حينما يفسد عضو مصداقية منظومة بأكملها

 د. عبدالله المدني / باحث و محاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية

elmadani@batelco.com.bh  

على الرغم من إنجازاتها المشهودة في التنمية و التعاون و التنسيق منذ انطلاقها في عام 1967 ، و التي توجتها مؤخرا بمعاهدة ملزمة حول مكافحة الإرهاب و اتفاقية حول التحول قريبا إلى ما يشبه الاتحاد الأوروبي، فان منظومة آسيان الجنوب شرق آسيوية تبدو كما لو كانت أمام مأزق يهدد مصداقيتها و نفوذها و تأثيرها. أما المتسبب في هذا المأزق فليس سوى ميانمار (بورما سابقا) ، التي قبلت كعضو منذ عام 1997 .  وأما السبب فهو مواصلة نظام هذا البلد انتهاج سلوك قمعي ديكتاتوري لا يستقيم مع توجهات بقية الأعضاء في تعزيز الديمقراطية و الحريات و حقوق الإنسان و الالتزام بالمعايير الدولية و انتهاج سلوك حضاري.

 لقد تبنت آسيان منذ التسعينات فكرة انه بالامكان تدجين نظام رانغون العسكري و احتواء ممارساته القمعية من خلال منح ميانمار العضوية الكاملة في المنظومة و الارتقاء بأوضاعها الاقتصادية البائسة و مساعدتها على المصالحة الداخلية، و ذلك على الرغم من اعتراضات بعض القوى الكبرى التي رأت في العملية تأجيلا للاستحقاقات الديمقراطية و إطالة لعمر احد أشرس الأنظمة العسكرية في آسيا. و طوال السنوات الماضية حاولت آسيان أن تدفع بالأمور في ميانمار نحو التهدئة و المصالحة و الحوار، لكنها لم تنجح إلا في تحقيق اختراقات جد متواضعة بسبب عدة عوامل من بينها تبني أعضائها لوجهات نظر متعارضة أو وقوفهم على الحياد.  و هكذا راح نظام رانغون يستفيد من وضعه كعضو في المنظمة في فك عزلته الدولية و تعزيز شرعيته و قبضته على السلطة، بدليل مواصلته فرض الإقامة الجبرية على زعيمة المعارضة الحائزة على جائزة نوبل للسلام لعام 1991  "اونغ سان سوشي"، و تنكيله بالأقليات العرقية وأنصار الديمقراطية  والمدافعين عن حقوق الإنسان،  وتعرضه بالتهديد و الاعتداء على العاملين في المنظمات الدولية الإنسانية.

 غير أنه في السنوات الأخيرة حدث ما جعل هذا البلد العضو يبدو كشوكة في حلق آسيان، أو كمتسبب في احراجات كبيرة لها على الساحة الدولية. فطبقا لتقارير المنظمات الحقوقية  والإنسانية الموثقة بشهادات ميدانية، راح " مجلس الدولة للأمن و السلام" الحاكم في رانغون يوسع من عمليات البربرية ضد المدنيين من المعارضين و المتمردين و الأقليات العرقية بأساليب جديدة شملت تجويعهم عن طريق حرق محاصيلهم الزراعية أو الاستيلاء عليها لصالح الجيش أو منع وصول الإمدادات الغذائية إليهم أو قطع طرق المواصلات و الاتصالات عنهم في مخالفة صريحة لاتفاقيات جنيف. و كان الهدف من هذه الأعمال التي يقال أنها متواصلة تهجير عشرات الآلاف من المعارضين إلى المناطق النائية أو دفعهم عبر الحدود إلى الدول المجاورة،  وهو ما نجحت فيه السلطة بدليل وجود أكثر من 150 ألف لاجيء من ميانمار في تايلاند.  

 و تعبيرا عن سخطها، قامت المنظمة في يوليو 2005 بالضغط على رانغون للتنازل عن دورها الأبجدي في قيادة آسيان في عام 2006 . و في قمتها السنوية في ديسمبر 2005 فرضت المنظمة على ميانمار أن تستقبل وفدا برئاسة وزير الخارجية الماليزي سيد حامد البار من اجل مناقشة أوضاع البلاد، غير أن زيارة الأخير كانت فاشلة بكل المقاييس لأنه لم يتمكن من مقابلة رأس الدولة الجنرال " تان شوي".

 ولعل هذه الأمور مجتمعة هي التي دفعت إلى نفاذ صبر الولايات المتحدة و بالتالي إقدامها هذا الشهر إلى الوقوف خلف مشروع قرار في مجلس الأمن الدولي يدعو حكومة رانغون إلى إطلاق سراح زعيمة المعارضة و كافة المعارضين و احترام حقوق الإنسان و التحرك الجاد نحو إقامة الديمقراطية. و رغم أن القرار لم يتحدث عن أية عقوبات في حالة عدم الاستجابة لمضامينه، فانه سقط عند التصويت عليه بفضل ممارسة الصين و روسيا لحق النقض (الفيتو) معا، و ذلك لأول مرة منذ عام 1972 حينما نقضا سوية قرارا حول قضية الشرق الأوسط .  و بطبيعة الحال يمكن النظر إلى سلوك بكين و موسكو من زاوية مشاغباتهما لواشنطون كلما وجدتا فرصة، و من زاوية مخاوفهما من أن يؤسس القرار لسابقة تستخدم لاحقة ضد الحكومة الصينية لقمعها نشطاء الديمقراطية، أو ضد الحكومة الروسية لانتهاكها حقوق الإنسان في الشيشان مثلا، و هي نفس المخاوف التي يعتقد أنها كانت وراء رفض بعض أعضاء مجلس الأمن غير الدائمين للقرار أو امتناعهم عن التصويت. كما يمكن النظر إلى الموقف الروسي من زاوية حرص الروس على صفقات أبرمتها معهم حكومة رانغون خلال زيارة نادرة قام بها إلى موسكو الرجل الثاني في النظام "نيان وين" في ابريل 2006 . غير أن بكين كانت لها مآرب أخرى من الإطاحة بمشروع القرار الذي بررته واشنطون بوجود تهديد للسلم و الأمن الإقليميين. فالنظام العسكري الحاكم في رانغون هو من اكبر حلفاء بكين في جنوب شرق آسيا، بدليل حجم التعاون المطرد بين البلدين منذ التسعينات، شاملة حصول الصين على قواعد  وتسهيلات عسكرية في موانيء ميانمار المطلة على بحر البنغال و المحيط الهندي. بل يمكن القول أن الصينيين لعبوا الدور الحاسم في بقاء نظام رانغون و إطالة عمره بفضل ما قدموه للأخير من مساعدات اقتصادية في وقت كان يعاني فيه من عزلة دولية خانقة.

 نعم، لقد أعاق الصينيون و الروس مشروع القرار الاممي حول ميانمار، لكن القرار نجح على الأقل في تحريك المياه. فمنظومة آسيان الحريصة على مصداقيتها و نفوذها المتصاعد ككتلة اقتصادية إقليمية سارعت في أعقاب هذا التطور إلى الإعلان من مدينة سيبو الفلبينية، حيث كان قادة دولها يعقدون قمتهم السنوية، عن تحملها لمسئولية الإصلاح و تحسين أوضاع حقوق الإنسان في ميانمار، و تعهدها ببذل جهود اكبر من اجل إرساء الديمقراطية في هذا البلد العضو. و هذا بطبيعة الحال يختلف عما دأبت المنظمة على ترديده في قممها السنوية من مناشدة لحكام رانغون حول الإصلاح و إطلاق سراح المعارضين، بل يختلف عن موقفها المتشائم الذي وصل في العام الماضي إلى حافة التخلي نهائيا عن ملف الإصلاح و المصالحة في ميانمار، حينما أعلن سكرتيرها العام "أونغ كينغ يونغ" أن آسيان تملك قدرات محدودة لتأثير على صناع القرار في رانغون، مضيفا أن السبيل الأفضل لحل المعضلة هو استجداء تعاون الصين و الهند اللتين تربطهما بميانمار حدود مشتركة و علاقات تجارية و سياحية و استثمارية و عسكرية قوية و صفقات كبيرة في قطاعي الطاقة  والمناجم، و متناسيا أن لكل من هذين القطبين المتنافسين مصالحه الاستراتيجية الخاصة التي يحرص عليها و يخاف من ضياعها وسقوطها في يد القطب الآخر إن ضغط على حكام رانغون.

 و الأمر المشجع الآخر هو أن هذا الموقف الجديد لآسيان يأتي في وقف تنحو فيه المنظمة نحو التحرر من بعض البنود و الأحكام التي قيدت تحركها خلال العقود الأربعة الماضية، مثل عدم تدخل الأعضاء في الشئون الداخلية لبعضهم البعض، الأمر الذي سيسمح بمراقبتها للأوضاع الداخلية لأي بلد عضو و الضغط على نظامه الحاكم من اجل إحداث الانفراجات المطلوبة تحت طائلة معاقبته بالطرد.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com