|
الأمم المتحدة ما بين أمينين عامين آسيويين د. عبدالله المدني / باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية بسبب الصفقات الخفية ما بين اللاعبين الكبار لم تتح للنخب الآسيوية التي برعت بشهادة العالم في قيادة بلدانها نحو النهضة و التنمية و الرخاء أن تدير دفة الجهاز الأعلى المسئول عن شئون العالم سوى مرة يتيمة، فيما منح هذا الشرف لأفريقيا مرتين رغم الحقيقة التي لا تحتاج إلى براهين عن فشل نخب الأخيرة في انتشال القارة السوداء من البؤس و التخلف والفوضى. ومن هنا فان استلام الدبلوماسي الكوري الجنوبي " بان كي مون" قيادة السفينة الأممية بدءا من الأول من يناير الجاري كثامن أمين عام في تاريخ الأمم المتحدة، يأتي تصحيحا لوضع مختل طال أمده. لكن هذه المرة أيضا لم يخل الأمر من مساومات جرت خلف الكواليس بين الكبار لتهميش مرشحين آسيويين آخرين ربما كانوا أكثر تميزا من السيد مون، لجهة الجهود الإنسانية و الإنتاج الفكري والثقافي و الجوانب الإبداعية الرفيعة على نحو ما ورد في سيرة منافسه الأقرب ابن الأمم المتحدة الهندي " شاشي تارور". يأتي مون إلى قيادة الأمم المتحدة في حقبة عصيبة لا تختلف كثيرا عن الحقبة التي جاء فيها الآسيوي الآخر يوثاند، ثالث الأمناء العامون للمنظمة. صحيح أن عصرا كاملا حافلا بالصراعات والحروب المريرة يفصل ما بين الرجلين، غير أن الصحيح أيضا هو أن الكثير مما صار جزءا من التاريخ عاد مجددا في صور أخرى أكثر ضراوة و تهديدا للسلم و الأمن العالميين. فلئن بدأ يوثاند عهده في أوج الحرب الباردة ما بين القطبين الأمريكي و السوفياتي، فان مون يبدأ عهده في أوج حرب من نوع آخر هي الحرب على الإرهاب التي يصارع فيه المجتمع الدولي غولا غير محدد المعالم و القدرات والمواقع. و كما بدأ يوثاند عهده بمواجهة أزمتين كبيرتين هما أزمة الصواريخ الكوبية و أزمة الكونغو، فان مون يجد نفسه اليوم أمام أزمتين لا تقلان خطورة و تتطلبان جهدا خارقا إن أرادت منظمته فعلا أن تحافظ على ما تبقى لها من دور و هيبة هما : الأزمة النووية ما بين واشنطون و كلا من طهران وبيونغيانغ ، والأزمة المتفجرة في القرن الإفريقي بما فيها مشكلة دارفور. و مثلما شهدت حقبة يوثاند تورط الولايات المتحدة في فيتنام، تشهد بدايات حقبة زميله تورطا أمريكيا متزايدا في العراق. وكما ورث يوثاند من أسلافه ملفا شائك لم يفلح في إيجاد حل له رغم محاولاته الدءوبة فأورثه لمن جاؤوا بعده، و نعني بذلك ملف الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، يرث مون ذات الملف من سلفه و قد زاد تعقيدا و خللا. على أن المختلفات و المتشابهات بين الرجلين لا تنحصر في ما سبق ذكره. فعلى الصعيد المهني، و رغم كونهما من نتاج الجهاز الحكومي في بلديهما حيث تسلقا الوظائف الرسمية المرموقة وصولا إلى تمثيل بلديهما في الأمم المتحدة و بما اتاح لهما الإطلاع عن كثب على خفايا العمل في الأخيرة، فان يوثاند قضى الجزء الأكبر من مشواره قبل وصوله إلى نيويورك سفيرا لبلاده في عام 1957، في الحقل الإعلامي ، بدءا من تأسيسه لجريدة يومية باسم "الشمس" و كتابته للمقالات في المجلات و الدوريات المحلية و قيامه بترجمة العديد من الكتب الاجنبية، ثم ترؤسه لهيئة الإذاعة البورمية بعيد الاستقلال في عام 1948 ، فشغله لمنصب وزير الإعلام ما بين عامي 1951 و 1957 ، فتعيينه سكرتيرا خاصا مسئولا عن كتابة الخطب الرئاسية و تنظيم الزيارات الخارجية لصديقه وأول و آخر رؤساء بورما الديمقراطيين و احد مؤسسي حركتي باندونغ و عدم الانحياز الرئيس " أونو". و هذا يختلف بطبيعة الحال عن مشوار مون الذي بدأ حياته العملية فور تخرجه من الجامعة في عام 1970 كموظف في الخارجية الكورية، قبل أن يرقى ويرسل للعمل في سفارات بلاده في نيودلهي و فيينا و واشنطون و الأمم المتحدة، و قبل أن يصبح في التسعينات مديرا لإدارة الشئون الامريكية في وزارة الخارجية فنائبا لوزير التخطيط والمنظمات الدولية فمستشارا لرئيس الجمهورية لشئون الأمن القومي فوزيرا للخارجية. و بعبارة أخرى نحن أمام شخصيتين: الأولى عملت مع بناة الديمقراطية في بورما التي كانت في مطلع الخمسينات على موعد لتصبح احد النماذج المشابهة للهند في الديمقراطية و دولة المؤسسات المدنية المنيعة لولا انقلاب الجنرال "ني وين" العسكري في عام 1962 الذي أطاح بكل الآمال وادخل البلاد في عزلة قاتمة لا تزال مستمرة إلى اليوم، بل الذي تملك قائده الغيظ من نجاحات يوثاند وشهرته الدولية فبالغ في تهميشه و التعتيم على اسمه إلى أن مات الأخير في نيويورك بالسرطان في عام 1974 دون أدنى تقدير أو عرفان من وطنه، و شخصية عملت وبرزت و حققت ما حققته في ظل أنظمة ديكتاتورية قمعية، وان كان يحسب لهذه الأنظمة أنها وضعت كوريا الجنوبية على طريق التصنيع و الازدهار خلافا لما حدث في بورما. أما على الصعيد الأكاديمي، فتتشابه سيرة الرجلين جزئيا. فهما لئن تخرجا من أفضل جامعات بلديهما و تحديدا من كلية رانغون الجامعية و جامعة سيئول الوطنية، فان تحصيل البورمي توقف عند حدود ليسانس التاريخ، فيما واصل الكوري تحصيله مضيفا إلى بكالوريوس العلاقات الدولية شهادة الماجستير في الإدارة الحكومية التي نالها في عام 1984 من جامعة هارفارد الامريكية، وإجادة اللغات الإنجليزية و الفرنسية و اليابانية و الألمانية. جاء يوثاند إلى الصرح الاممي محملا بمعتقداته البوذية التي حاول خلال ولايتيه الممتدين من 1961 إلى 1971 أن يوظف بعض مبادئها – مثل الميتا و الكارونا أي الرغبة الصادقة و الحنان على التوالي - في تسيير دفة العمل، مضيفا إليها بعضا من طباعه الشخصية كالتواضع والزهد والصبر و حسن الإصغاء و تحاشي البهرجة الإعلامية، فنجح في أن يطبع عهده بطابع مغاير لما اتصف به عهد سلفه السويدي داغ همرشولد الذي تميز بديناميكية طاغية و صراحة عالية في المواقف أغضبت منه البعض و على رأسهم السوفييت و حلفاؤهم. و كان من مردود نهج الحذر والصبر و الكتمان و الحركة المتزنة نجاح يوثاند في العديد من جهوده الدبلوماسية لحل أزمات كوبا و الكونغو و ايريان الغربية و قبرص و البحرين أو تداعيات حرب اليمن الأهلية و حرب استقلال بنغلاديش إلى درجة أن كل الكبار اجمعوا في عام 1971 على منحه ولاية ثالثة، و هو ما رفضه الرجل بإصرار، بل رفض حتى التمديد المؤقت له، و ذلك في ظاهرة مخالفة لما حدث مع سائر خلفائه. لكن الرجل لم يسلم من الانتقاد المرير، على الأقل في واقعة واحدة، هي استجابته لطلب الرئيس المصري جمال عبدالناصر بسحب قوات الطواريء الدولية من سيناء قبيل حرب حزيران 1967 ، رغم أن اكبر قوتين مشاركتين في هذه القوات (الهند و يوغسلافيا) كانتا قد قررتا الانسحاب فعليا. أما مون فانه يخلف الغاني كوفي أنان الذي خلت فترته إجمالا من المصادمات الصاخبة التي طغت على عهد المصري بطرس غالي، و من البرود و اللااكتراث اللذين طغيا على عهد البيروفي خافيير دي كويار. و هو عازم أن يضفي لمساته الآسيوية الخاصة على المنظمة، ويبرهن للعالم أن الآسيويين الذين نجحوا في تحويل قارتهم من أكثر قارات العالم تخلفا و بؤسا إلى أكثرها نموا وطموحا قادرون على التعامل مع التحديات الأممية الراهنة. و في هذا يقول مون عن نفسه انه قد يكون بلا كاريزما و قد يبدو ناعما من الخارج ، إلا انه يحمل بداخله من القوة ما يستطيع به الحسم و الإنجاز، مضيفا " نحن الكوريون، نهضنا من رماد الحروب و نعرف معنى الإرادة و التصميم لعمل المستحيل .. وقد ساعدتنا الأمم المتحدة كثيرا على النهوض، وحان الوقت لكي نرد لها بعض الجميل". لكن الأمر المؤسف هو أن يبدأ الرجل عهده بقرار أثار زوبعة من الانتقادات. فهو بإسناده ثاني أعلى منصب أممي إلى التانزانية "عايشه روز ميغيرو"، لقي الإشادة من أنصار المساواة الجندرية، لكن آخرين كثرا يرون شبهة و محاباة في هذا الاختيار، خاصة وان المعنية غير معروفة عالميا ولا توجد لها إنجازات باهرة سواء داخل بلدها أو خارجه، بل لم يمض على قيادتها لوزارة الخارجية التانزانية سوى عام واحد من بعد فترة شغلت فيها منصب وزيرة تنمية المجتمع.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |