|
رفقا بالبحرين الجميلة د. عبدالله المدني / باحث ومحاضر أكاديمي من البحرين قدر البحرين أن تكون وسط خليج طافح بالثروات فيما هي لا تملك منها سوى اقل القليل. لكن القدر أيضا وهبها مجتمعا متميزا بالانفتاح والتسامح وعشق الحياة، ومسلحا بالإرادة والتصميم، ومتمسكا في الوقت نفسه من دون تزمت بالقيم والأعراف والتقاليد المتوارثة، الأمر الذي مكنها في فترة قصيرة من أن تصبح صنوا لجاراتها، بل ومتفوقة عليهن في بعض المجالات التنموية. لقد اندفع أبناء هذه الجزيرة رجالا ونساء يعملون من اجل بناء وطن متميز ومجتمع عصري آمن مستقر، فأقاموا من البنى التحتية والمؤسسات والمشاريع ومظاهر الحياة العصرية وقادوا من الأنشطة والفعاليات المختلفة ما يمكن الافتخار والزهو به أمام جيران أكثر ثراء وأعظم موارد وأوسع مساحة واكبر شأنا. وفيما كانت عملية التنمية والبناء تتواصل، كان شباب البحرين وفتياتها ممن ابتعثوا إلى الخارج يعودون بعدما أكملوا تخصصاتهم الأكاديمية، ولاسيما من إحدى أفضل واعرق جامعات الوطن العربي.. في بلد كان يمثل يوما ما جنة الشرق الأوسط وزهرتها الفواحة .. ليسكبوا في وطنهم الصغير عصارة علومهم وزكي تجاربهم ، حالمين بصرح اقتصادي يماثل ذلك الصرح الذي هوى فجأة في ذروة مجده وعنفوانه كنتيجة للحماقات الإيديولوجية والعنتريات السياسية والمطالب التعجيزية والملوثات الطائفية البغيضة. على أكتاف هذه الثلة المتنورة والمسلحة بالعزيمة والإرادة وعشق الوطن، كبرت البحرين، وصارت نموذجا تنمويا زاهيا، رغم كل الاحتقانات الداخلية وكل ما شهدته المنطقة من تجاذبات وأزمات وحروب خلال العقود التالية للاستقلال. صحيح انه في غمار هذه العملية التنموية طفح على السطح من الطفيليات ما لا يمكن إنكاره، وحدثت تجاوزات وخروقات مسببة للإحباط في ظل الغياب الطويل لدولة المؤسسات الرقابية، غير أن البحرين حسبها أن تلك الإشكاليات والهنات عادة ما ترافق التحولات النهضوية الكبيرة، ولا تغيب إلا في حالات السكون والانقطاع عن الحراك والعمل الخلاق، بل حسبها أن كل ذلك صار اليوم جزءا من الماضي. سئل زعيم آسيوي حقق لوطنه معجزة اقتصادية فذة ذات مرة عما يقال عن استشراء الأخطاء والتجاوزات في دوائر بلاده الرسمية، فلم ينف الأمر لكنه قال " لا تتوقعوا انتفاء هذه الحالات طالما أننا نعمل ونتحرك إلى الأمام" مضيفا " أولئك الذين لا يعملون هم وحدهم الذين لا يخطئون". ونحن هنا لا نبرر للأخطاء بقدر ما نشير إلى تجربة واقعية كان من شأنها أن تفوق ذلك البلد الآسيوي الفقير في موارده الطبيعية بمئات المرات على جارته الأقرب، رغم سباحة الأخيرة في بحر من الثروات النفطية. وبإطلاق الملك حمد لمشروعه الإصلاحي قبل خمس سنوات، واصلت البحرين مسيرتها التنموية في أجواء أكثر استقرارا وانفتاحا وتصالحا، بل تحولت إلى ورشة ضخمة للعمل والنشاط والإبداع على مختلف الصعد ، وسط آمال كبيرة بأن ما تم تشييده من صروح اقتصادية وما حققه المجتمع من تراكمات حضارية في العقود الماضية يمكن اليوم البناء فوقها وتعزيزها ورفدها بما يتناغم مع ظروف العصر وتحولاته المثيرة ضمن اطر أكثر شفافية وعدالة. غير أن البعض غير القليل ممن أوصلهم الشعب إلى مجلس النواب لم يتفهموا المغزى الحقيقي لمشروع الملك الإصلاحي الذي جاء ليوسع دائرة الحريات والحقوق ويعزز مكتسبات الوطن وصورته الحضارية. فراح في ظاهرة غير مسبوقة برلمانيا يقيد حريات المواطن، بدلا من الذود عنها