|
غاندي في ذكراه: يا لها من ذكرى عطرة! د. عبدالله المدني / باحث ومحاضر أكاديمي في الشئون الآسيوية العظماء شأن المهاتما غاندي تظل صورتهم محفورة في الوجدان وتظل ذكراهم عطرة متجددة لا تبهت بتقادم الزمان. والهند في احتفالاتها اليوم بذكرى هذا العظيم، لا تتذكر بالفخر والاجلال من استطاع أن يحول ضعف شعبه وقلة حيلته أمام جبروت المستعمر إلى قوة متدفقة فحسب، وإنما تتذكر أيضا القيم النبيلة التي جسدها بزهده وتقشفه وتواضعه وتسامحه وانفتاحه وصبره، والتي استطاع عبرها تعرية المستعمر وإحراجه أمام ضمائر العالم، إلى الدرجة التي وصف معها في أوروبا بصنو المسيح. تلك القيم والأساليب التي تستحق منا العودة إليها اليوم وتأملها، خاصة مع استشراء العنف والطيش في عالمنا بصورة غير مسبوقة. الكثيرون منا يقترن عندهم اسم غاندي بالمقاومة السلمية واللاعنفية فحسب، رغم أن سيرته مليئة بجوانب مضيئة أخرى كثيرة. بل إنهم حتى من هذه الزاوية بالغة الأهمية لعالم عربي لا تختلف أوضاعه الراهنة كثيرا عما كانت عليه أوضاع الهند في بدايات القرن المنصرم لجهة العجز والإحباط،، يجهلون ويتجاهلون الأسس الفلسفية لحركة غاندي وما تميزت به من خصائص فريدة .. ربما لأسباب ذات علاقة بدين صاحبها وفكره المتعارض مع الفكر الإيديولوجي الطاغي على مجتمعاتنا. كانت الهند في بدايات القرن العشرين، كما وصفها تلميذه وأول زعماء الهند المستقلة جواهر لال نهرو، مجتمعا بالغ اليأس والإحباط، وشعبا لا يملك قوت يومه، وبلدا يتحكم الأجنبي في مفاصله وثرواته. واستمر هذا الوضع طويلا إلى أن بزغ نجم غاندي العائد إلى وطنه من جنوب إفريقيا وهو مسلح بقراءات فلسفية متعمقة ومختلفة المصادر حول العمل الجماعي وكيفية الرد على استفزازات الخصم وعنفه في مجتمع لا طاقة له على تحمل ردود الأفعال العنيفة، معطوفة على تجربة عملية فريدة في مقاومة التمييز العنصري وحياة العبودية. ولئن بدأ غاندي مشواره في الهند بمحاولات إقناع المستعمر بالإصلاح واستثارة ما كان يطبقه في بلده من قيم العدالة والديمقراطية والحرية، فانه سرعان ما اكتشف أن الحوار والصبر لا فائدة منهما، لاسيما بعد مذبحة " جاليان والا باغ" التي حصد فيها المستعمر أرواح 1300 مواطن اعزل كانوا يحتفلون بعيد رأس السنة الهندوسية. كان بامكان الرجل وقتذاك أن يستغل موجة السخط المتولدة من تلك الحادثة في ارتداء لباس الزعيم الثوري ودعوة شعبه إلى حمل السلاح وسفك الدماء ومقابلة العنف بالعنف وفق مبدأ العين بالعين والسن بالسن، وأن يغرق وطنه بالتالي في حمام من الدماء ومسلسل من التدمير والفوضى يكون ضحاياه بالدرجة الأولى هم مواطنوه الفقراء، على اعتبار أن كفة الخصم كانت هي الراجحة. غير انه أبى أن ينساق وراء العواطف، مفضلا الاستسلام لقناعة مفادها أن العنف إن بدأ فلن يتوقف، وإن توقف في النهاية فسوف يخلف وراءه ثقافة مجتمعية عنيفة وجدارا منيعا من الأحقاد ونوازع الانتقام. وهكذا قام غاندي بتسويق فكرة " الساتياغراها" المعتمدة