|
أنا وزوجتي والشهداء يوسف ابو الفوز / سماوة القطب
وصلتني رسالة ـ ايميل من احد القراء ضمت وجهات نظر واسئلة يتناول فيها الحلقات السابقة من سلسلة نصوص "اوراق عائلية " ، وفيها يظن الاخ كاتب الرسالة اني اكتب شيئا من مذكراتي أو يومياتي ، وعليه وجدت انه لابد لي من الاشارة والتنبيه ، وبأحترام ، الى كل من يقرأ على طريقة الاخ صاحب الرسالة ـ الايميل ، بأنه في هذه السلسلة من النصوص ، التي تحاول وتجتهد ان ترسم لها منحى نقديا ساخرا ، الى ضرورة الانتباه الى كون أنا ليس "أنا" وزوجتي ليست "زوجتي" ، وان التشابه في الاسماء ان حصل في سياق الاحداث فهو ليس اكثر من محض صدفة ! باستمرار نتأخر انا وزوجتي عند نيتنا مغادرة البيت الى اي مكان ، فلابد لاحدنا ان يكون سببا لتأخير الاخر. وقصص تأخرنا صارت نوادر وحكايا على لسان عواطف ، التي لم تترك احدا من معارفنا ولم ترو له ذلك ، لحد اثارت زوجتي التي احتدت يوما : ـ حولتينا الى فرجة ! وردت عواطف بلسانها السليط : ـ اضبطي لسان زوجك اولا . واعرف ان عواطف بردها اللاذع تقصد ـ وتحديدا ـ هذه السلسلة من النصوص. ما هدأ من خاطري من نتئج سلبية لاستفزاز عواطف هو ان زوجتي تدرك كوني اعرف الخطوط الحمراء في علاقتنا الزوجية ، والتي لن اسمح لنفسي بتجاوزها ، وهكذا فقضية تأخرنا المستمر وما يرافقها لم تكن من أسرار البنتاغون ولا تفاصيل صرف المخصصات المالية للرئاسات في الحكومة العراقية ما بعد سقوط نظام صدام حسين . وخصوصا اننا ـ انا وزوجتي ـ كثيرا ما كنا نضحك من انفسنا ، لاننا مهما فعلنا وحاولنا ، لم نستطع ان نتخلص من سطوة هذا الذي يعكر مزاجنا بين الحين والاخر ، وصرنا نسميه "فايروس المناكدة ". حين اكون متهما بالتأخير تنفعل زوجتي : ـ انت رجل ضعيف امام الهاتف . واصمت ولا اقو على ردها بشئ ، لاني ـ بصراحة ومثل اي رجل عراقي ـ ابدو كذلك حقا . ولكن ماذا افعل ، حين يصلك هاتف من احد افراد عائلتك من "داخل" الوطن ، وانت على وشك المغادرة لتلبية دعوة صديق ؟ اتقول لمن هاتفك من العراق : ـ ساهاتفك فيما بعد ، الجماعة بأنتظاري ويقولون اسرع الدولمة سوف تبرد ؟ بدون اي سبب وحجة فأن " اهل الخارج " صوفتهم حمراء عند " اهل الداخل " ، فكيف اذا ...؟ وماذا يحصل لو ان هناك حقا امرا طارئا ، وان " بطة " اختارت لها صيدا من افراد العائلة ، فقط لكون اسمه لا يلائم هوى ركاب "البطة" ؟ كل هذا لم يكن ليقنع زوجتي بأعذاري لتواصل مناكدتي مستغلة سكوتي وهي تظنه ضعفا في حجتي لردها : ـ افهم الاحراج حين تصلك المكالمة من اخرين ، ولكن حين لا تحضرك فكرة اجراء مكالماتك الطويلة ، الا عند استعدادنا للخروج ، هذه تعال فسرها لي بحق روح الشهداء عندك . واذ تحدثني زوجتي بهذه الطريقة أشعر انها رفعت مستوى المناكدة ، وزودت عيار الفايروس ، فهذا قسم تعرف زوجتي جيدا ، وقبل غيرها ، بأني احترمه واجله ، فليس عندي اجل من الشهداء نبلا ليحضوا باحترام ذكرهم . الشهداء عندي نضير الملائكة في سمو مثلهم . هؤلاء بشر بذلوا حياتهم ـ وهي اقصى ما يملكون ـ بدون تردد من اجل مبادئهم ومن اجل الاخرين . ورغم كوني لست ميالا للقسم عند الحديث ، الا انه عندما يتطلب الامر ، ليس من قسم عندي اجل واقدس من القسم بروح الشهداء . اما زوجتي ، التي تجيد مناكدتي واحراجي احيانا ، فعندها دائما اسباب جاهزة تعمل على تأخير خروجنا وتنشيط عمل " فايروس المناكدة" ، فهي ومثل كثير من النساء ، لابد ان تضع عشرات اللمسات على مظهرها قبل المغادرة ، ورغم كوني اعرف واقدر بأن هذا من حقها، ولكن اذ اراها تبالغ احيانا بذلك ، لا اجد نفسي الا غاضبا ومحتجا بصوت عال : ـ يا بنت الناس ، ستجعلينا نصل متاخرين ، من سيخلصني من لسان خليل ؟ صديقتنا عواطف ،التي تجعلني احيانا على حافة الغيرة لكثرة ما اجد ان زوجتي تلتقيها وتصرف من الوقت معها ، تفخر دائما بدقة زوجها خليل وتناكد زوجتي بذلك : ـ خليل مضبوط مثل عقارب الساعة . ضاقت زوجتي بصاحبتها مرة ، والجمتها : ـ الحمد الله يا عواطف عقارب الساعة وليس عقارب اخرى . وها نحن ـ انا وزوجتي ـ نتهيأ للقاء خليل وزوجته عواطف ، واحاول جاهدا تجنب التأخير والا سيلدغني خليل ، وببراعة ، مثل كل مرة بمقولاته التي صدعت لي دماغي : ـ احترام الموعد ركن اساسي من شخصية الانسان ! ـ ... ! ـ انت رجل شرقي نمطي ، لديك عداء وراثي مع احترام الوقت والمواعيد ! وهكذا علينا ـ انا وزوجتي ـ مقاومة " فايروس المناكدة " بأي شكل كان ، والخلاص منه ومغادرة البيت باسرع ما يمكن ، لنكون في الموعد المحدد والمكان المحدد ، والا فأني ولفترة طويلة لن اخلص من لسان خليل الذي سيفلسفها ويجعلني اشعر وكأن بمجرد تأخري عشر دقائق عن الموعد معه فأن كل شئ اهتز في هذا الكون ، وان ذلك السبب الاساس للتدخل الفاضح لدول الجوار في الشان العراقي . من اسبوعين وخليل يطن في رأسي لمرافقته الى حفل يقيمه الشيوعيين بمناسبة يوم خاص بهم ، الا وهو" يوم الشهيد الشيوعي " . قلت له متمنيا ان يفهمني : ـ يا خليل انا اكره الزحمة وكثرة الناس ، واحب الهدوء ، وجماعتك يستغلون كل مناسبة حزن او مناسبة فرح ليوجعوا رؤوسنا باسطواناتهم القديمة . نظر لي خليل شذرا ، مستغربا من كلامي ، ونظراته تقول لي بأن شيوعي هذا اليوم هم غير شيوعي الامس ، وان " التطور اللارأسمالي " و " ديكتاتورية البروليتاريا " اشياء صارت على الرفوف . وقدرت ان لم اجد حجة ما فان خليل سيفتح لي حالا ملف " الديمقراطية داخل الحزب"، وسيشرح لي كل وثائق المؤتمر الخامس للحزب الشيوعي