|
العراق في طريق العلمنة .. شئنا أم أبينا باسم السعيدي / بغداد
كانت تجربة أوروبا في عصور (محاكم التفتيش) مريرة، دفعت شعوب اوروبا ثمن (فهم) محاصرة الدين في المعابد والكنائس دماً غزيراً كان للمفكرين والنخب الثقافية النصيب الأوفر، وللأبرياء النصيب (الكمِّي) الأعلى .. ما دفع بالذاكرة الجمعية الى أن تقوم بتطويق (الدين) داخل مساحاته الطبيعية (أقصد بها المعابد) للخروج من الدائرة المغلقة للدم التي خلقها المتدينون والتي تعدُّ (إحصائياً) ديدن الدين السياسي على مرِّ الدهور . وفي العراق بعد التغيير إندفع الناس وراء العاطفة الدينية ليصبح رجال الدين هم (أسياد القرار السياسي) من غير (وعيٍ) جمعي بخطورة هذا القرار. والديمقراطية بما فيها من فوائد جمَّة تضع الشعب في موضع إتخاذ القرار إلا أنها تضع الشعب أيضاً أمام مسؤولية حقيقية في الوقوف على ذلك القرار ومواجهة نتائجه الجسيمة والوخيمة إن أخطأ القرار. لقد كان العراقيون أشبه بالتائهين بعد الغزو وسقوط الدكتاتورية .. وكان الحل (التأريخي) القريب منهم بل الأقرب من كل الشعوب في المحن وعلى مختلف العصور هو (الدين). وضع المواطن العراقي كل ثقته (للأسف) في رجال الدين .. وهؤلاء معضلتهم معضلة حين يجلسون على مركز القرار السياسي.. فديدنهم العاطفة والتأجيج النفسي .. والقليل منهم من يرى في نفسه مرشداً روحياً يتحمل مسؤوليته الروحية قبل أن يلعب دور السياسي وهو الى أبجدية السياسة (فن الممكن) أكثر إفتقاراً. إندفع قوم وراء الخطاب العاطفي الرنان المهيج للخزين العقائدي التأريخي الذي تزخر به الكتب المعروفة، بينما إندفع آخرون وراء (روح الإنتقام وتصفية الحسابات) التي إختزنتها ذاكرة الإسلام السياسي على مر القرون .. وإن إختصرها البعض بخمسٍ وثلاثين عاماً مضت من عمر زعامة حزب البعث للدولة العراقية.. وبين هاتين المجموعتين ضاع التصور الشعبي الوطني لشكل المجتمع المزمع إنشاؤه على أرض الرافدين. ثم جاءت الإنتخابات الأولى والثانية لتشرعن هذا الوجود السياسي الأسير لأفكار القرون المظلمة ( ليتسيد الساحة السياسية) بقصور لم يعد يفهم تطوره المطَّرد غالبية العراقيين. إن الهيكلية السياسية التي تقود البلد اليوم تتمحور (فيما عدا الكرد) حول هوية القرون المظلمة إياها، وبات اللاعبون الأساسيون بالقرار وبأرواح الملايين التي (تفرُّ) كل يوم من الجحيم العراقي يرسمون ملامح اللعبة التي تبقي على (إمبراطورياتهم) ولا تسمح بأي حال من الأحوال بالمساس بهذه الإمبراطوريات. الحقيقة الكارثية التي تلم بالشعب العراقي اليوم هي أن إمتدادات هذه الإمبراطوريات وصلت الى البنية الإجتماعية، فتنظيمات هنا تقتل وتهجِّر كل من يدخل (فيدرالية إمبراطورياتها) وتنظيمات هناك تفعل الضد بالضد .. وهكذا دفع كل من المواطنين الأبرياء في كلا الجهتين ثمن تلك السيادة المظلمة للساسة وأصحاب القرار من وجوه الحقبة المظلمة . والغريب أن المتابع للخطاب السياسي الديني لكلا الجهتين يجد مشتركاً بينهما وهو (اللغة) التي تذكرك بحقب تأريخية عفا عليها الزمن .. ولو إقتصرت على مستوى الخطاب لكن ذلك أهون ، بل نالت سطوة هؤلاء وهؤلاء من المواطن بتعسف له مثيلات في القرون الوسطى والقرون المظلمة. ليس من الموضوعية والواقعية بشيء الظن بأن كل أبناء مدينة ما هم من أنصار الميليشيا الفلانية .. ولا أبناء المدينة الأخرى هي من أنصار المجاميع الإرهابية الفلانية .. على أن الحقيقة أن من يدفع ثمن هذا التشظي في الغالب هو المواطن البرئ الذي يحمل إسماً ما أو إنتماءاً دينياً ما .. حتى بات الخوف الذي يطبق على صدور المواطنين يجعلهم يتحرجون من هذا الإنتماء .. ولعل في (الهويات المزورة) مزدوجة الإنتماء التي يحملها أغلب سكّان بغداد (كمثال) رفضاً لهذه الهيمنة القاسية للهوية على مصائرهم. وفي العموم يزداد (فهم المواطن) بشكل مطَّرد أيضاً لمخاطر تلك الزعامات السياسية الدينية لأنها تحمل بين أضلعها أمراض القرون المظلمة، وإن هذا الفهم يتجلى بشكل واع أو من دون وعي بمخاطر (تسييس الدين) أو (تديين السياسة) ، لأن الدين المسيس ببساطة غير قادر على إستيعاب أسس (الإنسانية) التي تختلف معه عقائدياً، ولا يملك تذكرة ولوج القرن الحادي والعشرين، وهذا الدين (المسيس) يمتلك التناقضات الحادة التي لم يحسمها الإسلاميون فيما بينهم. في الغالب ستتجلَّى هذه الذاكرة الجمعية المختزنة بالألم والدم والتهجير القسري على شكل رفض تام لكل ما هو (إسلام سياسي) في الإنتخابات القادمة (إذا بقي العراق ثابتاً ولم يهزمه ويعدمه الإسلام السياسي). وسيكون هذا القرار على (تعارضه مع العاطفة الدينية العراقية) خطوة أولى في طريق حل مشاكل العراق التي تعصف بوجوده ذاته اليوم.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |