ليكن معلوما إن معنى " الإرهاب " لا يحتاج إلى لبس أو إيهام ولا الى لفّ أو دوران .. انه بوضوح : " قتل للأبرياء من البشر مهما كان دينهم أو لونهم أو عرقهم .." فالظاهرة جائرة مقيتة لا يقبلها الله أبدا . لقد تفاقمت مخاطرها في السنوات الأخيرة بشكل لا يمكن تصديقه بفعل أسباب سياسية وإقليمية واجتماعية وإعلامية وتربوية سيئة للغاية .. واستطاع العالم كله توظيفها ضد العرب والمسلمين بشكل مقزّز للضمير والوجدان .. ولقد ساهمت أحزاب ومنظمات ومؤسسات عربية وإسلامية ، ويا للأسف الشديد ، بخلق الانطباعات المسيئة إلى العرب والى الإسلام والى كل التاريخ والقيم والاعتبارات . إن ما حدث في الجزائر وأفغانستان وإيران ومصر وما يحدث اليوم في العراق ولبنان وفلسطين والسعودية ، وما حدث في سوريا والأردن والسودان والكويت وتركيا .. ينبغي أن يثير الهّمة لمعالجة امتدادات هذه الظاهرة الخطيرة التي تنوعت أساليبها ووسائل تصفياتها .. إن تفخيخ السيارات والباصات وربط الأجسام البشرية بالأحزمة الناسفة أو مشروعات قتل الأبرياء غيلة أو تفجير الأسواق والبيوت والعمارات والفنادق بمن فيها .. أو ذبح الإنسان في الشوارع ذبح الشياه .. الخ من الصور المأساوية تدلّنا دلالات كافية على أن حياتنا العربية والإسلامية بحاجة إلى زمن طويل جدا كي تتخلّص مجتمعاتها وقواها السكانية من الأفكار المنغلقة التي تسيطر على الذهنيات ويستوجب إصلاح النفوس من كل الجوانب السادية التي لا ترتاح إلا بالقتل والتشّفي بالثارات !
كنّا نحلم قبل أن ندخل القرن الجديد بتحقيق مشروعات عربية وإسلامية غاية في القوة والإنتاج والرواج ، وكنّا نحلم بالإصلاح ، وتأسيس التكتلات الاقتصادية ، والحريات ، وتحديث المؤسسات ، وتنمية التفكير ووعي المجتمع ، وتنظيم الحياة ، والاستعداد لمشاركة العالم معطياته وإبداعاته وتربوياته وثقافاته .. وكنّا ندرك المخاطر والتحديات التي ستعترض منطقتنا في هذه السنوات العجاف وتأملنا أن تحدث ثمة تغييرات وخطط إصلاح نحو الأفضل لانتشال مجتمعاتنا من معاناتها ومشاكلها وانسحاقاتها وظروفها السيئة .. لكن الواقع المتعّنت والهجمة المتوحشة والترسبّات الصعبة والمتغيّرات نحو الأسوأ قد أفقدتنا الكثير ، فتراجعت قدراتنا ، وتعقّدت مشكلاتنا ، وبدأت الصراعات والأحقاد والانقسامات تتوغّل في مجتمعاتنا بتغذية متعمّدة من هذا الطرف أو ذاك .. وتجسّدت المأساة في العراق بأخطر مدياتها ، وتعطّلت القضية الفلسطينية ، وتفجرت المشكلات اللبنانية في مسلسلات قتل الشخصيات ، وتفاقمت المعضلة الجزائرية بعد عمليات الموت ، وتعدّدت الحوادث الإرهابية في السعودية والأردن .. وازدادت الأزمات في مصر واليمن وسوريا والسودان والمغرب وغيرها .. ونخشى على بقية بيئاتنا العربية أن تنتقل موجات الإرهاب التعيسة إليها ـ لا سمح الله ـ والتي ستكون سببا في بلورة فظائع صراعات سياسية وانقسامات اجتماعية وانهيارات اقتصادية !
إن هكذا واقع عربي صعب لا تنقذه أية إرادة خارجية تزيد من أوجاعه وهشاشته ، بقدر ما نحتاج إلى الإدراك المتبادل بمخاطر التحديات ، وولادة عصر يشتد فيه ذكاء كل من المجتمع والدولة .. اليوم ، يعيش الملايين في إحباط تام ويعتقدون باستحالة الإصلاح .. لقد كانت الصراعات سياسية تمثلها قوى وأحزاب وسلطات متصادمة ، واليوم تبلورت نقلة خطيرة بتفاقم الصراعات الاجتماعية والاثنية والطائفية والدينية بشكل مخيف ، سببتّها عوامل متنوعة منها التطّرف والإرهاب والإعلام المهيّج وبثّ الكراهية .. فهل يعقل ان يصبح العراق ـ مثلا ـ في زقاق ضيق مغلق ليس باستطاعته الخروج منه أبدا إلا بانفجار تاريخي منتظر ؟ وهل يمكننا أن نجد لبنان عرضة للمجهول واعتاد تقديم سلسلة شهداء من الوطنيين والأحرار ؟ وهل كنّا نتخّيل أن ينقسم الفلسطينيون لأكثر من طرف بانشطار هدف واحد إلى مصالح معينة ونجدهم يتراشقون النار في الشوارع ؟ وهل كنّا نتصوّر حدوث انقسامات مريعة دينية وطبقية في مصر ؟ وهل استطاع السودان أن يداوي جروح الجنوب حتى تنفتح عليه قروح الشمال في دارفور ؟ ومن الخطورة أن اغلب مشكلاتنا غدت " مدولنة " يتقاذفها المجتمع الدولي !
إن المنطقة مجرد خرائط طرق مشتعلة ملتهبة ، ولم يعد هناك من حلول ساذجة ولا ينفعها الإصلاح على طريقة الوصفات الأمريكية التي لا يهمّها إن أبقت مناطق مهمة في العالم تحت الاختبار ! إن تجربتها الفاشلة في العراق قد جّرت البلاد إلى انقسامات مريعة والى حرب أهلية ، إذ كان ينبغي توفير البيئة الصالحة المستقرة والمسالمة التي تنضج فيها الديمقراطية والاسس الدستورية على مهل .. إن جعل العراق بمركزيته الإقليمية مستوردا ومصدرا للإرهاب الذي يعبث به عبثا كارثيا يجعلنا نقف وقفة قيمية وعربية لا من اجل العراق وحده ، بل من اجل ألا تحترق كل المنطقة . إن المنطقة اليوم بين المطرقة والسندان بعد أن أصبحت أوطاننا ميادين اختبار وارض نفايات بشرية ، وقتل على الهوية ، وعذابات اجتماعية ، وتفسخات سياسية ، وضياع قيّم مبدئية ، وظلاميات عصور وسطى .. وفظائع بشر غير سوي يعيش على الخرافات والظنون والتقاليد السقيمة .. وهجرات أحجام كبرى من الناس إلى ارض الله .
فهل كان كل هذا وذاك ثمن نضالات شعوب ومكافأة لأتعاب مفكرين ومبدعين ؟ هل هو ما كنّا نصبو إلى تحقيقه من التطلّعات في القرن العشرين ؟ هل هذا ما كنّا نرنو اليه من التغيير نحو الاحدث والافضل من اجل تكوين الاجيال المنتجة في المستقبل ؟ إن العرب لم يخسروا الأرض لوحدها ، بل خسروا البشر أيضا وهم في عز أعمارهم وتوهّج طاقاتهم .. هل أن محصلة التاريخ تعلمنا بتفاقم الصراعات بعد مرارات الهزائم ؟ وهل باستطاعة العرب أن يحافظوا على قيم النصر إن تحقّقت ؟ إن الحياة العربية إن بقيت أسيرة هذا الواقع ، فان الغموض سيّلف المستقبل .. والعقل إن بقي سجينا والإرادة إن بقيت مكّبلة والتربية متهرئة .. فسوف نبصم على مستقبل فاحم ينتقل من سيئ إلى أسوأ .. فهل نحن على استعداد كاف لنهزم الشّر كله ونزرع الخير كلّه .. ؟؟ شجعوني وقولوا لي : نعم ، إن شاء الله !