العراقي ، الذي يفخر به الشيوعيين العراقيين ويسمونه " مؤتمر الديمقراطية والتجديد ". وشعرت بأني ورغم كل مهاراتي وحيلي ، لن انجح في الافلات من خليل ، بل وتورطت في عدم ايجاد عذر مقبول للتملص من الذهاب الى الحفل . ولم يتركني خليل الا بعد ان انتزع مني وعدا بالموافقة لحضور الحفل بل وجلب زوجتي معي ، وهذا جعلني اصرخ به : ـ هذا وانت رجل مستقل مثلي ، وتراك متحمسا جدا لنشاطات الشيوعيين ، فكيف لو كنت شيوعيا منتظما معهم ؟ وفزع خليل من كلامي ، وصاح : ـ انت تقول هذا ؟ انت الذي لا تقسم الا بروح الشهداء ؟ ثم يا عزيزي انتم لكم حصة في ذلك ! يعرف خليل كيف يمسكني من اليد التي توجعني، ويجعلني اشعر بالاحراج امامه وامام زوجتي والاخرين. لم يكتف بذلك بل قدم لي محاضرة طويلة عريضة ، عن نضالات الحزب الشيوعي العراقي، وانا صامت،لاني ـ وحق رب العالمين ـ اعرف كل ما يقوله لي ، وليس لذلك من علاقة بكون والد زوجتي من شهداء الحزب الشيوعي العراقي. ابدا ! احيانا يجعلني خليل بالحاحه اشعر وكأنه يجهل اني ابن العراق، ابن الحارات الفقيرة، وتربينا على سماع قصص الشيوعيين ونضالاتهم وبطولاتهم وتضحياتهم، واننا محسوبين عليهم لاننا نؤمن مثلهم بحياة حرة سعيدة ومستقبل افضل للناس، ونكره خلط الدين بالسياسة، ونكره اي شكل للديكتاتورية ، أو كأنه يجهل ان الشيوعيين وابنائهم اصدقائي وجيراني ورفاق محنة منفى.والى جانب كل ذلك ينسى خليل انه في نهاية كل شهر يرمقني فوزي بتلك النظرة الحارقة،فيجعلني بسرعة اتحسس محفظتي واسلمه التبرعات الشهرية او ثمن مجلة "الثقافة الجديدة"،التي صارت تطل علينا مثل هلال العيد. اعيش وزوجتي في ضاحية العاصمة . لا احتاج سوى الى حوالي نصف ساعة لاكون في مركز العاصمة . وهناك في مقهى جانبي ، ليس بعيدا عن محطة القطار الرئيسة ، وبين الحين والاخر، نلتقي انا وخليل باستمرار مع مجموعة من المعارف والاصدقاء ، وفوزي باستمرار ينضم الينا لانه هو من عرفنا بمكان المقهى وجعلنا من رواده. حتى زوجتي صارت تعرف المقهى ، ولطالما جلسنا هناك ، فهو مقهى هادئ ، زبانئه هادئين، ميزنا بينهم مجموعة من الكتاب والصحفيين، ولا يحوي على مكائن العاب اليانصيب او طاولة قمار، فلا تجد فيه كثير من السكارى . قبل اسبوعين ، ومثلما اقترح فوزي توجهنا لنلتقي في "مقهى المثقفين " ، كما صارت زوجتي تنعت المقهى غامزة ايانا ، خصوصا حين وصلت يوما فجأة وكبستنا ووجدت المقهى يعج بالفاتنات الساحرات. لا اعرف يومها كيف بدأ الحديث ، وراح خليل وبجرأته التي طالما حسدته عليها ، يطرح وجهة نظر تستحق التوقف عندها باهتمام ، وكان يدافع عنها بحرارة : ـ انا لا افهم كيف يمكن لاحزاب عارضت نظام صدام حسين وادانت حروبه العدوانية ضد الجيران ، تسمي ضحايا هذه الحروب بكلمة الشهداء ؟ فلو صح انهم شهداء ، يعني ان هذه الحروب كانت عادلة ولم يخطأ صدام في شنها ، ولم يكن صدام مجرما وعدوانيا ، والا لماذا عارضناه وتظاهرنا وادنا الحرب ومشعليها ؟ واشتعل النقاش حول مفهوم "الشهيد " ودلالاته الدينية والاجتماعية والسياسية ، وتبين ان لكل حزب سياسي في العراق فهم خاص ، ويوم خاص لشهداءه . ومن بين كل الحاضرين في المقهى يومها بزنا ابو منتهى بالحديث والمعلومات ، بحيث انتبهت الى ان خليل ، هذا الذي تسميه زوجتي " ابو لسان " ، كان لا شئ امام كم المعلومات الذي تدفق من جليسنا ابو منتهى . وتبادلت مع فوزي نظرات ذات معنى ، فأمام ابو منتهى وغزارة معلوماته ، واسلوبه في الحديث ، حتى فوزي ، السياسي المحترف ، كان يضطر للسكوت على مضض . ورغم معرفتي الطويلة لابي منتهى ، الا اننا في علاقتنا لم نرتق الى مستوى الصداقة ، ورغم كل امكانيات خليل ، ومساندة فوزي ، الا اننا معا لم نستطع معرفة الاتجاه السياسي الحقيقي لابي منتهى . فهو ديمقراطي مع الديمقراطيين ، وشيوعي مع الشيوعيين ، واسلامي مع الاسلاميين وقومي مع القوميين . واخيرا وجدنا الحل لهذه المعضلة حين ابتكر خليل نظريته "الفضائية ". نظرية خليل الفضائية ببساطة تصنف الناس حسب القنوات التلفزيونية الفضائية التي يشاهدونها وليس حسب الاحزاب والافكار، وهو يعتقد ان هذا خير علاج لمشكلة الطائفية في العراق ، فما دام الناس لا يزالون غير مؤهلين للتعامل مع بعضهم البعض على اساس الافكار والاتجاه السياسي ، فالافضل اعتماد القنوات التلفزيونية الفضائية معيارا لتقسيمهم وهذا سينقذ مؤسسات الدولة العراقية من مرض المحاصصة وما يتبعه ، وربما يمكن وقف مسلسل العنف والموت. وحسب نظرية خليل فذاك يمكن تسميته " فيحاوي "لانه يتابع فضائية تلفزيون الفيحاء ، وذاك "شرقاوي" لانه يتابع فضائية تلفزيون الشرقية ، وذاك "جزيراوي " لانه يتابع فضائية تلفزيون الجزيرة ، وهكذا ، وبما ان ابو منتهى لا يمكن معرفة لون سياسي محدد له ، فقد اختار له خليل لقب "الستالايت" لانك تجده يتابع كل القنوات الفضائية بدون اهمال ، وهو الى جانب ذلك منجم معلومات وقدرة على المتابعة والرصد لا يضاهى ، فلا يوجد موضوع ليس لابي منتهى وجهة نظر فيه ، ما ان تتحدث عن شخص ما ، ويرد اسمه ، حتى يصرخ بك : ـ اعرفه . اعرفه جيدا . ويفاجئك بسيل من المعلومات العجيبة والغريبة ، لا تدري من اين يحصل عليها تجعلك تصدق بانه يعرف المقصود ، وتوافق خليل وبدون تردد حول صواب اختياره لقب " الستلايت " يناسبه تماما . وحين تحدثنا عن الشهداء ذلك اليوم في المقهى ، لم يكتف ابو منتهى في حديثه بالاستشهاد بالايات القرانية ، واقوال الرسول محمد ، بل عرج على اقوال ماركس وفهد ، وتلا شيئا من شعر الجواهري ، وثم عرج على اسماء بعض الشهداء التي وردت في حديثنا ، فتحدث عنهم بتفاصيل ربما لا يعرفها اهل الشهيد ذاته ، مثلما فوجئت بكونه يعرف والد زوجتي ، والتقاه كذا مرة ، وروى شيئا عن لقاءه به ، واختلطت عندي الامور، ولم يخرجني من غيبوبة الحيرة التي رماني فيها ابو منتهى غير همس خليل : ـ صاحبنا الستلايت ينتحل قصص الاخرين وينسبها لنفسه ، اقسم لك بدوري وبدماء الشهداء بانه لم ير والد زوجتك سوى في الصورة . بعد نهاية ذلك اليوم ، التفت خليل فجأة الى فوزي وهمس له : ـ ما دمتم صرتم حزبا اكثر ديمقراطية ، لماذا لا تكسبون ابو منتهى الى صفوف تنظيم حزبكم ، سيكون بالنسبة لكم ثروة لا تعوض ؟ ولم يرد فوزي بشئ ، كانت عيناه تقولان شيئا اخر ، لم يود التصريح به ، واعتقدت اني فهمته لذلك سكت بدوري . من النقاط التي تناولها حديثنا في "مقهى المثقفين " ذلك اليوم ، هو هذه الفوضى في حال العراقيين بعد سقوط الديكتاتورية البغيضة ، بحيث وصلت المتاجرة السياسية ، وعلى مستويات عليا في الدولة ورجالات السياسة ، الى دم الشهداء . ومثلما برزت مصطلحات " طائفتنا " و"طائفتهم "، ومصطلحات "حزبنا" و"حزبهم " ، برزت مصطلحات مثل "شهدائنا" و"شهدائهم". كان فوزي متألما ، لكون قادة احزاب ورجال سياسة يعربون عن عزمهم بناء عراق جديد ، ويخلصوه من تركة الديكتاتورية ، وجدهم الناس عامدين ، ومن اجل منافع ضيقة ، ولطمس مساهمة الشيوعيين العراقيين النضالية ، يستعيرون اساليب نظام صدام حسين ، ويتجاهلون ذكر اسماء شهداء الحزب الشيوعي في خطب ومناسبات كانت تتطلب ، ومن باب المسؤولية والامانة التاريخية واللياقة السياسية ، ان يقولوا كلمة عن ذلك . وفاجأنا ابو منتهى بشكل اذهل فوزي الذي بدى غير مطلعا على ما سمع : ـ علمت ان الاستاذ حميد مجيد موسى عاتب السيد جلال الطالباني مباشرة ، ووعد الرجل بتصحيح الموقف باسرع وقت ممكن! وزمجر خليل : ـ عتاب ؟ وهل دماء الشهداء مادة للتفاوض والمعاتبة ؟ فقال فوزي بصوت عميق وكأنه يرد على جمع سياسي يستمع اليه في ندوة ، وليس مجموعة افراد جاء بعضهم عشوائيا الى المقهى ، وبعضهم التقى على فنان شاي لتتبادل الهموم : ـ وهل تريدنا يا خليل ان نقتحم مكاتب الاخرين ليصدروا بيانات بتحية شهدائنا ؟ شهدائنا هم شهداء الشعب ، وهم ليسوا بحاجة لفلان او علان ليزكي مواقفهم وبطولاتهم ، وحين استرخصوا حياتهم من اجل قضية الشعب لم يفكروا بأن يحصلوا من اية جهة على شهادة او تحية ، وتذكر ان مبادئ وضمير المناضل هي دليله الحي الى العمل الجاد والتضحية والاستشهاد . وكاد الجو ان يتوتر، وحاولت ان اخفف من حدة الحديث، وعامدا وجهت سؤالا بعيدا عن الموضوع لابي منتهى لاتركه ينطلق في شروحاته المستفيضة بحيث لم يعط مجال