على التزاوج ما بين الحقيقة (ساتيا) والحب (اغراها)، كمرادفين للقوة. ومن هذه الفكرة استنبط مبدأ المقاومة اللاعنفية، باذرا بذلك البذرة الأولى لحركة شعبية جماهيرية سوف تتوسع وتتعدد وسائلها السلمية وينحني لها العالم احتراما. كان على غاندي قبل أن يطلب من مواطنيه التحرك أن يحررهم أولا من كل أشكال الخوف، سواء الخوف من أجهزة المستعمر القمعية والخوف على النفس ولقمة العيش والمصالح الذاتية. كما كان عليه أن يحرر طاقات نساء الهند من خوف التمرد على التقاليد البالية المقيدة لخروجهن إلى الحقول والمعامل والشارع. وقد نجح في ذلك عبر إشعار مواطنيه بان كرامتهم مداسة وحقوقهم مستباحة وثقافتهم مهانة، مكررا على مسامعهم " إن الإنجليز موجودون هنا ليس بسبب قوتهم، وإنما بسبب ضعفنا وخوفنا وتشتتنا". وما أن تحقق له ذلك حتى طالب شعبه بالانتقال إلى المرحلة التالية التي لم تكن سوى العصيان المدني ومقاطعة مؤسسات المحتل وشركاته وتنظيماته ومعاهده وبضائعه، والاعتماد بدلا من ذلك على الذات في كل شيء. وقتها شكك الكثيرون، بما فيهم بعض رفاقه، بجدوى هذا العمل الذي وصفه مؤسس باكستان محمد علي جناح بالطائش والصبياني. لكنهم سرعان ما غيروا موقفهم، ولاسيما بعد نجاحه في عام 1930 في قيادة مسيرة جماهيرية لأربعة وعشرين يوما إلى ساحل البحر في داندي (على بعد نحو 240 ميلا) من اجل التقاط الملح وتحدي القانون الذي كان قد سلب المواطن الهندي حق صنع الملح لنفسه من بحار وطنه. يمكن قول المزيد عن تجربة غاندي، إلا أننا سنكتفي فيما يلي باستعراض أهم معالمها، مع شيء من المقارنة مع طرق وأساليب حركات المقاومة العربية: - قامت تجربة غاندي في المقاومة على اللاعنف كما أسلفنا. وكان من رأيه انه " إذا كان المستعمر متوحشا، فلا يجب أن ننافسه في توحشه، ولنثبت للعالم أننا أصحاب حضارة وسلوكيات أرقى". وبذلك انتزع من الخصم ورقة الرد العنيف المبررة بالدفاع عن النفس، الأمر الذي حظي معه نضال الهنود بدعم واحترام كل القوى المحبة للسلام في بلد الخصم وغيره من بلدان الغرب. ولو أن غاندي في نضاله تمنطق بالسيوف ووزع الخناجر ودعا شعبه إلى الخطف والعمليات الانتحارية وجز أعناق العدو وعرضها على الملأ لما تجذرت صورته في الفكر الإنساني. - لم يكن غاندي يقصد ، حينما دعا مواطنيه إلى مقاطعة المستعمر، أن بمقدور الهنود إفقار الخصم وتحطيم اقتصاده، إنما كانت المقاطعة بالنسبة إليه عملا رمزيا لبعث الإرادة والعزيمة الضروريتين لصنع المعجزات. وهكذا مثلا دارت مغازل القطن اليدوية في كل مكان على امتداد الهند لتوفر البديل للمنتجات الاجنبية، ولتشكل أصواتها الهادرة بالتزامن "أجمل نشيد وأحلى نغمة من أنغام الحرية" على حد وصف نهرو. وكانت المحصلة أن شعر الهنود لأول مرة بسريان روح الكبرياء والعزة في نفوسهم على النحو الذي أراده غاندي. - آمن غاندي بان أية فكرة لكي تنجح جماهيريا، لا بد لها من اقترانها بالقدوة الحسنة. لذا فانه حينما دعا إلى المقاطعة