لا يمكن توقعه من شيوعيي العالم العربي الذين هم في النهاية نتاج بيئة وثقافة مختلفة مأسورة بالماضي ومأزومة بنظريات المؤامرة. وهنا لا بد من فتح هلالين كبيرين للقول بأنه ما من امة واجهت التكنيل والاستعمار على يد الأجنبي مثل الأمة الفيتنامية التي تعرضت لألفي عام من الهيمنة الصينية، و16 عاما من الغزوات المغولية، ونحو مئة عام من الهيمنة الاستعمارية الفرنسية فاليابانية، و30 عاما من حروب الاستقلال والوحدة ضد الفرنسيين والأمريكيين، فما غرس ذلك في أبنائها نوازع الانتقام والكراهية والمقاطعة إلى الأبد، ولم تصبغ ثقافتهم بالدموية. كانت تلك مقدمة ضرورية لتفسير التعاون اللافت للنظر ما بين الفيتناميين والأمريكيين في السنوات الأخيرة، والحيوية التي باتت تميز علاقاتهما الثنائية الرسمية والشعبية رغم كل ما كان بينهما من عداوة. وإذا كانت زيارة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون إلى فيتنام في نوفمبر 2000 ، قد رافقها بعض الجدل حول مسألة تقديم واشنطون لاعتذار رسمي عن جرائمها بحق الشعب الفيتنامي، فإنها دشنت عهدا جديدا وعززت خطوات سابقة مثل قرار رفع المقاطعة الأمريكية في عام 1994 وإنشاء العلاقات الدبلوماسية في عام 1995 وتوقيع معاهدة للتبادل التجاري في يوليو 2000 . بل إنها وطدت السياسات الانفتاحية للنظام الشيوعي الفيتنامي التي كان من تجلياتها تأسيس روابط دبلوماسية كاملة مع المزيد من دول العالم الحر وبما جعلها اليوم مرتبطة دبلوماسيا مع 167 بلدا، واقتصاديا مع 150 بلدا، وممثلة في اكبر ثلاثة تكتلات إقليمية ( ايبيك وآسيان وأفتا)، ومدعوة للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية. ومنذ دخول المعاهدة التجارية بين واشنطون وهانوي حيز التنفيذ في ديسمبر 2001 تضاعف حجم التبادل التجاري بين البلدين ثلاث مرات ليصل في العام الماضي إلى أكثر من 6.4 بليون دولار، ولتصبح الولايات المتحدة اكبر سوق لصادرات فيتنام، بل مستوردة لخمس إجمالي الصادرات الفيتنامية. وفي موازاة هذا التطور راحت الاستثمارات الأمريكية الخاصة تنكب على فيتنام، تغريها عوامل مثل تنوع الفرص الاستثمارية المجدية وانخفاض أجور الأيدي العاملة بنحو 30 بالمئة عن مثيلاتها في الصين، ووجود تكتل بشري يزيد على 78 مليون نسمة 60 بالمئة منهم من الشباب دون الثلاثين، وتجذر قيم الانضباط والإخلاص في العمل والجدية والمثابرة في التعليم. فكان أن تجاوز الحجم الكلي لرؤوس الأموال الأمريكية المستثمرة الرقم 2.6 بليون دولار في العام الماضي، علما بان حجم ما استثمره الأمريكيون في فيتنام عام 2005 وحده بلغ 530 مليون دولار و19 بالمئة من إجمالي ما استقطبته فيتنام في ذلك العام من استثمارات أجنبية. وفي دراسة أعدتها غرفة التجارة الأمريكية في عام 2004 حول تقييم أعضائها لمناخ الأعمال في فيتنام ومدى استعدادهم للاستثمار هناك، وافق 77 بالمئة منهم على أن الاقتصاد الفيتنامي يعمل بصورة حسنة وينتظره مستقبل مشرق، وتوقع 82 بالمئة منهم بتزايد فرص الربح أمام المستثمرين الأجانب في السنوات القادمة. ورغم ما أبداه البعض من تحفظات على ضعف البنية التحتية في فيتنام وانتشار الفساد الإداري وبطء عمل الأجهزة البيروقراطية، فانه كان هناك إجماع على ميلاد نمر جديد، بالامكان تغذيته وتدريبه وتوجيهه ليصبح صنوا لنمور آسيا التكنولوجية. ومن هنا لم يكن غريبا أن يسبق زيارة بوش الأخيرة إلى هانوي الإعلان عن قرار شركة " انتيل Intel " الأمريكية العملاقة، التي تعد اكبر منتج في العالم لشرائح ومعالجات الكمبيوتر، باستثمار بليون دولار في فيتنام عبر إقامة مشروعين في مدينة هوشي منه (سايغون سابقا)، أحدهما لتجميع شرائح الكمبيوتر والآخر للاختبارات ذات الصلة، ينتظر أن توفرا معا نحو 4000 فرصة عمل. وأهمية هذا الاستثمار الأمريكي الجديد الذي وضع فيتنام بثبات على خارطة الأمم الساعية نحو اقتصاديات المعرفة والهاي تيك تكمن في إعطائه مؤشرا على الثقة المتزايدة في إمكانيات ومستقبل فيتنام، وبالتالي تشجيع مؤسسات الأعمال الأمريكية والغربية والآسيوية الكبرى دون وجل وتردد على خوض قطاع الهاي تيك وصناعة تكنولوجيا المعرفة الفيتنامي الناشيء الذي حقق في العام الماضي مبيعات فاقت البليون دولار. لقد كان بامكان مؤسسة عملاقة كأنتيل أن توجه استثماراتها إلى دول أخرى، لكنها فضلت فيتنام لأن الأخيرة واعدة بكل المقاييس بفضل العوامل المشار إليها آنفا وعلى رأسها ثقافة متجذرة قواها التسامح والانفتاح والعمل الجاد والمدروس من اجل المستقبل، لا الانشغال بالماضي وهدر الحاضر في العنتريات والشعارات والتهديدات التي ما قتلت ذبابة. ليتنا نتعلم من الفيتناميين، بدلا من الإعجاب بنظام ارعن لا يجيد سوى صناعة أدوات الموت والدمار كالنظام الكوري الشمالي، فنكف عن النواح والصراخ حول الكرامة المنتهكة والعزة المهدورة والسيادة المطعونة، ونتخذ من التعاون والشراكة والانفتاح على العالم بشرقه وغربه طريقا نحو الكرامة والعزة والريادة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |