|
المثقف العربي بين رحابة التحرر والانفتاح وعبودية التبعية والانغلاق هلال آل فخرالدين العلاقة بين المثقف والسلطة علاقة اشتباكية بصفة عامة في تاريخ الفكر الانساني وهذه الاشكالية قديمة قدم التحرر الفكري ويكفينا لبيان اشكاليتها الاشارة الى موقف سقراط من الحكم عليه بتناول (السم) نتيجة اتهامه بافساد عقول الشباب ان التزام سقراط واصراره باحترام السلطة رفضه الهرب وإن كان سهلا يلفت الانتباه الى مبداء توقير السلطة عند ذلك الفيلسوف حتى لو تعرضت مراسيمها مع الحقيقة كما يراها وفي تاريخ ثقافتنابالخصوص اخذهذا المنحى شكلا اخر ونمطا مغاير هو اقرب ما يكون الى الارهاب منه الى التعارض والاشتباك في ظل انظمة التسلط بلبوس الدين اموية عباسية مملوكية عثمانية او انظمة دكتاتورية وشمولية ..الخ من اضفاء هالات القدسية عليها وتلبيسها بالحق المطلق وهذا بدوره يقود الى التسليم المطلق والعبودية التامة لها وان كانت جل ممارساتها خروجا عن جادة الصواب ومجانبة للنصوص و كان هذا من اولويات مهام انصارها (علماء وفقهاء وفلاسفة ورجال دين وشعراء وادباء ...الخ) حتى في التماس الممجوج من المعاذير والتمحل في التبرير للتكسب او بلوغ المراتب في القضاء ومجالس الافتاء والبقاء في مناصب امامة المذاهب وشيوخ المدارس وامامة المساجد وارتقاء المنابر ..!!! فهذه العبودية يطرب لها السلطان غاية الطرب وينتشى لها غاية النشوة لانه لمس ترع هؤلاء لكؤس الراح حتى الثمالة ذوبانا في خدمته اوتعاطيهم للمخدرات كما هو اعتادها ووفق توق كل سكير ومعتاد على جرف الاخرين معه وخرطهم في مسلكه فرزحت الامة طوال تاريخها ولازالت تحت وطأة اسرهذه الحالة واصفاد اغلالها الثقيلة حتى غدت ظاهرة ثقافية وحالة واقعية طبيعية معاشة تنخر في كل ماهو حيوي ..!! وان استهجانها او استنكارها او الخرج عليها بالرجوع الى الاصول او الحقيقة او الاجتهاد يجر لحدوث اشتباك مرير بين الطرفين واشهار السلطة واذنابها سلاح الدين ورمي (المجتهد ) سواء كان فقهيا ام مفسرا ام مفكرا ام فيلسوفا ام مثقفا بالبدعة والردة والرفض والفتنة والخروج على صحيح الدين وسليم العقيدة واطار الفكر في خلط مريع بين ماهو (مقدس ) او (نصي) وبين ماهو (بشري) او (سلطوي)او (سياسي) ..يتمثل في حقيقة ان الخطابين المتصارعين حد النفي المتبادل باستخدام رصاص (التكفير الديني) وتهمة (الخيانة الوطنية) ضد الاخر والتعبير عن هذا التعارض بلغة الفلسفة يمكن ان يكون على النحوا التالي ان مفهوم الحقيقة عند المثقف الحقيقي يتعارض مع المفهوم نفسه عند رجل السلطة والحقيقة عند رجل السلطة او السياسة تكون كذلك اي تكون حقيقية لانها نافعة ومؤثرة من هذا البعد يمكن احينا ان نجد نماذج لرجل السلطة خليفة المسلمين وحامي حمى الدين (المأمون) وعقلانيته واستخدام الفكر الاعتزالي لكن علينا هنا ان ندرس الكيفية التي يوضف بها رجل السياسة الحقيقة تلك توظيفا سياسيا نفعيا يحرمها من ان تترسخ في وعي الامة بوصفها حقيقة في مقابل المثقف باعث الوعي يقف رجل السلطة القابض على زمام حركة المجتمع عن طريق التحكم في القرارات التنفيذية والقدرة على تجيير ثمرة جهد المثقف وتكريسها لفرض سلطته وسحب الشرعية عليها ليس فقط على جزئيات ممارساتها بل وحتى انتهاكاتها وهذا الجانب التاسيسي للعلاقة بين الطرفين يبرز بشكل بديهي لحاجة السلطة السياسية في الاستناد الى نمط من المشروعية السيادية العليا ومن الواضح ان المجتمعات التي قامت فيها حركة الفكر والابداع والتقيم لانجد فيها هذه الهواجس المدمرة بالدرجة نفسها عند صنم السلطة ففي تاريخنا العربي مازال الاشتباك ماثلا باشكال مختلفة وترجع اسبابها للتعارض التي تنشأ بين المثقف والسلطة وهنا نلاحظ ان نمط المثقف الذي يمنح السلطة السياسية واعيا او غير واع طائعا او مجبرا متكسبا ام مندفعا مشروعية السيادة العليا التي تتوق الى ترسيخها .والتعارض إنما ينشأ بين المثقف الملتزم الثوري الحر وبين السلطة بسبب عزوفه من الانخراط في انتاج وعيا يرسخ السيادة التسلطية العليا وان جوهرية التعارض قائمة بين الوعي وادواته والياته وابعاده (جمالية فكرية دينية ) يتحرك صوبها محاولا اكتشاف الحقيقة في تجلياتها ومظاهرها المتعددة وان الوعي ذاته ظاهرة انسانية تاريخية رغم كونه يتواصل في حركته الدائمة للكشف عن الحقائق ثقافية تاريخية فان هدفهالاسمى يكمن في الرغبة الدائمة في تجاوز ماتم اكتشافه في اتجاه التحرك الى كشف المزيد من المجهول في الفكر والابداع والتفسير وكون الوعي نشاط دائم وفعاية متحركة لاتؤمن بالتقليد ولا تخلد الى الاستقرار والثبات ..ولكن السطة السياسية وادواتها والياتها التسلطية محورها الثبات والتشبث بموروثها المقدس لذي لايطاله التحقيق والتمحيص لانه حقيقة مسلمة لاياتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها لذلك ينصرف جل اهتمامها لما يحقق هذه الغاية من الفكر والابداع وان تجعل منهما جسر لبلوغ مأربها التي تفضي الت تكريس مشروعيتها السيدية وكل فكر وابداع يناهض هذه الغاية يتم اغتياله وتصفيته ووئده في مهده وعلى عكس المفهوم النفعي البرغماتي للحقيقة عندرجل السلطة تكون الحقيقة عند المثقف نافعة لانه حقيقة وليس لاية غايات نفعية مباشرة ترجى من ورائها إنها نافعة لانها تخلق وعيا وحسا شعبيا وتتجاوز اللحظة السياسية وتتخطى الاستفادة البرغماتية .لكن هذا الفصل التام بين مفهومي الحقيقة عند كل من المثقف ورجل السلطة لايعني ما يمكن ان يتبادر الى الذهن من فصل تام بين الفكر والسياسة بوصفهما نشاطين مستقلين يقع الفصل بين الفكر كنشاط يسعى نحو المزيد من الحقائق وبث الوعي وبين السياسة كفعالية لتحقيق الممكن فما يصلح للاستخدام انطلاقا من مبداء الغاية تبرر الوسيلة وهو عماد مبادىء السياسة وتثبيت السلطان يتعارض مع الفكر بما هو نشاط علمي يتجاوز اطار التبرير والنفعية وبسعى الى التحليل والتقيم لكن بعيدا عن هذا التعارض يمكن القول ان كل فكر يتضمن نمطا من الممارسات السياسية بالمعنى العام لان الفكر لايتم انجازه خارج نسق العلاقات التشكيلية الاجتماعية التي تؤطرها ثقافة بعينها وهنا نصل الى التمييز بين نمطين من المثقفين : المثقف التبريري التزويري الذي يدور في فلك النفعي والسياسي والتعصب الطائفي والتطرف الديني والتميز العرقي المباشر والمثقف الذي يهتم بالتحليل والتقيم والتفسير من دون ان ينخرط بشكل مباشر في مفهوم نفعية الحقيقة .