لاحد ان يتحدث بموضوع اخر ، وبهذا استطعت امتصاص روح التوتر التي كادت ان تعكر لقاءنا . في البيت حكيت لزوجتي عن ما دار في المقهى . لم اعرج على كل التفاصيل ، لكني رويت لها باعجاب كبير حديث ابو منتهى وتقديره للشهداء ، ومعلوماته، وحكيت لها امرالدعوة التي وجهت لنا للمساهمة في يوم الشهيد الشيوعي ، وعن تطوع ابو منتهى للمساهمة في اعداد لوحة استعراضية لافتتاح الحفل ، حيث سمعته يشرح الفكرة لفوزي ، الذي وعده بان ينقل الاقتراح الى رفاقه ليحصل على موافقتهم. وشرحت لزوجتي كيف ان خليل خلال الجلسة كان يحرك عيونه بشكل مائل ، متوتر ، وهو يراقب ابو منتهى وهو يشرح بحماس خطة الفكرة : ـ القاعة تكون مظلمة نسبيا ، ليس من ضوء على المسرح سوى ضوء الشموع . في صدر القاعة تكون هناك بعض الطاولات . القاعة تزين بصور الشهداء . موسيقى حزينة خافتة، ويدخل بهدوء وبطء ومن جانبي القاعة اطفال بقمصان حمر يحملون صواني شموع ومزينة بالورد واغصان الياس . ويمكن لكم يا اخ فوزي تدريب الاطفال على واحدة من اغانيكم عن الشهداء ، وماشاء الله، اغانيكم كثيرة وحلوة . يتحرك الاطفال الى مقدمة خشبة المسرح بين صفوف الجمهور بأتجاه الطاولات في صدر القاعة ويشكلون قوسا واحدا ، ويواصلون الغناء . يمكن لبعض الاطفال ان يرفعوا رايات حزبكم وشعاراته. تصف الصواني مع بعض عند الطاولات، وما ان تنتهي الاغنية حتى يقف كل الحفل لحظات صمت، وبعدها تشتعل الاضوية ، وتتواصل فقرات الحفل . لم يكن ابو منتهى عاملا في مسرح، او غيره، لكنه رجل حيوي ومتعدد الافكار، وعملي جدا، ومستعدا لتنفيذ افكاره بنفسه، وكنت ارى كيف ان فوزي وجماعته لايستطيعون ايقاف زج الرجل لنفسه في امور لم يدعوه لها ، وذلك لقدراته الفريدة. زوجتي كانت دائما في موقف مشكك وكاره لابي منتهى ، وكانت عواطف توافقها على كل كلامها بدون تردد . سالت زوجتي يوما، وانا اقصد عواطف ايضا : ـ هل تعرفين الرجل سابقا ؟ هل قام بالتجاوزعليك او عائلتك بشئ ، حتى تكرهينه بهذا الشكل ؟ ولم يخف على عواطف مقصدي ، فصاحت من مكانها بغضب : ـ وهل تريد الانتظار ان يتجاوز علينا مباشرة حتى يكون لك موقف منه ؟ واحترت في مناقشة زوجتي ومعها عواطف تدعمها باستمرار. لم ار يوما من ابي منتهى ما يضرني مباشرة. ربما لا يعجبني طريقته واسلوبه في الحديث، ربما لا اتفق معه في مواقف وافكار معينة، لكن ان ارفضه بدون سبب، كان شيئا مزعجا بالنسبة لي. وكنت احاول اقناع خليل بوجهات نظري، عله يساعدني ، لكن خليل عمص عينه، مد رقبته وقال : ـ انت تفاجأني مرات في اخفاقك في معرفة حقائق مكشوفة . لن اضيف حرفا لما تقوله زوجتك او زوجتي ، كل ما اتمناه ان تكتشف الرجل بنفسك . واقترب يوم الشهيد الشيوعي ! زوجتي ابنة شهيد من شهداء الحزب