رسائل الاطفال الفنلنديين الى رئيسة جمهوريتهم  

 شخصية الطفل الذي يعيش وينمو في عالم مسالم  ديمقراطي متطور

يوسف أبو الفوز / هلسنكي

haddad.yousif@hotmail.com

في العاصمة الفنلندية ، هلسنكي ، وعن واحدة من اعرق واكبر دور النشر الفنلندية ، صدر مؤخرا كتابا لفت انتباه الكثير من التربوين والقراء ، حمل عنوان " أرغب بلقاء سعادتكم " . مؤلفة الكتاب بروفسورة من جامعة هلسنكي ، السيدة اولاـ مايا سالو ( مواليد شمال فنلندا 1956) سبق لها وان اصدرت كتابين يبحثان في شؤون التربية والتعليم ، ولها عشرات المقالات والابحاث التربوية المنشورة في مختلف الدوريات الفنلندية ، ومادة كتابها الجديد لا تخرج عن خط اهتمامها التربوي ، لكنه في نفس الوقت يمنح القارئ المتعة وشيئا من السحر من عالم الطفولة ودروسا على مختلف المستويات ، وكم نحن بحاجة لها في وطننا وهو يعيش ظروفه الصعبة ، لنتعرف على تجارب وحياة الاخرين ممن يبنون اوطانهم بعيدا عن اجواء الطائفية والميليشيات والاحتقان وشبح الموت الذي يطوف في كل مكان من الوطن . الكتاب هوعملية تحليل ومراجعة رسائل لاكثر من 6000 طفل فنلندي وجهت الى رئيسة الجمهورية الفنلندية تاريا هالونين (مواليد 1934) ، التي فازت مؤخرا (في 29/1/2006) بدورة رئاسية ثانية كمرشحة لقوى اليسار الفنلندي .

السيدة تاريا هالونين ، التي تعتبر اول امراة فنلندية تصل لحقيبة وزارة الخارجية (1995–2000) ، وثم تصل الى مقعد الرئاسة لاول مرة في اذار عام  2000 ، تعتبر في فنلندا مثالا للمرأة العملية والمثابرة الشجاعة ، وحتى رسوم الكاريكاتير حين تتناولها تصورها امراة محملة بعدد من الحقائب ورزم من الفايلات. وهي شخصية محبوبة على نطاق شعبي واسع وتمتاز بالتواضع وثقافة عالية ، ومنذ فوزها الاول عام 2000 اصبحت محط انظار الاطفال الفنلنديين ، خصوصا البنات منهم ، وصارت تستلم رسائل منهم بأستمرار، وموقعها على الانترنيت يستلم  سيلا من الرسائل الاليكترونية . وفي فنلندا ، التي احتلت ولاكثر من مرة مواقع متقدمة في سلم مقياس الشفافية العالمي ، لا يوجد اسرار ، فكل المعلومات عن تفاصيل الحياة اليومية لرئيسة الجمهورية معروفة لعامة الناس : افراد عائلتها ، تنقلاتها واجتماعها ، نوع طعامها ، قيمة مرتبها ، اسماء قططها ، الالوان التي تفضل ، عدد فساتينها ،  بالاضافة الى مواقفها واراءها السياسية . وفي بلد ذو نظام متطور من الخدمات ، لا يجد الاطفال في فنلندا صعوبة في ارسال رسائلهم الى رئيستهم ، حيث يكتبون اسم العاصمة واسم رئيسة الجمههورية الى جانب طابع البريد ، لتكون الرسالة خلال يوم او يومين على طاولة رئيسة الجمهورية.

في لقاء لنا مع البروفسورة اولا ـ مايا سالو ، مؤلفة الكتاب ، قالت لنا انها قضت عاما ونصفا من العمل المتواصل في الكتاب ، وقراءة الرسائل فقط  استغرق منها اربعة شهور من العمل بمعدل عشرة ساعات في اليوم ، وبنفس الوقت كان وقتا ممتعا في  العيش مع رسائل الاطفال وعالمهم المدهش الملئ بالاسئلة الطريفة والجادة ، التي وجدت ان الرئيسة قد تعاملت معها بجدية ومسؤولية واجابت عليها جميعها ، بمساعدة سكرتيرتها ، ولبت الكثير من طلبات الاطفال المعقولة. تؤمن المؤلفة بان " رئيسة الجمهورية هنا تكف عن ان تكون موظفا رفيع المستوى ، وشخصية سياسية ، انها مثال لمربي كبير ، واحترام اسئلة الاطفال ومخاطبتهم بأحترام تنعكس بشكل ايجابي على شخصياتهم ونشاطهم وبالتالي مستقبلهم ".

