عاشوراء الحسين

سليمان الفهد / كاتب وسياسي عراقي

Sulaiman_alfahd@hotmail.com

شكلت تجربة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب ( ع ) في السلطة عقب خلافة عثمان بن عفان اختبارا قاسيا لاطروحة النص التي عمل علي ( ع ) على تطبيقها بكامل ملامحها وامتداداتها، والاطروحة المشار اليها تعني تحكيم النص في حياة المسلمين والاجتهاد بمقتضى مداليله. وهي بذلك تخالف اطروحة اخرى كانت قد بأت بالتشكل بعيد وفاة الرسول محمد ( ص ) وهي اطروحة الاجتهاد، والتي تعني جواز تحكيم الراي على النص وتجاوزه اذا وجد المجتهد ما يبرر ذلك، وكان علي ( ع ) قد سعى لضبط بل للجم أطروحة الاجتهاد ما امكن وهو خارج السلطة في العهود التي سبقته والحد من تطبيقها وبالتالي تنافرها مع النص، وقد نجح الى حد ما في ابقائها محصورة في بعض الموارد، ورصيده في عملية الضبط كان نفس خصوصيته وموقعه بين المسلمين فضلا عن علمه الزاخر الذي لا يجرؤ احد على محاججته. الا ان استلامه السلطة افقد مباشرة دوره السابق – المراقب والضابط من الخارج لحركة تطبيق النص – ووضع اطروحته التي اشرنا اليها، في ميدان التطبيق العملي، والتي كان يتطلب منها، اختزال مدة ربع قرن من عمر المسلمين وتجربتهم في ظل اطروحة الاجتهاد، واعادة وصل حياة المسلمين في عهد الامام علي ( ع ) بحياتهم في عهد الرسول محمد ( ص )، بمعنى اخر، كانت تجربة تطبيق اطروحة النص تعني ايقاف العمل بكل الاحكام والتشريعات المستجدة التي عملت بها الامة بأمر من الخلفاء لآنها برأي امير المؤمنين مخالفة للسنة الشريفة. لكن تحدي اطروحة الاجتهاد كانت تقف دونه عقبات ومحاذير كثيرة كان علي يدرك حجم مخاطرها ولهذا الامر كان عليه السلام يحرص على عدم التصدي مباشرة للسلطة بعد مقتل الخليفة الثالث عثمان، غير ان اصرار الثوار حينذاك حال دون استمرار رفضه للخلافة الذي اعتبره الامام حجة عليه يوم القيامة :\" أما والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لولا حضور الحاضر وقيام الحجة وبوجود الناصر وما أخذ الله على العلماء أن لا يقاروا على كظة ظالم ولا سغب مظلوم لآلقيت حبلها على غاربها ولسقيت أخرها بكأس اولها \".

لقد ساهمت حالات الخروج المتتالية على الامام في بلبلة الراي العام وافقاده الرؤية السليمة للامور وبالتالي انعكاس الضوابط الشرعية الى حد جعله يميل بسواده الاعظم الى معسكر الخصوم، لقد حملت كل معركة، من معارك خصوم الامام من الناكثين والقاسطين والمارقين، الرأي العام خطوة بالاتجاه المعاكس، الى حد جعل الامام يشعر بضغط الاحداث عليه بعد النهروان وهجمات معاوية المتتالية عليه.

ولم يغير استشهاد امير المؤمنين من واقع ضياع الامة شيئا، فالناس بقيت منبهرة بأطروحة الاجتهاد التي كان يلوح بها معاوية بن ابي سفيان والتي كانت تعني عند الناس اعادة وصل حياتهم بتجربة الخلفاء الذين سبقوا الامام علي ( ع )، وقد اكدت تجربة الامام الحسن ( ع ) القصيرة تلك الحقيقة، حيث نجح معاوية وبسهولة في اختراق بنية جيش الامام واستمالة قطاعات واسعة ومختلفة منه، وبالتالي اسقاطه من دون مواجهة تذكر واقدام الامام الحسن ( ع ) على توقيع صلح مع معاوية، لم يكن في الواقع سوى موقف املته ظروف قاهرة جدا حتمت عليه ان يقدم السيء على الاسوء دون ان يشكل ذلك تراجعا عن الاطروحة الاصلية ولا مصالحة بين الاطروحتين لصعوبة تطابقهما بل لاستحالة ذلك.

غير ان صلح الامام الحسن ( ع ) مع معاوية لم ينقل الامام الى دور الضابط خارج السلطة، وبعبارة اخرى لم يسترد بخطوته هذه نفس موقع الامام علي ( ع ) قبيل استلامه السلطة، لا بسبب رفضه للموقع وانما لتعذر اتخاذه بعد ان ادى اعراض قطاعات واسعة من الرأي العام واستشهاد الامام علي ( ع ) الى خسارة هذا الموقع، اضافة الى تغاير ظرفي معاوية والخلفاء الثلاثة فالاول بات يشعر بعد علي ( ع ) وصلح الحسن ( ع ) انه في موقع المنتصر وبالتالي ليس بمقدور احد مراقبته وضبطه فهو الشرعية بكل معانيها وابعادها وكل من يعارضه يعتبر خارجا عليه وعليها بالضرورة.

هذا المأزق الذي ابتليت به اطروحة النص انتقل بعد استشهاد الامام الحسن ( ع ) الى الامام الحسين ( ع )، الذي وضعه موقعه ومأزق الاطروحة في انعدام مؤشراتها بالتوجيه والضبط من خارج السلطة، الى تبني احد خيارين بعد انم ألت الامور في عهد يزيد الى اسوأ ما يمكن تصوره من احراف :

أ: خيار السكوت والاذعان للواقع المتردي مع ما يمكن ان تؤول اليه الشريعة بعد تمادي الامويين في تطبيقهم لاطروحة الاجتهاد والتي اقل ما يمكن احتماله في ذلك انفصال الاحكام السلطانية عن روح الشريعة وبالتالي غلبة وطغيان نهج العمل بالرأي مع كل مأسيه ومخاطره.

فيزيد بن معاوية بنظر الامام الحسين ( ع ) احد افرازات اطروحة الاجتهاد، وسلوكه السياسي والديني والعملي لن يكون بأفضل من الاصل الذي انتجه وانما سيشكل اشد انواع التردي والسقوط في مهاوي الانحراف والخروج عن النص وبالتالي تجربة الرسول محمد ( ص ).

ب: خيار المواجهة المباشرة غير ان هذا الخيار يفترض ان يؤدي ثماره لا ان يكون مجرد عمل جهادي أني ينتفي أثره ومفاعيله لحظة الاستشهاد، فحياة الحسين ( ع ) مكرسة بالاساس لحمل الامانة واطروحة النص – المحمدي الاصيل – وتعميمها وبالتالي تكريسها كأطروحة حاكمة في ضمير ولا وعي المسلمين قبل السلطة، وليس من السهل التخلي عن تلك الحياة ان لم يكن انتهاؤها يؤدي المراد منها في حال وجودها. ولهذا عقد الحسين ( ع ) العزم على اعادة نفث الروح في اطروحة النص التي جهد الامويون و ( الهمج ) من الناس الذي تابعوهم بسذاجتهم المعهودة، من اجل طمسها وانهائها بالكامل لاتاحة الفرصة لاطروحة الاجتهاد فقط لكي تؤدي دورها في حاكمية المجتمع.

والمهمة العظيمة والخطيرة التي اراد الامام انجازها تتطلب في الدرجة الاولى معطيات من واقع الحياة السياسية والدينية تساعده على انجازها، الى جانب تحضيرات من قبل الامام ( ع ) ترفع بالمواجهة الى مستوى خطورة المرحلة، وتساهم بمؤثرية ادائها في رفع قيمة الفعل وحرارته بحيث يتغلب على درجة البرودة في حركة اطروحة النص، وتعمل بنفس تلك الحرارة على اذابة كل ما علق بالاطروحة من اوهام وافتراءات واكاذيب حالت كلها دون تواصل الامة معها.

لهذت انتظر الامام تحرك بعض من تحسس مخاطر المرحلة، ليجعل من هذا التحرك منطلقا بخطواته المنعطف، وبالفعل شكلت رسائل الاستعانة والدعم والتأييد الكوفية حافزا جديدا عجلت في حركة الامام بأتجاه المواجهة. الا ان المرسلين لم يكونوا، بأستثناء نخبة منهم، بمستوى قيمة المنعطف ومداليله، ولعلهم ولاسباب مختلفة، كانوا يريدون تسجيل حضورهم كمواطنين في عاصمة سابقة غاب بريقها بعد انتقال الثقل السياسي والمعنوي والاقتصادي الى دمشق، وربما كانوا متأثرين عاطفيا بفعل تعبئة كتلة مخلصة من اتباع اطروحة النص، ولم تكن هذه التعبئة قد ارتقت الى مستوى تجاوز المشاعر الى القناعات الراسخة والايمان العميق بالاطروحة.

ولذا لم يغير تراجع الكوفيين بعد مقتل رسول الامام الحسين ( ع ) مسلم بن عقيل شيئا وبقي الامام على خياره الثاني، هو المواجهة، لكنه حاول التعويض عن خسارة الساحة الكوفية والتحرك الشعبي المؤيد بحشد ما يمكنه من عناصر الاثارة والتحريك المطلوبة لاداء الوظيفة التاريخية المباركة، والتي يمكن اختصارها بمهمة اعادة الحياة الى اطروحة النص التي ساهمت عوامل مختلفة في ابقائها على هامش الحياة السياسية والفكرية. ومن هنا يمكن فهم اصرار الامام الحسين ( ع ) على اصطحاب اسرته وأل بيت الرسول محمد ( ص ) معه مع ما يحمل ذلك من احتمالات القتل الجماعي والمأساوي، وكان عدد من الاصحاب قد نصحوه بالعودة وعدم متابعة المسير، واخرون املوا منه اعفاء من معه، الا ان الامام ( ع ) اصر على موقفه، مما يكشف عن رغبة اكيدة وقناعة كانت تسيطر على فكره مؤادها ضرورة بذل الدم والمهج وفي شكل مؤثر من الكبار والصغار، لان اقل من ذلك قد لا يفي بالغرض المطلوب تحقيقه وهو احياء اطروحة النص وبعث حركتها في الامة.

وبالفعل استطاع الامام ( ع ) ان يحقق غرضه بالكامل، حيث وفر كل العناصر الطلوبة لتحريك المشاعر وايقاظ الضمائر فضلا عن احداث صدمة كبيرة تبعث الحياة في عروق المسلمين، فكان استشهاد الطفل الرضيع وبالصورة التي قتل فيها، والقاسم والعباس والحسين ( ع )، والعطش وسبي النساء وقطع الراس وصراخ زينب ( ع ) وموقفها والكلمة كذلك الامام المريض علي بن الحسين ( ع ) وابقاء الجثث في العراء، من العناصر المطلوبة، لان واقع الانحراف وطغيانه واستكانة الناس شبه كاملة لا يزيلها مقتل امام او صرخة طفل، وانما تفترض حدوث فاجعة ونكبة ومن اناس لا يزال لهم في قلوب الناس رصيد، على المستوى العاطفي في اقل تقدير، باعتبارهم من ابناء النبي ( ص ) وبيته، ولا شك ان للنبي ( ص ) قدسية خاصة ليس من السهل التخفيف من قيمتها واهميتها.

وسرعان ما بدأ دم الحسين وأل بيته يثمر في الامة المنحدرة، فاستحال هذا الدم حرارة وتوهجا قل نظيره لا بل يستحيل وجود نظير له في التاريخ، وشرعت اوصال الامة وشرايين ابنائها المتصلبة في الحركة وبصورة فاقت المتصور، وعادت الاطروحة لتحتل مكانتها في عقول ونفوس المسلمين ويتطوع للدفاع عنها الاف المجاهدين دون كلل او تعب.

