عندما يزعل بيدر الدخن على العصفور: انسحاب نواب الائتلاف من جلسة البرلمان

د. حامد العطية

hsatiyyah@hotmail.com

 في ظل الاستقطاب السياسي والطائفي المخيم على الساحة العراقية تقلص المجال المتاح للرأي الموضوعي المتجرد، والمستمد من تحليل للمعلومات من دون التأثر بمواقف مسبقة، فالحق يجدر أن يقال ولو على النفس، فما بالك بمن تتفق معه على بعض الأمور، والتمثل بمبدأ المتعصبين والمتطرفين: أما أن تكون معي أو ضدي لا يترك أي مساحة للمواقف المتحركة مع الحق، والتي تدور معه أينما دار، ولنتذكر هنا تشكيك جمهرة من علماء المسلمين، بما فيهم بعض السنة، بحديث " النجوم الزاهرة"، الذي ينسب للرسول الأعظم، ويدعو المسلمين إلى الاقتداء بالصحابة لأنهم كالنجوم الزاهرة التي يتوجب على المسلمين الاستنارة بهديهم أيما وجهة توجهوا، وسبب رفض هذا الحديث تناقضه مع حقيقة احتمال وقوع غير المعصوم في الخطأ أو السهو، فلا يمكن أن يصدر عن الرسول العظيم أمر باتباع غير المعصوم بالمطلق، لذا يجب علينا نحن الشيعة القبول بأننا، وفي ما عدا الأمور العقائدية، نخطيء ونصيب، وإلا كيف نفسر التباين الواسع بين فتاوى فقهائنا، وما ينطبق على كبار المجتهدين في العلوم الدينية يسري بقوة أكبر على سواهم من القادة السياسيين والمسئولين الإداريين، لذا فالتعصب لقائد ديني أو سياسي أو مسئول إداري إتجاه فكري عقيم وسلوك متخلف، وهو أشبه بالعصبية القبلية أو الإثنية المرفوضة إسلامياً وحضارياً وعلمياً، فهل يرغب أحدنا في أن يكون شبيه ذلك التابع لمسيلمة الكذاب الذي عندما سأله أحدهم: لماذا اتبعتم مسيلمة وأنتم تعلمون بأنه كذاب؟ أجابه: إن كذاب اليمامة (بلاد مسيلمة) أفضل عندي من صادق مضر (أي الرسول الأعظم)، وهذا منتهى التعصب المفضي إلى الجهل المطبق.

 للاجماع، في الفقه أو السياسة وحتى الاقتصاد، فوائد واضحة للعيان، لو تحقق بفعل اقتناع الجميع واتفاق كلمتهم حول موقف موحد، ولكن في الواقع يكون الاجماع غالباً -إن لم يكن دائماً- مفروض سلطوياً، ولأن أكثرية الجماعة صامتون اعتبر أصحاب السلطة السكوت افتراضاً علامة الرضا والقبول، والسكوت في الحقيقة عادة ما يكون نابعاً من التخوف من اغضاب أصحاب أو أتباع السلطة، ولعل ذلك هو السبب الرئيس، إضافة إلى العامل المصلحي، وراء انضمام الملايين من العراقيين لحزب البعث البائد، الذي مارس ارهاب السلطة بأقبح صوره، وأساليب الإرهابيين في العراق، سواء من بقايا النظام السابق أوالسنة الطائفيين، متطابقة، وغايتها تخويف الأكثرية وقسرها على الانضمام لصفوفهم أو على الأقل الرضوخ لمشيئاتهم، وتصوروا حال المسلمين لو اجمعوا بفعل إرهاب الوهابية أو رشاوي آل سعود على فتوى الوهابي ابن باز بأن الأرض منبسطة لا كروية، لذا فلا مخرج لنا من دوامة الصراعات والإرهاب إلا بالاجماع على قاعدة استحالة الإجماع، التي لا استثناء عليها سوى العقائد والقيم الأساسية وفقاً للنصوص الواضحة التي لا تحتمل التأويل.

 لأن الاجماع الإرادي لا القسري شبه مستحيل لا بد من احتواء الثقافة السائدة قيم التعددية في الفكر والمواقف، وما تتطلبه من القبول بالاختلاف في الرأي وتجاور الأضداء، ولأن هذه القيم لم تتجذر بعد في المجتمع العراقي تبرز في المؤسسات الديمقراطية ممارسات متباينة مع قيم ومباديء الديمقراطية، وحتى لو لم نتفق حول جدوى النظام الديمقراطي فلا بد من الاتفاق على تقبل الاختلاف والتعددية ونبذ اللجوء للعنف في فض النزاعات العقائدية والفكرية، والمشكلة كامنة في رفض المجتمع السني، بمكوناته العقائدية والسياسية، لمبدأ التعددية، ومن منظورهم ليس أمام اتباع الأديان أو المذاهب الأخرى من خيارات سوى الدخول في مذهبهم أو التهميش والرضوخ، وتجدر الإشارة هنا إلى أن مذهب السنة هو مذهب معظم السلالات الحاكمة، وعلى مدى التاريخ الإسلامي، ويمكن اعتباره المذهب الرسمي لها، ومقابل توفيره الشرعية شبه المطلقة للحكام، بغض النظر عن شرعيتهم الفعلية وعدالتهم، أقره الحكام مذهباً رسمياً، ومنذ عهد الأمويين اعتبر السنة الحكم والسيطرة حقاً آلهياً خاصاً بهم وحدهم، وهي نزعة منحرفة يشتركون بها مع اليهود، المعتقدين بكونهم شعب الله المختار، ومع الحركة النازية التي سعت للسيطرة على البشر، ومع ملوك القرون الوسطي المتسلطين بدعوى حقهم الآلهي بالحكم، ونتيجة لذلك تسلط السنة حتى في البلاد التي يشكلون فيها أقلية مثل العراق سابقاً والبحرين حالياً، واخضعوا واستعمروا مناطق خاصة بالشيعة مثل هيرات في أفغانستان والاحساء والقطيف في المملكة السعودية الوهابية، ولا بد للباحث المتأني في الفكر الوهابي، الذي يجسد التطرف السني، الاستنتاج أن غايتهم القصوى اخضاع البشرية كلها لدينهم الوهابي، المنحرف بما يقارب المائة وثمانين درجة عن الدين الإسلامي القويم، وما تنظيم القاعدة وهلوسة السيطرة العالمية سوى مولود طبيعي للفكر الوهابي الرسمي في مملكة آل سعود، ويقف الاعتقاد السني التسلطي والاستعلائي في المجتمعات التي يشكل فيها السنة أغلبية واضحة أو أقلية حاكمة أو طامحة للحكم سداً منيعاً أمام ترسيخ نظام تعددي ديمقراطي فيها، ويرفض السنة في العراق وغيره من الدول العربية والإسلامية اشراك غيرهم من الأكثريات أو الأقليات في السلطة، ويفسر هذا لجوئهم إلى القتل الجماعي للشيعة في العراق في سبيل اسقاط المشروع الديمقراطي والتمهيد لعودتهم للسلطة، تحت أي غطاء أو ايديولوجية دينية أم علمانية، لأن المهم بالنسبة لهم أن يكون الحاكمون من السنة لا غير، ولسان حالهم كما بينه أحدهم للطاغية صدام عندما سأله عن أحواله: "مادام اليمين على اليسار (إشارة إلى التكتف في الصلاة لديهم) فنحن بخير"، ولعل هذا هو السبب الرئيس وراء استثناء المناطق الكردية من العمليات الإرهابية.

 من منطلق اعتقاد السنة بحقهم الآلهي بالسلطة والحكم رفضوا في البدء المشاركة مع الشيعة في العملية السياسية في العراق، بذريعة وقوع العراق تحت الاحتلال، ثم قبلوا بذلك على مضض ومن دون اقتناع أو اخلاص نية، وقد كتبت مراراً محذراً من هذه السياسة الخاطئة، التي فتحت أبواب الحكومة لعيون وأعوان الإرهابيين، الذين يبررون جرائم الإرهابيين ويحشدون لهم الدعم في النهار، ويتآمرون معهم ضد الشيعة والحكومة في الليل، ولقد كشف هؤلاء عن حقيقة نواياهم الخبيثة الواحد تلو الآخر، حتى لم يبق للائتلاف سياسي سني واحد تستطيع تسميته بالشريك النزيه في الحكومة.

 يتطلع أعداء الشيعة في العراق إلى تفرقهم وتشتت صفوفهم أما بفعل خلافات داخلية مثل تقاتل التيار الصدري مع فصائل شيعية أخرى أو التدخل الأمريكي لإعادة الحكم للسنة نتيجة مساعي حكومات دول سنية مثل السعودية أو خشية أمريكية من سقوط المنطقة برمتها تحت النفوذ الشيعي الإيراني المعادي لمصالحها، وبانتظار انجلاء الموقف يستمرون في شن عملياتهم الإرهابية وحملاتهم الإعلامية الملفقة لاقناع أخوانهم السنة في الدول الأخرى بأن ما يجري في العراق هو حرب أهلية، وبما إن السنة أقلية فهم مهددون بالتصفية الشاملة، وكان مصير المشاريع التوفيقية لقادة الشيعة وتنازلاتهم السخية إلى حد التفريط بحقوق ومصالح الشيعة التخريب من الأطراف السنية، كما قابل السنة الدعوات المخلصة لقادة الشيعة المذهبيين للتآخي بين الطائفتين بالتشكيك والفتاوى التكفيرية.

 في ظل هذه الأخطار المحدقة بالتجربة الديمقراطية الفتية في العراق تكشف وقائع جلسات البرلمان العراقي عن قصور في الأداء وضعف في الممارسات الديمقراطية، حتى أصبح البرلمان وممارسات البرلمانيين موضوعاً للتندر المرير بين العراقيين، وقد أثبت رئيس البرلمان جدارة عالية في التهريج، ولم يترك فرصة تمر دون اثبات جهله وحمقه، وفي كل مرة يفتح فاه نقول يا ليته صمت، وفي اختيار أعضاء البرلمان لهذا الرجل مخالفة لأمر العزيز الحكيم: لا تأتوا السفهاء أموالكم! فما بالك بتكليف سفيه بالمسئولية عن مصالح العراقيين أجمعين، وكل من صوت له يتحمل وزر أقواله وأفعاله الحمقاء، ولسنا هنا بصدد الاعتراض على حقه في ابداء رأيه، فهذا الحق مكفول له دستورياً، إضافة إلى تمتعه بالحصانة البرلمانية، ولكننا نعيب على السنة العرب الناخبين ايصاله إلى البرلمان، كما نعيب على أعضاء البرلمان من الشيعة والأكراد موافقتهم على تنصيبه رئيساً لهم، وتحضرني هنا مقالة كتبها أحد الصحافيين الأذكياء في جريدة التآخي الكردية عندما سمحت حكومة البعث البائدة بصدورها لفترة وجيزة، في أواخر الستينات أو أوائل السبعينات من القرن الماضي، وتعجب الكاتب في مقالته من منظر الجمال العظيمة التي تسير في قافلة وراء حمار، فانتبه البعثيون لتشبيه الكاتب لهم بالحمار فاوقفوا الجريدة عن الصدور أو سجنوا الصحافي، والأكثر جهلاً من الحمار هم الذين وضعوهم أمامهم.

 اكتملت المهزلة البرلمانية في الأسابيع الماضية بخروج اعضاء كتلة الائتلاف من جلسة البرلمان احتجاجاً على طلب المشهداني اجراء تحقيق في العملية الأمنية ضد جند السماء ودفاعه عن أحد أعضاء البرلمان من الطائفيين السنة، وقد سبق لي الدعوة للكشف عن ملابسات العملية الأمنية من قبل لجنة حقوقية مستقلة، درءً للشبهات، ومن جهة أخرى أشاطر أعضاء الائتلاف انزعاجهم من انحياز المشهداني لزميله الطائفي، لكننا نتوقع من هؤلاء البرلمانيين موقفاً أشد صلابة في حماية حقوق ناخبيهم، ولنا الحق في مسائلتهم عما فعلوه في الدفاع عن مئات الألاف من المدنيين القتلى والمهجرين، ففي ظل عضويتهم في البرلمان ازددادت عمليات القتل الجماعي للشيعة وتشرد أكثر من مليون منهم داخل وخارج العراق، فيما يقض الرعب من الإرهاب مضاجع الملايين المتبقية، التي ترزح تحت سطوة مسئولين مرتشين وفاسدين وظروف معيشية مريرة بفعل الغلاء ونقص الخدمات، وقد أبدى هؤلاء البرلمانيون استهانة بمصالح ناخبيهم تجلت في أقبح صورها بالغياب المتواصل لأعداد غير قليلة منهم بذرائع واهية وحجهم الجماعي غير المبرور حتماً، وكشفوا عن جهلهم المطبق بالممارسات البرلمانية بانسحابهم من جلسة البرلمان، وكان الأجدر بهم الدعوة للتصويت على قرار بتوبيخ أو لوم المشهداني motion of censure أو حتى بعدم الثقة به واستبداله، فهل من المعقول أن "تزعل" بيادر العطاء الشيعي على عصفور طفيلي مثل المشهداني؟ في الأيام الخوالي كان أهلنا في الوسط والجنوب ينصبون الشباك لمنع أي عصفور من السطو على " المحلات" التي تجمع فيها محاصيلهم، والعصفور الذي يجرأ على الدنو منها مصيره الذبح والالتهام من قبل أولادهم، وأعجب لهذا الزمان الذي تسلطت فيه العصافير والزرازير على أرض وسماء العراق فهزموا الرجال ونهبوا بيادرهم.

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com