قالت لنا مؤلفة الكتاب انها تستطيع تقسيم الرسائل الى ثلاث مستويات : الاول رسائل من يخاطبون رئيسة الجمهورية كشخص غريب وبشكل رسمي ، وهم الاقلية هنا وبعضهم يستخدم تعابير " سعادة الرئيس " ، والقسم الثاني يخاطبونها كأحد افراد العائلة وهم الاكثرية ، وهناك من يخاطبونها وكأنها شخصية من الحكايات والاساطير مثل السندريلا والاميرات الجميلات ، وهم من صغار السن عادة . تتراوح اعمار الاطفال اصحاب الرسائل ، ما بين 4 سنوات الى 16 سنة ، وغالبيتهم من الفتيات ، الذين يجدون في الرئيسة مثالا طيبا للمرأة التي تمنحهم المزيد من القوة. تشير المؤلفة الا انها من خلال الرسائل وجدت الاطفال الفنلنديين بشكل عام يتمتعون بذهنية مفتوحة ، ويتميزون بالشجاعة والصراحة ، ووفرة في المعلومات ولمست عند البعض شئ من روح المرح. وتضيف بأنها تهدف من الكتاب ان ينتبه الكبار الى ما يقوله الاطفال ويتعلمون منهم ، وان يتذكروا انهم كانوا صغارا ذات يوم وكانوا بحاجة لمن يسمعهم . عن فكرة الكتاب قالت لنا المؤلفة انها خطرت لها حين قرأت مقالا عن زيارة رئيسة الجمهورية لاحد المدارس في هلسنكي وحديثها عن احتفاظها برسائل الاطفال والاهتمام بارائهم ، فقدمت طلبا للسماح بزيارة ارشيف رئاسة الجمهورية لاعداد مقال تربوي عن الامر، لكن بعد اطلاعها على الارشيف الضخم ، المعتنى به بشكل جيد وبترتيب انيق ، يعبر عن اعتزاز رئيسة الجمهورية بالرسائل ، التي اوصت المؤلفة مباشرة بضرورة الاعتناء خلال العمل بالرسائل لانها تشكل عندها  قيمة لا يستهان بها ، وسرعان ما تطورت الفكرة وتحول المقال الى كتاب من 224 صفحة من القطع الكبير زينته رسوم 123 طفلا من اصحاب الرسائل ، حصلت المؤلفة من اهالي الاطفال على حق نشر الرسوم التي تمثل رئيسة الجمهورية من وجهة نظر الاطفال ، ووضع اسماء وتوقيع اصحابها عليها . وردا على سؤال لنا ، افادت المؤلفة بانها لا تعتبر موضوع الكتاب هو شخصية رئيسة الجمهورية ، ولم تفكر بأن يكون كتابها محاولة لاطراءها او تلميع صورتها ، فهي تعتبر ان مادة الكتاب الاساسية هو الاطفال ورسائلهم ، والكتاب تربوي يعبر عن عالم الاطفال وحاجتهم للتعبير عن انفسهم واثبات شخصياتهم ، وتجد ان اسلوب كتابة الرسائل الى شخصية متميزة في الدولة ، بالاضافة الى كونها ممارسة ديمقراطية ، فهي ايضا رغبة عند الاطفال للبحث عن المساعدة بشكل ما لتنفيذ افكارهم من خلال شخص يظنونه قادرا على اتخاذ القرار بالمساعدة . ورحلة في رسائل الاطفال الفنلنديين ، واسلوبهم في الكتابة ومخاطبة رئيسة جمهوريتهم ، يمكن ان نلمس جوانب من طبيعة شخصية الطفل الذي يعيش وينمو في عالم مسالم ، ديمقراطي متطور.