وشق نهر الدم الذي فجر الامام الحسين وال بيته ( ع ) معنينه الاول طريقه، واخذت الروافد تغذيه على امتداد التاريخ الاسلامي، فكان التوابون اول من رفدوا بدم يمتاز بحرقة ولوعة الندم على التقصير، وتابعهم المختار الثقفي، وزيد بن علي بن الحسين، ويحيى بن زيد، وابراهيم بن عبد الله بن الحسن، ومحمد بن عبد الله صاحب النفس الزكية وحسين بن علي واخرون غيرهم، وغيرهم الذين احالوا نعيم الامويين والعباسيين الدنيوي المزيف الى جحيم. هكذا اصبحت كربلاء مناسبة دائمة لتذكير اطروحة الاجتهاد بضرورة العودة الى ينابيع النص والسنة الشريفة، كما انها اصبحت امانة في اعناق اتباع اطروحة النص يتوجب عليهم حفظ مكتسباتها والابقاء على حرارة الدم الذي سال في عاشوراء الحسين ( ع )، من هنا يمكن تفسير مختلف اساليب التحرك التي ابتكرت بعيد كربلاء. فالائمة عليهم السلام بدأ بالامام زين العابدين (ع) ومرورا بمحمد بن علي الباقر (ع) وجعفر بن محمد الصادق (ع) حتى الامام العسكري(ع) تبنوا مسلكا واحدا عنوانه\" بلورة اطروحة النص وحفظه \" والذي يعني بالتالي الامساك بمكسب كربلاء الاول \" احياء اطروحة النص \" واحاطته بالعناية الفائقة والاستفادة من حرارة نصرته عند اتباعه وترجمة تلك الحرارة الى وعي حقيقي لتلك الاطروحة، فكانت جامعة ال البيت ( ع ) التي جهدت لحفظ تراث الرسول ( ص ) وال بيته عبر بث الرواة والفقهاء والمحدثين في كل مكان، من دون ان يسمحوا للسلطان بامتلاك مبررات التصفية الجسدية والمحاصرة، لكنهم لم ينسوا الجانب الاخر من عمل اتباع الاطروحة وهو الابقاء على روح الثورة متأججه في صدور المؤمنين باطروحة النص، فكانوا يدعمون في الخفاء الثورات والانتفاضات من دون ان يشعروا الحكام بوجود هذا الدعم، مع ذلك لم يأمن الحكام جانب الائمة ( ع ) فكانوا يلاحقونهم ويترصدونهم باستمرا حتى قيل انه لم يمض منهم احدا الا وكان قتيلا، وقد تطور الحكام في محاصرة الائمة ( ع ) في نهايات العصر العباسي الاول عندما ابتكروا اسلوب الاقامة الجبرية بعناوين خادعة كما حصل مع الائمة الاربعة الرضا والجواد والهادي والعسكري عليهم السلام.

اذا جهد الائمة ومؤيدو الاطروحة في حماية مكتسبات دماء الحسين ( ع ) وال بيته ولو يتوانوا في التذكير بقيمة ذلك الدم من خلال الفكر والثورة والاحتفالات السنوية والدائمة بالذكرى، وسبب الحرص على بقائها – المكتسبات – انها لا يمكن تكرارها في التاريخ لخصوصيتها من جهة ولوقوعها ومؤثريتها من جهة اخرى.

فالاسلام عاد غريبا كما بدأ، والاطروحة التي تتقدم لازالة عصر الغربة ستدعم نصها وخصوصيتها وستكون اصالتها وعدمها مرتبطتين بمقدرتها على التصدي السليم لمشاكل الامة المستدجدة من جهة، وحفاظها على استقلالها في مواجهة القوى الغربية عن فكر وحضارة الامة. ولعل ضمانة الحفاظ على مكسب الاحياء للاطروحة في العصر الحاضر هو انه سيتحقق انجاز التمهيد والاعداد النفسي والروحي لدولة الارض العادلة.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com