وتوسيع رقعتها، عبر اقتراح تشريعات موغلة في السذاجة والسطحية والبؤس، بل متصادمة مع مواد حقوقية نص عليها الدستور الذي اقسم النائب على احترامه. الأسوأ من هذا هو أن هذا البعض في غمرة حماسه لتفعيل أجنداته الإيديولوجية نسي دوره كمعبر عن طموحات المواطن في حياة كريمة أسمى ووضع معيشي أفضل وكمراقب للأداء الحكومي وكمدقق للموازنة العامة، فراح يتقمص دور الواعظ الديني والوصي على السلوكيات الشخصية وخيارات الناس، غير مفرق ما بين منبر البرلمان ومنبر المسجد. وهكذا فلئن ساهمت أجندات بعض القوى السياسية المتشددة من تلك التي تمثلت في البرلمان السابق في تباطيء المسيرة النهضوية وتراجع الزخم الاستثماري وبروز قلق غير مسبوق في كل تاريخ البحرين الحديث على الحريات الاجتماعية، فان مما يخشى معه اليوم وقد صارت تلك القوى ومثيلاتها مهيمنة على البرلمان الجديد بالكامل، في ظل فشل قوى التنوير والحداثة في إيصال ممثليها إلى المؤسسة التشريعية، أن تتعرقل المسيرة أكثر وتفقد البحرين المزيد مما تميزت به على مدى تاريخها الطويل كوطن مفعم بالحياة والحراك والفرح، وحاضن لمختلف الأفكار والأعراق والثقافات والمذاهب، ومركز إقليمي للمال والأعمال والاستثمارات الاجنبية. ومع ذلك فان الشريحة الأوسع من رجال ونساء واسر البحرين، ممن بنوا هذا الوطن وتحملوا في سبيل استقلاله ونهضته وازدهاره وتأكيد عروبته الكثير، وقبل أن يخرج رموز التشدد الديني الحالي إلى الدنيا ليرسموا صورة الوطن ويقرروا لونها ومقاييسها، ليسوا بمتشائمين. فهم رغم كل ما حدث لا يزالون يعولون على حكمة القيادة وعقلانية البعض داخل غرفتي البرلمان في صد الأجندات الهادفة إلى سلخ البحرين عن قيمتها الحضارية ودورها الإشعاعي في المنطقة، وفي مواجهة الطروحات المتشددة التي لئن صلحت لبعض المجتمعات القريبة فإنها غير صالحة البتة لمجتمع مدني تعددي كمجتمع البحرين. نقول هذا، وأمامنا سيل من الرسائل الهاتفية القبيحة والتصريحات الحادة والخطب الملتهبة لبعض من فازوا حديثا وأعيد انتخابهم في الانتخابات الأخيرة، وكلها تكاد من فرط تعسفها وتحجرها وتهديدها "بقطع الرقاب" و"السيف البتار" أن تشعل حريقا وانقساما وتوترا لا يقوى مجتمع البحرين الصغير على تحمله. بل أمامنا أيضا تجارب مرة كالعلقم لأوطان عربية بدت موعودة ذات يوم، بل وقطعت أشواطا إلى الأمام في مسيرة التحديث والنهضة والرخاء، لكنها فقدت البوصلة فجأة بفضل أجندات وبرامج متخشبة لقوى متشددة من تلك التي يجمعها ومثيلاتها في البحرين نفس المدارس الحركية والمرجعيات الإيديولوجية. فكان أن انتكس كل شيء في تلك الأوطان الواعدة لتتحول إلى أماكن تعشش فيها الغربان ويلفها السواد وصمت القبور، فيما اقتصادياتها في الحضيض وشعوبها تبحث عن لقمة العيش وبهجة الحياة خارج الحدود، ورجال أعمالها يفرون برؤوس أموالهم إلى المجتمعات غير المأزومة بالشعارات الفارغة والاصطفافات المذهبية والطائفية. فرفقا بهذا الوطن الذي مهما كانت نواقصه ومشاكله وهناته، فانه لا يزال جميلا وواعدا وآمنا بالمقارنة مع أوطان أخرى نخرتها الانقسامات والاغتيالات والمعارك العبثية، وانتهكت فيها كرامات الناس وحرمات أسرهم وخصوصيات حياتهم بأفظع الصور على أيدي ميليشيات ومتحزبين ورجال حسبة، فصار أهلها يبيتون ليلهم وهم لا يعلمون إن كانت شمس اليوم التالي ستطلع عليهم وعلى أطفالهم أم لا.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |