لا يمكن أن يكون كل هذا العبث، والجنون، والتطرف، والظرف، والهراء، أمراً طبيعياً، البتة، وربما، يدخل في نطاق التجريد الخالص، والخيال الواسع، والسوريالية المرّة، وبرامج الكاميرا الخفية. وهو يشكل، ولا شك، ولفرط عدم واقعيته واستثنائيته، ومن وجهة نظر سلوكية بحتة، طفرة بشرية عابرة، أكاد أجزم بأنها لن تتكرر في تاريخ الإنسانية إطلاقاً. ولا يمكن لأمهر المواهب البشرية تمثيلاً، وأردأها نوعية، وأخسها أخلاقاً، وانحطاطاً، وأكثرها توحشاً، وهمجية، وانحرافاً وضلالاً، من إعادة إنتاج هذه القفشات العجيبة، واللقطات الفكاهية المضحكة،كما تحدث، ووبشكلها الحالي، مرة أخرى.
ولذا، صار المرء يتمنى، فعلاً، أن يكون كل ما يحصل أمامه، من مشاهد، وأحداث، وقصص مأساوية، وحركات تهريجية، وأفعال صبيانية، ومراهقة سياسية، وكتابات عبثية، وصور تراجيكوميدية، وجولات مكوكية، وزيارات دبلوماسية، ومعارضات بهلوانية، وتحالفات شيطانية، وخطط استراتيجية، وحركات استعراضية هي من قبيل الدعابة ليس إلا، وعبارة عن عملية مزح، وتنكيت وحلقة من حلقات الكاميرا الخفية غايتها إزالة شيء من الملل والكسل العام من حياتنا. وأن ما يجري، من حولنا، يدخل في نطاق اللامعقول وغير الممكن، والمستحيل، بل المتعذر حدوثه والذي لا يقوم به، سوى المهرجين، ولا يتقبله سوى المخبولين، والمعتوهين المصابين بلوثات عقلية مزمنة. ولا يمكن أن يحدث، مطلقاً،ً إلا في العصفوريات، وعيادات العلاج النفسي والمصحات التأهيلية والعقلية. وأنه يجب الاعتذار منـّا في نهاية كل مشهد من هذه المشاهد الغريبة التي لا تنقطع، ولا تكل ولا تمل من إزعاجنا وقهرنا والتسبب في جنوننا. وعلى أن يتم إصدار بيان توضيحي عام للجماهير فيه اعتذار عما سببه لنا كل هذا التاريخ الأسود من قروح وندوب ودمامل مزمنة، واعتلال عقلي، واضطراب نفسي، وأذى عميق لمشاعرنا، وصدم لعفويتنا، وجرح لإنسانيتنا غير قابل للعلاج، والشفاء، والبراء. وشرط أن ينتهي المشهد برمته بمصالحة، وتلويح بالأيادي، وابتسامات عريضة، و"تبويس" للحى والشوارب. وكأي فيلم مصري رومانسي، أو هندي أنموذجي، يعود كل شيء إلى سابق عهده من الروعة، والصفاء، والجمال، ويتزوج الجميع ممن يحبون، ويخلفون صبيان وبنات، ويعيشون بثبات ونبات.
فكم أتمنى مثلاً أن يطل علينا من على شاشات التلفزيونات العربية واحد من أولئك المذيعين الأشاوس من فصيلة "البومة"، الذي لم يفتأ، وعلى مر تاريخه الديناصوري الطويل، من بث أنباء القتل والخراب، والتبشير بقرارات الترهيب والتخويف وسوء الطالع، وتدمير حياة الناس، ليعلن أن كل ما جرى، ويجري هو أمر مدبر، ومفبرك، وغير واقعي ومعقول ولم يحصل، وغايته المزاح والمداعبة، والترويح عنا في أوقات فراغنا الطويلة، والكئيبة التي نعيشها، والتي لا نعرف ما علينا أن نفعل بها. وأن دولنا، وحكوماتنا العربية "الرشيدة"، ولشدة حبها، واهتمامها وولعها بنا، ولرغبتها الصادقة بعدم إصابتنا بداء الاكتئاب القاتل، لم تجد بداً من اختراع هذه الأساليب واللجوء لهذه الحيل، والمزحات السمجة والغليظة.
وأن كل هذا الفجور والتطرف والسعار والغلواء، وهذا الغلاء الفاحش، والفقر الأسود والطفر وضيق ذات اليد، وسوء الحال، واللصوصية والسرقات، وتواضع الخدمات، وبؤس الإدارات، وتخلف الإجراءات، وتكشيرات المسؤولين، وترفع أبناء الذوات، وقرف العسس والجندرما والجنرالات من التابعين والرعايا الأرقاء، وبدائية التعاملات، وضريبة الرفاهية على الغذاء والدواء وابتسامات الأطفال، وأسعار السيارات المحلقة في الهواء، وماركاتها الخزعبلاتية الخرندعية التي لا يعرف لها أساس من رأس، وكل تلك القرارات القراقوسية، والضرائب الخنفشارية التي لم تنزل بكتاب، والخوات الإفقارية، والأتاوات النهبوية، والأفكار البائدة السائدة، والتشوهات الفكرية والإيديولوجية، والإعاقات العقلية، والحضارة البدوية الزائفة، وتصابي الشيوخ، ودلع العجائز الشمطاوات، ونقاب الفنانات، وفتاوى الفقهاء، وكل النكبات، وخيبات الآمال الكبرى، والانكسارات، والهزائم المذلة الماحقة التي منيت بها الشعوب يندرج كله في نطاق اللهو البريء، وهو عبارة عن حلقات من مسلسل العبث الدامي المضحك المبكي لن يلبث أحد ما، وفي زمن ما، من إعلان نهاية "القفشة"، واكتمال المشهد والاعتذار، والإعلان بأنها كانت فقرات مسلية وغير جدية، وتكملة لسلسلة برامج التسلية والكاميرا الخفية العام الذي يجري في الهواء الطلق، وعلى مسرح الحياة، وبشكل جماعي وأبطاله ثلاثمائة مليون فقط من الممثلين، والمخرجين، والمهرجين، والكومبارس، ومدة عرضه، فقط، منذ فجر تاريخنا العظيم التليد، الذي تتغنى به جميع الفضائيات العربية بلا استثناء.
إنها الأماني المجنونة الرعناء، في عصر الجنون الملعون، وللمجانين فقط والبلهاء، حيث لم يبق سوى الجنون، والهلوسة، والسحر كحل نهائي، وأخير، نلجأ إليه، للهروب من هذا الكابوس العربي المرعب الرهيب والهذيان.