بدأ بنفسه، فهجر ملابسه الأوروبية وتخلى عن عمله كمحام أمام محاكم الهند البريطانية واكتفى من الطعام بحليب ماعزه وما تجود به الأرض الهندية من حبوب ، ومن الكساء بما يدره مغزله من قماش قليل لستر العورة. وهو في هذا يختلف بطبيعة الحال عن دعاة المقاطعة عندنا ممن يطلبون من الناس الانصراف عن منتجات أمريكا والغرب ومؤسساتهما بينما هم أول من يبعث بأولاده إلى جامعاتهما، وأول من يحتفظ بأمواله في مصارفهما، وأول من يستمتع برفاهية منتجاتهما. - على العكس مما يفعله أصحاب "المقاومة" عندنا ، حرص غاندي على ألا تصطبغ مقاومته بصبغة طائفية وأثنية وجهوية، فلم يستثن أي مكون من مكونات الشعب الهندي من شرف الاشتراك فيها، ولم ينسب أي نجاح حققه لطائفته الهندوسية وحدها. إلى ذلك تجنب التعرض بالسخرية لعقيدة المستعمر والطعن في قيمه وحرق علمه ومهاجمة شعبه بلغة التعميم الظالمة تحت ضغط العواطف، فضمن بذلك تعاطف ومساندة الكثير من القوى والمنظمات البريطانية والغربية. - كان غاندي واقعيا يعرف قدر نفسه وتواضع قدرات شعبه مقارنة بإمكانيات الخصم، فلم يشأ توريطه في ما لا يقدر عليه مثل خوض الحرب الشعبية المسلحة، ولم يشأ أن يدغدغ عواطفه بالعنتريات والخطب البلاغية والشعارات البراقة والوعود الخيالية، على نحو ما يفعله بعض رموزنا الشعبية ممن يلجأون في غمرة حماسهم إلى قول أشياء مجافية للمنطق مثل " يا امة المليار مسلم، لو أن كل واحد فيكم بصق على إسرائيل بصقة واحدة بالتزامن لتشكل نهر جارف يزيلها من الوجود". - رغم دوره الكبير في تحرير الهند من المستعمر لم يعرف عن غاندي انه نصب نفسه زعيما لشعبه. فقد ظل حريصا على القول انه مجرد واحد من ملايين الهنود البسطاء، وانه لا يختلف عنهم ولا يريد لنفسه شيئا. إلى ذلك لم يسجل عليه انه خون معارضيه ووصمهم بالعمالة، وإنما احترم وجهات نظرهم واعترف لهم بحق الاختلاف معه، مرردا انه قد يكون مخطئا والآخرون على صواب. وهذا أيضا يختلف عما يجري عندنا من تنافس البعض في كل محفل وفضائية للبروز كزعيم لا شريك وصنو له في الوطنية والإخلاص والنزاهة، ولوصم خصومهم بكل ما هو بشع ومنفر. لقد أصاب شاعر الهند الأكبر طاغور حينما خاطب غاندي قائلا " إن كلامك بسيط يا سيدي، وليس بسيطا كلام أولئك الذين يتحدثون عنك". نعم كان غاندي بسيطا في كل شيء، لكنه أحدث زلزالا وفجر بركانا بتلك البساطة المنطوية على ضمير قلق يبحث عن الحق، وعلى إيمان عميق بالسلام كقوة ايجابية يمكنها إخراج الجنس البشري من الظلام إلى النور. وأصاب أنيشتاين حينما قال "أن الأجيال القادمة سوف تصدق بالكاد إن بشرا مثله مشى على اديم هذه الأرض". ومثلهما أصاب ذاك الزميل الذي كتب " إن العالم العربي بحاجة إلى شخصية من نوع غاندي ليقود الجماهير بأسلوب اللاعنف نحو تحقيق أعظم الانتصارات بدون طلقة واحدة"، مضيفا " لكن المشكلة انه لا يوجد غاندي ولا يشجع الوسط الراهن على ولادة أمثاله".
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |