لا شيء يفرح االمتأسلمين سياسياً، ويرضي غرورهم مثل تنقيب فنانة، او إرهاب مثقف، أو تراجع عن رأي، أو امتثال ومجاملة لطروحاتهم. ففي ذروة اندفاع عاطفي وحماسي مواز (ليس حماس فلسطين طبعاً) لتصريحات الوزير فاروق حسني، تعاطف الفنان المصري الكبير مع وزير الثقافة الأستاذ حسني مضيفاُ أن المنقبات هن معاقات ذهنياً. إلا أن ردات فعل عنيفة، واحتجاجات غاضبة أرغمت الفنان الكبير على التراجع عن ذلك. ولقد شكل هذا نصراً كبيراً للإرهاب الفكري التي تمارسه الجماعات السياسية. وظهر في المقابل أن هذا التراجع، وبهذه الانهزامية السريعة الوجلاء، يشكل أحد وجوه الإعاقة الذهنية، في أسمى مراحلها وكما تحدث عنها بطل الشاشة المعروف. لا بل ذهب الفنان حسين فهمي إلى أبعد من ذلك، حين أعلن أنه سيقوم بأداء مناسك العمرة قريباً، وذلك محاباة ومراضاة لهم، واتقاءً لشرورهم، ولكي يرفع الحد عنه، والسيف المسلط على رقبة كل كلمة خارجة عما هو مرسوم. وشعر أتباع الجماعة وقادتهم بأن أسلوبهم قد أتى أكله، وحقق غايته في الإبقاء على هذه المجتمعات أسيرة لرؤاهم الضيقة، ومشاريعم الطنانة الرنانة التي ترمي إلى العودة إلى عصور الفانوس، وركب البعير، والسراج.
وفي الوقت الذي اعتبر فيه مهدي عاكف المرشد العام للجماعة تصريحات الوزير بأنها تخلف إباحي، لا يزال حصار إرهاب العقل والفكر مفروضاً على الأستاذ فاروق حسني الذي بدا بأنه متمسك بموقفه، وبآرائه التي أطلقها، والتي قال فيها بنفس الوقتً أنه لا يدعو إلى خلع الحجاب. إلا أنه لم يبد، حتى اللحظة، أسفاً، أو ندماً، أو تراجعاً عن تصريحه القنبلة، الذي اعتبر فيه أن ارتداء الحجاب، هو ردة وعودة إلى الماضي. وتمارس الجماعة السياسية، إياها، التي تعتقد أنها تحتكر الإسلام والإيمان لوحدها، وتوزعه هبة ومنة على الناس، شتى أنواع الضغط، والابتزاز، والإرهاب المتوفر لديها، لإقالة الوزير وإجباره تقديم على اعتذار. ذاك التسلط المعتاد الذي مارسته عقوداُ طوالاً على غلابة مصر وفقرائها، ولا تزال تنتظر الضوء الأخضر والفرصة المؤاتية للإطاحة بالوزير الشجاع، ليكون عبرة لغيره، ولكل من تسول له نفسه الأمارة بالتنوير، والعلمنة، والتحديث.
إن استمرار السيد وزير الثقافة المصري على موقفه، هو انتصار لحرية التعبير والرأي والمعتقد الذي يجب أن تسود في كل مكان، و ألا تحابي فكراً، أو شخصاً، أو جماعة. وأن تكون هذه الحرية مصانة، ومحترمة بموجب القانون. وبغض النظر عن أية آراء متباينة في موضوع لبس الحجاب أو خلعه، الذي يعتبر أمراً شخصياً بحتاً، يجب احترامه، وإدراك خصوصيته. إلا أن خطورة الموقف تتأتى من دخول الجماعة على الخط وتعرض وكالتها الحصرية واحتكارها لطريق السماء للخطر الذي تفرض آراء سياسية من خلاله. كما أن الحجاب، وبسببها، قد فرغ نوعاً ما من مضمونه، وتحول من كونه طقساً، وشعيرة دينية محترمة، إلى رمز سياسي وشعار يختص به حزب دنيوي بعينه.
الجميع بانتظار ما ستؤول إليه هذه المواجهة الشرسة، وما ذا سيكون عليه رد فعل الحكومة الرسمي، التي وضعت في موقف لا تحسد عليه، وظلت تلعب على جميع الحبال. غير أن تصريحات الوزير النارية تلك تتطلب موقفاً واضحاً، وعملية فرز، واستقطاب لم يسبق له مثيل، من قبل جميع المعنيين بالعملية، ولاسيما من قبل الجماعات السياسية ومن يواليها. فالحكومة، وتجسيداً لمصداقيتها، لا تستطيع أن تتخلى عن وزيرها في أزمته، وترفع الحصانة عنه لتخسر أحد وزرائها البارزين. وفي نفس الوقت تريد اتقاء غضب الإخوان، وألا تظهر بمظهر الحكومة العلمانية الكافرة المؤيدة لتصريحات الوزير أمام جمهرة المتأسلمين الذين يكتسحون الشارع المصري، بكل ما في ذلك من خطر على مشاريعها السلطوية لجهة استدامة العهد الميمون.
ومهما يكن من أمر، فإن نجاح أو خسارة هذه المعركة، هو بيد الوزير فاروق حسني نفسه. وإن ثباته في موقفه، وتمسكه به بهذا الشكل القوي سيعني الشيء الكثير بالنسبة لوضع، ومستقبل حرية الرأي، والتفكير، وتأثير الجماعات، إياها، بشكل عام. ولهذه الجزئية فقط، وإن كان لنا من أية كلمة نقولها في هذا الصدد فهي، وبكل بساطة : "لا تعتذر....يا سيدي الوزير".