شَنْقُ رَئيس ٍعَرَبِيٍّ !!!

نضال نعيسة / لندن

sami3x2000@yahoo.com

لا للتشفي. لا للحقد. لا للثارات. فالأحقاد الكامنة، والنفوس المحتقنة لا تعني سوى مزيد من القتل، والموت، والدماء. كم كان سيكبر العراق الجديد لو تسامح مع صدام حسين، وطوى صفحته بشكل حضاري وإنساني، وعومل كمريض، وليس كإنسان طبيعي، وغنيمة حرب وسجين سياسي؟ هذا الموت الرهيب، وبهذا الشكل الدامي يأتي في السياق العربي التاريخي المعهود، ولا يضيف أية نكهة جديدة على ما هو موجود. لسنا البتة في وارد الدفاع عن المجرمين والقتلة والجلادين، ولسنا مغرمين أبداً بالطغاة المجانين، ولكننا بحاجة إلى ثقافة جديدة غير ثقافة الثأر والانتقام والعقاب، إلى واقع جديد، إلى محاكمات عادلة وأحكام إنسانية إصلاحية حضارية، إلى إيديولوجيات تسامحية تصالحية متسامية، مع الذات، أولاً، ثم مع الآخرين. ثقافة تكرس الحب والعفو والتسامح، وتدمل جروحات الماضي. فهذه اللوحات المؤلمة الوافدة على المشهد اليومي لن تؤدي إلا إلى مزيد من الحقد، والتحفز، والتأجيج.
كانت المحاكمة عادلة وحضارية وثورية في المشهد العربي، لكن "القفلة" والخاتمة أعادت الأمور إلى سابق عهدها، ووضعها الطبيعي القديم. فلم يضف مشهد إعدام صدام حسين على اللوحة الدامية السوداء ولم يحقق أي مكسب جديد، هذا أذا تبقى في اللوحة أي مكان لاستقبال المزيد. لن نعامل صدام كشهيد، وقديس، ولكن كضال ومجرم حرّيف، ولن ندبج فيه قصائد الإعجاب والمديح، بل يجب أن نكون نحن القديسين والمتعففين المتسامحين. كما لن ندخل في تأويلات وخلفيات ومتاهات هذا الإسراع والتسريع الغريب في تنفيذ حكم الإعدام. فالجميع خاسرون، ولعل العراق هو أكبر الخاسرين. وثقافة الموت، وتعليق المشانق وقطع الرؤوس هي أكبر المنتصرين. ندرك تماماً حجم الأسى والألم والعذاب الذي تركته ممارسات الديكتاتور الدموية في نفوس الأرامل، والثكالى، والأيتام. وندرك مدى ما ألحقه بالعراق الشهيد من كوارث وحروب وويلات، ولكن صدام لم يكن سوى حلقة في سلسلة استبداد تاريخي طويل يتجدد يومياً، ويتقمص هذه الشخصية أو تلك، ولا ننسى أن هذه التربة العربية، بإرثها الطويل، مهيأة لكل صنوف الاستبداد والظلم والموت الرخيص.
اقتل قيصراً يأتي قيصر آخر، ولكن ازرع ثقافة جديدة بدل ثقافة بدائية همجية، فعندها فقط ستضمن ألا يأتي أي قيصر آخر. فكم قتل من الخلفاء، وكم عُلقت من المشانق، وكم من الرؤوس تطايرت، وكم صلب ومُثـِّل بجثث المعارضين، وكم اغتيل من النشطاء، وكم انقلب الأخوة على الأخوة، والأبناء على الآباء، والأمراء على الأمراء في مشاهد تكرس سلوك الهمج والرعاع، ولكن هذا لم يغير من واقع الحال شيئاً، وكل أمة أتت لعنت أختها، وهكذا دواليك، وسيأتي غداً من يعيد الكرّة من جديد. فالوجوه تتبدل وتتغير، إلا أن ثقافة الموت البدائية وحدها هي التي تستمر وتنمو ولا تتغير.
بنفس الطريقة، وفي ذات المكان الذي كان يشنق ويعذب فيه معارضيه، مات صدام شر "موتة" لم يكن يتوقعها أشد المتشائمين بمستقبل هذا الطاغوت الكريه. ولكن هل ستحل مشاكل هذه "الأمة" على حد تعبير الشموليين الحالمين؟ وهل ستبدأ بموته صفحة جديدة في التاريخ أم سندخل في دوامة جديدة من القتل، وتجذير الحقد الدفين؟
ومن وجهة نظر إنسانية وعلمانية، فلقد استغنت، بل ألغت، معظم دول العالم عقوبة الإعدام، وأدانت هذا السلوك الهجين. وهناك من لا يطبقها إلا في حالات ضيقة ومحدودة وبعد سلسلة من الإجراءات القانونية المعقدة. وفي الغرب يحظر نقل مشاهد الإعدام والمحاكمات تدور خلف أبواب بعيدة عن أعين الإعلام، ولا يسمح بدخول كاميرات التصوير إلى قاعات المحاكم ونقل ما يجري ما بداخله فلم نقبل على أنفسنا هذا السلوك الغريب؟ وإلى متى نستمر بالتمسك بالموت وممارساته كحل للكثير من مشاكلنا؟ تلك الدول التي عانت طويلاً من الحروب، والاقتتال، والإعدامات، توصلت إلى قناعات راسخة بأن العنف لا يولد سوى العنف، وأن لا سبيل، ولا خلاص إلا بنبذ ثقافة الموت والحقد والتشفي وإحلال ثقافة الحب والتسامح والعفو. آلمتنا جداً ممارسات صدام الدموية، وسلوكه الحربي الطويل، لكن ما يؤلم أكثر هو استمرار تلك البيئة والمناخات التي ستتيح مستقبلاً استنساخ أكثر من صدام، وفي غير مكان، فهماك أكثر من صدام ينمو ويكبر الآن في هذا الجو المكهرب المقيت.
كنّا نمنّي النفس، وفي اللحظات الأخيرة، بتحول دراماتيكي في هذه القضية الشائكة، والإشكالية الوطنية المعقدة، تهدئ الموقف، وتجد مخرجاً لائقاً للجميع، ليس حباً في الطاغية، ولكن حباً في العراق، وشعوب المنطقة التي أنهكتها ثقافة الموت، والقتل، والتشفي، والتنكيل، وتعويضات مجزية لسيل المتضررين، تخفف عنهم مصابهم، كما فعل ويفعل الآن كثيرون في العالم. لم يعد صدام، بعد سقوطه المريع، نمراً جامحاً، ولا نسراً جارحاً، بل أسيراً ضعيفاً يستثير شفقة المشفقين، ومريضاً محطماً يموت ألف مرة كل يوم وهو يرى ما حل به وما اقترفته يداه الآثمتان. أليس الموت والشنق في هذه الحالة إنقاذ، وراحة له من الألم والعذاب اليومي المستديم؟ فلِم يمنح هذا الخدمة المجانية، والشرف الكبير، ويتحول قديساً في نظر الكثيرين؟ ولم لا يترك هكذا فرجة، وعبرة لمن يعتبر، أليس في ذلك درساً أبلغ من درس القتل اليومي المقيت؟ ألن يكون التشفي به كل يوم أكثر من التشفي ليوم واحد ومرة واحدة بالعمر؟
إن من رقصوا اليوم، وهللوا، وتشفوا لموت صدام، هم من كانوا يرقصون له بقوة السلاح وإرهاب الطغيان، ويتشفون بالمعارضين الآخرين، وسيرقصون غداً، لأي صدام سيبعث من جديد ولأي مشنوق تعيس. أمّا لو تغيرت الثقافات والإيديولوجيات فلن تجد، بعد اليوم، أياً من هؤلاء الراقصين، أو أقرانهم، في الطرقات فرحين هائجين.
لن نهلل للموت، أبداً، وأياً كان ممارسوه وضحاياه، بل للحب والتعايش والحياة والوفاق والوئام والسلام بين الجميع. ولقد وعد الرئيس طالباني بأنه لن يوقع أي أمر لإعدام صدام، واستبشر الكل خيراً ً لسيادة نوع جديد من التعامل، والثقافة الاجتماعية والسياسية، إلا أن أرض الموت، وثقافة الموت، وحياة الموت، لا تنبت سوى الموت، ولن يكون في هذه الأرض سوى الموت. ولننتظر، إذن، وجميعاً، مزيداً من أخبار الموت.

قول مأثور:

قـَابَلـْتُ جَهْلـَهُمُ عـَفـْواً وَمَغـْفـِرَة ً****والعَفـْوُ عنْ قـُدْرَة ٍضَربٌ مٍنَ الكـَرَمِ

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع و النشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com