ولا نقصد بالمثقف التبريري ذلك المثقف المتعاون مع السلطة والخادم والعبد المطيع لها والمتكسب بالفكر يلوي الحقيقة ويزيف الحقيقة لقاء دراهم معدودات الذي ران على قلبه وطمس ذهنه والمنتج لفكر ذي مردود مباشر لتأييدها وان كان هذا هو المتبادر الى الذهن للوهلة الاولى لانقصد هذا النمط وحده بل نضم اليه نمط المثقف المعارضة الذي يدور في فلك النفعي والبرغماتي وينظر بمنظار ضيق من خلال وجهة نظر جماعته اوحزبه ايضا ولكن من منظور سلطوي معارض للسلطة القائمة اي إننا يجب التميز بين المثقف المنخرط في العمل السياسي المباشر اليومي وبين المثقف المنخرط في العمل الثقافي والفكري ولابداعي من دون انعزال او تعال او تسام من العيش في ابراج عاجية او في غربة عن معايشة الحقائق رغم قساوة مرارتها وشديد وطاتها لكن ازمة هذا النمط من المثقفين ندرتهم في محيط سمته ابتذال (المثقف العبد) او مرتزقة المثقفين الاهثين وراء الاطماع دع عنك مرضى القلوب ومعلولي النفوس او حتى (البلطجية ) منهم واخيرا نصل في ختام هذا التحليل للقضايا النظرية المرتبطة بعلاقة المثقف بالسلطة الى تحديد الفرق بين خطاب المثقف المنتج للوعي وخطاب مثقف السلطة المنتج لخطاب السلطة لايجد عنه حولا (كالببغاء ) تردد من غير وعي اصوات ألقيت عليها ...وبعبارة اخرى بين مثقف منتج للوعي ومثقف يصادره ويبطش به وينحر الحقيقة على حساب ما يمكن ان يكون سراب ويمكن تلخيص هذا الفرق بالقول بان خطاب (المثقف الحقيقي )خطاب مفتوح اي غير دوغمائي بمعنى انه لايرى انه يمثل سلطة إطلاقية نهائية انه خطاب حر مفتوح لانه نقدي في بنيته وقادر على تجاوز نتائجه وذلك على عكس خطاب المثقف الاخر (مثقف السلطة ) فهو خطاب مغلق مسموم ضيق الافق دوغمائي إطلاقي يتضمن مفهوم الدفاع عن حقيقة مطلقة في كليتها وشموليتها .وهذا التمييز يتباعد بنا تماما عن التمييز السائد بين مثقف السلطة ومثقف المعارضة بالمعنى السياسي الدارج وهو يتيح لنا ان نضع التعارض الثقافي والفكري بين نمطين من الخطاب او نمطين من الوعي الخطاب المفتوح وهو خطاب (المعارضة بالفرض) والخطاب المغلق وهو خطاب( السلطة بالفرض ) ان اي خطاب حين يتحول الى (سلطة) ولو كان في موقع المعارضة السياسية المباشرة ينتهي الى تكريس مفهو السلطة في مجال الفكر والوعي والابداع وهو مفهوم اخطر بكثير من مفهوم السلطة السياسية نفسها !! والان فما امس حاجتنا في جواء ظرفنا الدقيق البالغ الخطورة والحساسية وما يلف منطقتنا من كوابيس مرعبة الى لغة خطاب مثقف منفتح نزيه صادق جريء ذو رؤى موضوعية عميقة يتبنى علاج بعض ما يعج به واقعنا من ركام اشكاليات وازمات تجذر استفحالها وهرم عليها مجتمعنا حتى وان كان خطابهم صيحات في واد كما عبر من قبل عن صيحات الكواكبي في محاربة الاستبداد لكنها اتت اكلها بعد حين لفقدانه عصا (موسى) السحرية.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |