العروبة :علام يخاصمونها؟؟

د. سّيار الجميل / مؤرخ عراقي

 " العروبة " مصطلح قديم لا علاقة له بموجات الفكر السياسي العربي الحديث حتى تصبح تهمة يحاسب المرء عليها من قبل كلّ من يقف ضدها، وتغدو سّبة يطلقها كل الخصوم على أصحابها، بل وغدا كل من يذكرها يستخفون به ويسمونه بـ " قومجي " و" عروبجي " متناسين قيمها التاريخية والحضارية! ولعل ابرز من أساء للعروبة هم ابناؤها من الساسة والقادة والزعماء القوميين بكل أصنافهم وممارساتهم، إذ جعلوها صنوا للفكر السياسي والإيديولوجية القومية.. مما أنتج نقمة شديدة ضدها وردود فعل عنيفة ازاءها من قبل كل القوميات والأقليات والملل والنحل الأخرى في محيطنا الإقليمي المعاصر.. كما وان بعض الغلاة قد قرنها بالإسلام، مما جعل كل المسيحيين العرب وأصحاب الديانات الأخرى يتساءلون عن هويتهم! ولعل أقسى ما تناله العروبة اليوم على أيدي الكثير من العراقيين ـ مثلا ـ، ليس لأنها كانت سببا في أذى العراقيين، بل لأن هناك انتماءات اخرى اولوياتها لا تسبق العروبة حسب، بل غدت تسبق حتى المواطنة العراقية نفسها! وتبرز مشكلة " العروبة " في العراق اليوم كونها كارثة وداء عضالا من دون أن يفكر أولئك العراقيون بأن " العروبة " هي براء من كل الممارسات ( القومية والحزبية ) التي استخدمت باسمها وخصوصا ضد الآخرين، بل ووصلت درجة الكراهية لـ " العروبة " حتى لدى العرب أنفسهم ولأسباب سياسية وطائفية من دون التوغل في معرفة مجتمعاتنا والقواسم المشتركة لها ليس لدى العرب وحدهم، بل لدى شعوب ومجتمعات الشرق الأوسط قاطبة.

 قبل عشرين سنة، سألني أحد الأصدقاء المثقفين اللبنانيين وكان يحسب نفسه على الماركسيين العرب : لماذا يمقت الماركسيون العراقيون القومية العربية على عكس بقية الماركسيين العرب ؟ قلت له : لا اعتقد ان السبب سياسي بقدر ما هو تاريخي، وهو سر الصراع الداخلي الذي آذى العراق في الماضي وسيقوده للدمار في المستقبل.. وصدق كلامي، فان ما يفكر به العراقيون اليوم ازاء العرب والعروبة ربما يختلف عما كان في القرن العشرين اختلافا جذريا! وربما كان العراقيون ولأسباب سياسية قد وجدوا في " العروبة " عاملا مدمّرا لهم، وان العرب لم يقفوا مع محنة العراقيين لا في الماضي ولا في الحاضر.. ولكن هذا لا يمنع أبناء العراق قاطبة بما فيهم غير العرب أن ينظروا إلى العروبة نظرة سليمة وعادلة، فثمة ضرورات ونزوعات خفية تشد من أزر مجتمعاتنا بوجه كل الطامعين الخارجيين الذين لهم مواقفهم التاريخية المضادة من العرب أصلا!!

 والعروبة، كما اثبت التاريخ، واحدة من ركائز الإقليم وثقافة المنطقة التي استفاد منها كل أبنائها، والعروبة لم تطرح نفسها بديلا عن الواقع الا بعد استخدام القوميون لها. لقد كانت قبل ولادة الفكر القومي في القرن العشرين مادة غير مستلبة، لها مقوماتها الاجتماعية الرائعة وهي محترمة لغة وثقافة وفنا وعادات وتقاليد، اذ لم تطرح أي مشروع شوفيني سياسي، بل كانت ولم تزل مبعثا لمشروعات حضارية وثقافية تنجذب إليها كل الأقوام نظرا لقيمتها ومساحتها في الانفتاح والتعايش.. ولم يستطع كائنا من كان ان يغّيب رموزها الحضارية، فكل شعوب المنطقة تستخدم الأسماء والألفاظ والتقاليد والفنون العربية ولم يحتكرها العرب وحدهم، فهي تدخل مكامن كل حياة المنطقة.. ان الخطايا التي ارتكبت باسمها قد سببت نفورا منها، وغدا الآخرون يعتبرونها سبب البلاء، يتكهربون لذكرها، ولكنهم ينتعشون لمن يناصبها العداء.. لقد اجمع اغلب المفكرين والمؤرخين والمستشرقين على انها كانت محررّة للإنسان من قبضة الآخرين، وغدت رحمة لسكان المنطقة وارتقت بمجتمعاتها بفعل مسالمتها وانفتاحها على كل العالم.

 بات الجيل الجديد لا يفكّر بقيمة الأهم على المهم.. ولا بقيمة وحجم وميراث كل مجتمع في الإقليم.. وان بعض القوميات والأقليات الأخرى قد ابتلي بالسايكبوثيين الذين كانوا نتاج عهود سياسية مارست القمع باسم " العروبة "، مما ولّد أحقادا دفينة من قبلهم ضدها وأصحابها.. ومن المؤسف ان ثمة عرب جهلاء يجدون فيها معوّلا هداما، باعتبارها سببا في سقوط الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية ( كذا )! وكان الغلاة من عرب وغير عرب قد قدّمها على بقية القيم والانتماءات الأخرى.. فمن المثير جدا ان يؤلف الأستاذ الراحل ساطع الحصري كتابا يسميه ( العروبة أولا )، بل ووصلت الشوفينية لدى أحزاب قومية عربية إلى اعتبار كل من ينطق بالعربية هو " عربي " متناسين الانتماءات الأخرى، وما تشكّله تلك السياسات من مشكلات وخصوصا في المجتمعات المختلطة. إن مشكلة العروبة تتجسد بشكل مفجع في العراق إلى جانب بقية مشكلاته الصعبة الأخرى، بل وأخشى أن تصبح " العروبة " مستقبلا مشكلة عصّية في مجتمعات أخرى بمنطقتنا، والعروبة براء من كل الخطايا.

 إن واقعنا بحاجة ماسة إلى الانفتاح، وان تفكيرنا بحاجة أساسية إلى إعادة فهم " العروبة " بما لها وما عليها، وان تخرج من سجونها الى رحاب الفكر الانساني.. وان ثقافتنا العربية بحاجة إلى مناهج نقدية وفكرية توّضح للعالم الأدوار المتنوعة التي ساهمت العروبة في بلورتها وبنفس الوقت كيفية الالتزام بقيمها كحصانة ضد التحديات.. وان " العروبة " مجموعة مبادئ وقيم وأعراف وليست شعارات وأداة مصالح ومنافع لهذا على حساب ذاك.. إنها قيمة حضارية رفيعة ثمينة في التعايش والانسجام والتوازن مع الاخرين وليست وسيلة جهالة وتخّلف وقهر وشوفينية وتعصب.. وعلى كل من يقف في الضد منها أن يراجع نفسه ليرى كم هو ثقلها التاريخي وقيمتها الحضارية، وماذا لو اقترنت ثقافتها بثقافات الاخرين ؟ ما حجم التغيرات التي ستصيب البنية الاجتماعية والثقافية ؟؟.. إن من ضرورات العرب اليوم، الخروج بمفاهيم جديدة لـ " العروبة " في قرن جديد وان يتصالحوا بمودة ورحمة مع أنفسهم وان يسالموا غيرهم بأساليب متطورة ويجابهوا كل التحديات. فهل ستنتقل العروبة / المفهوم والظاهرة والتطبيق إلى طور حضاري انساني جديد ؟ هذا ما ننتظره في قابل الايام والسنين..

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com