في الرسائل نجد كثيرا من الاطفال الفنلنديين يخاطبون الرئيسة باسمها مباشرة بدون القاب ورتوش " مرحبا تاريا" ، وهكذا بدأت غالبية الرسائل. تقول المؤلفة  " لديهم شعور انهم يكتبون لشخص بمنزلة الام " . وبشجاعة وصراحة تحدثوا معها في مختلف المواضيع التي تشغلهم : علاقاتهم الاسرية ، مشاغلهم واهتماماتهم ، حيوانتهم الاليفة ، قطط رئيسة الجمهورية ، دراستهم ، الاحوال العامة في البلاد ، شؤون رئاسة الجمهورية ، السياسة ، البيئة ،الاتحاد الاوربي ، الحرب والسلام في الشرق الاوسط  ، العنصرية ،  والحب ايضا . لا يمكن ان تلمس املاءات ما على الاطفال من احد لكتابة رسائلهم ، فالرسائل مكتوبة بلغة الاطفال البسيطة ، باسلوبهم ، وببراءة الاطفال ونقائهم . فهم يحدثون الرئيسة عن ذهابهم لاول مرة الى المسرح او الى السينما ، وصبي يخبر الرئيسة عن فرحه " في المكتبة العامة صرت اقرأ في صالة الكبار " ، واخر " انا نشط في المدرسة " واخرى تسأل "هل وظيفة رئيس الجمهورية تحتاج الى كثير من الدراسة ؟ "  كثير من الاطفال ، خصوصا البنات الذين يبدون فخورات بها كرئيسة باعتبارها امرأة من جنسهن ، يرغبن بان يصيرن مثلها رئيسة جمهورية ، وبعضهم يبدى اعجابه بمهن اخرى " ابي سائق حافلة ، احب ان اكون مثله " واخر " اريد ان اكون موسيقيا كبيرا " ، ويسألوها عن حياة قططها ، و" من يعتني بها عند ذهابك للعمل " . طفلة وبثقة تثير الابتسام تنصح الرئيسة " قومي بعملك جيدا ، اذا كنت جيدة ستنالين مرتبا افضل " ، وطفلة اخرى تعتقد " من الضروري توظيف منظفة لان كثرة اجتماعاتك لا تترك لك وقت لانجاز كل اعمال البيت ". وطفلة تؤكد للرئيسة " اعرف انك مشغولة ، واذا لم ترغبي بالجواب ارسلي لي ملاحظة " . وطفل يشكو للرئيسة " ليس لدي اخ او اخت اصغر مني " ويدعوها للتدخل . وطفل يذم الكحول والتدخين ، وطفلة تسألها " هل لديك حساسية من شئ ؟ " ، واخر يود معرفة " هل تحبين اكل شوربة الفطر ؟ " ، واطفال يكتبون لها اشعارا ومقاطع من اغان يحبون سماعها ، ومطربيهم المفضلين ، وهناك من يسألها عن الكتب التي تقرأ او ينصحها بقراءة كتاب معين ، واخرين يروون لها نكاتا وطرائف ولا ينسى بعضهم ان يثبت جانبا " ملاحظة مهمة : هذه النكتة من تأليفي ولم اسمعها من احد ". وحتى في مناقشتهم الامور الكبيرة والعصيبة اضفت طفولتهم وبرائتهم الكثير من العذوبة على ارائهم ، هاهي طفلة بعمر 12 عاما تكتب لرئيستها عن مشكلة الشرق الاوسط " الان اتكلم عن موضوع اسرائيل وفلسطين. اعتقد انهم اطفال لانهم لا يمكنهم التوقف عن القتال والوصول الى اتفاق . هل يمكن ان تنقلي كلامي الى الرئيس الامريكي ؟" ، ولا تنسى الطفلة ان تذكر عنوانها للرئيسة فيما اذا رغبت بلقاءها لمزيد من المعلومات. وطفلة ترسم للرئيسة خطة عريضة طويلة لمساعدة الدول النامية وتعليمهم الكف عن الحروب ومساعدتهم بتوفير المدارس والغذاء والماء " انا اشعر بالبكاء لان هناك حروب في طرف العالم الاخر، اعتقد اننا في البلدان الجيدة يجب ان نساعدهم " . وطفل يخبر الرئيسة " قريتنا جميلة وتعيش بسلام ، انا اريدك ان تجعلي العالم مسالما وجميلا كذلك " ، وبذات الروح طفل اخر يطلب من الرئيسة التدخل لمنع رفع المراجيح من باحات البيوت في فترة الشتاء . وطفل اخر يجد ان صبره نفذ لان " لا احد يسمعني وياخذ كلامي محمل الجد " ، وطفل يوصي بالاهتمام بذوي الدخل المحدود "لان حالهم صعبة" ، ويذكر ان الرئيسة قدمت برنامجا متقدما في هذا الشأن وتعتقد مؤلفة الكتاب ان لرسائل الاطفال الكثيرة حول هذا الموضوع دورا في هذا. طفل اخر يذم العنصرية ، وطفلة فنلندية ارسلت للرئيسة صورتها مع رسالتها " سوف تندهشين لان لون بشرتي سوداء ، لكني فنلندية ". وطفلة تسر رئيسة الجمهورية بأنها معجبة بزميل لها ولكنه مشغول عنها ، وكأنها تعرف الرئيسة من سنوات طويلة ، وبلغة امرأة ناضجة لا تنسى ان تشير ببساطة "نحن النساء نعرف طبيعة الاولاد " وطفلة وهي تكتب للرئيسة تذكرها بملاحظة " افضل وقت للاتصال بعد الثانية عصرا لاني في الصباح اكون في المدرسة ". وخلال الحملة الانتخابية للدورة الرئاسية الثانية ، وخلال حمى المعارك الانتخابية ومرشحو الرئاسة يكيلون لبعضهم البعض التهم والانتقادات وصلت الى رئيسة الجمهورية رسالة من طفلة بعمر 10 سنوات " تاريا لاتهتمي لذلك فانت الافضل ". وطفلة شكت للرئيسة " انا حزينة ، امي مصابة بالسرطان واخشى ان تموت ، هل يمكن مساعدتي ؟ " ، واخبرتنا مؤلفة الكتاب ان رئيسة الجمهورية تحركت فورا والتقت الطفلة وامها وقدمت المساعدة الممكنة .

رسوم الاطفال المرافقة للكتاب ، وصور عن رسائلهم بخط ايديهم ، اضفت على الكتاب شكلا جميلا وروحا شفافة ، خاصة تلك الرسوم التي عبرت عن موهبة لرساميها الذين استطاعوا التقاط ملامح الرئيسة وافراد عائلتها واستطاعوا ان يعبروا بروح بريئة عن وجهات نظرهم في شخصية رئيسة الجمهورية وحياتها اليومية . شخصيا كقارئ لم اجد في الكتاب رسائل تحمل احاديثا عن الدين ، وعندما سألت المؤلفة عن ذلك ، وربما قد توجد رسائل لم تطلع عليها ، قالت لنا بأنها استلمت كل الرسائل الموجودة في الارشيف واطلعت عليها ، ولم تحجب عنها ولا رسالة واحدة ، وتجد ان اهمال الاطفال الفنلنديين لموضوع الدين شئ منطقي بسبب اعمارهم وبسبب طبيعة حياة المجتمع الفنلندي التي يعتبر الدين فيها شيئا خاصا بالفرد وعلاقته المباشرة بالرب ، وايضا بحكم كون المناهج التعليمية في فنلندا لا تعتبر درس الدين درسا اساسيا وحضوره او عدم حضوره يخضع لخيار الطالب وعائلته . ولم تكن بين الرسائل رسالة من طفل عربي او مسلم او حتى اجنبي من الذين يعيشون ويدرسون في فنلندا ، عدا رسالة واحدة من طفل روسي يشكو فيها من سخرية زملائه منه ، ويطلب رأي رئيسة الجمهورية  في الموضوع .

 بقي ان نشير الى انه وقبل يومين فقط من لقاءنا مؤلفة الكتاب والدردشة معها حول موضوع الكتاب ، كان للمؤلفة موعدا للقاء رئيسة الجمهورية ، السيدة تاريا هالونين ، التي اخذت خبرا عن لقاءنا مع المؤلفة وعن فكرة هذا المقال ، فعبرت رئيسة الجمهورية ، عن سرورها لان تسلط صحيفة من البلاد العربية الضوء على هذه التجربة ، ورغبت بان تحصل على نسختها الشخصية من عدد الصحيفة عند نشر هذا المقال .

* عن صحيفة المدى البغدادية الخميس 7 كانون الاول 2006

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com