الشيوعي العراقي. كل مرة ، مع اقتراب ذكرى يوم استشهاد والدها ، لنا في بيتنا طقوسنا الخاصة التي ولدت وتطورت تلقائيا، ونكررها في يوم الشهيد الشيوعي احتراما للشهداء جميعا. في كل مرة ، ومن الصباح في زاوية من صالون البيت، على طاولة خاصة نضع صورة الوالد الشهيد، ونضع عندها باقة من الورد وشيئا من الزينة ، ونصف امام ذلك مجموعة من الشموع ، التي نشعلها عادة مساءا، وتكون هناك اغنية لفيروز، لأن الوالد الشهيد يعشق صوتها ، واخترت بنفسي اغنية يحزنني سماعها كل مرة ، وانا اشعر بأنها اغنية كتبت خصيصا للشهداء : ـ " وحدن بيبقوا مثل زهر البيلسان " . يوم ذكرى استشهاد الوالد ، ويوم الشهيد الشيوعي ، ننظف البيت ونرتبه ، وتغالي زوجتي في الترتيب، ومن ذلك انها تعطر وتزين الصالة بحيث تكون كحديقة ورد. وصرنا تلقائيا نقوم بالعديد من الافعال البسيطة، التي تولد لوحدها مترعة بالمحبة والاخلاص وتبدو للاخرين ربما غريبة ، لكنها كانت تجعل الدموع تطفر من عيني عواطف. مجمل الافعال التي نقوم بها ـ انا وزوجتي ـ تشير الى انتظار شخص ثالث يشاركنا يومنا. فمثلا ذلك اليوم نحرص ان يكون هناك كرسي فارغ نغطيه بوشاح خاص، يكون اشارة لمكان الشهيد. وعند توزيع الصحون تضع زوجتي صحنا اضافيا وملاعق. وحين اوزع بنفسي المياه للشرب احرص على صب ماءا في كؤوس خاصة ونتركها دون ان نمسها. هكذا نستقدم الشهيد بافعال لا تحصى ليكون ضيفنا ذلك اليوم . ها نحن في يوم الشهيد الشيوعي ! ولان سيارتنا عاطلة عن العمل من ايام، وسحبها خليل بسيارته، الى ورشة احد معارفه لتصليحها، كان علينا اللحاق بالقطار لنصل المحطة الاساسية، وهناك سنلتقي خليل وعواطف لنذهب بواسطة المترو الى مكان الحفل. ونحن نتهيأ للخروج، كاد " فايروس المناكدة" ان يفلت ويفعل فعله هذه المرة ، حين رن الهاتف فجاة وانا اهم بوضع حذاء الخروج في قدمي. كان ابو منتهى على الخط : ـ سمعت بأنك حصلت على كتاب مذكرات ماركيز ، هل يمكن لي استعارته منك ؟ وبدأ ابو منتهى يطرطش كلاما عن كتب ماركيز وانا غير قادر على اسكاته، و... ومدت زوجتي رأسها قريبا من سماعة الهاتف لتقول لي من بين اسنانها وليسمعها ابو منتهى بوضوح : ـ فاتنا القطار الاول ، لنسرع يا حبيبي ، سيفوتنا القطار الثاني . وبالكاد تخلصت من ابي منتهى، لكن" فايروس المناكدة" كاد ان يدفع بعيني زوجتي لتغادرا محجريهما ، وهي تراني اعود لانبش في البيت وابحث عن مفاتيحي التي لا اعرف اين تركتها ، وابحث عن اشياء اخرى كان يفترض بي تجهيزها قبل هذا الوقت. ومع كل ذلك لم ننس ـ انا وزوجتي ـ ان نمسح ونلمع صورة الشهيد،ونصف الشموع في مكانها. وزعت بنفسي كؤوس الماء ممتلئة عند طاولة الطعام . ضمخت زوجتي الشقة بالمزيد من العطر. وضعنا شريط فيروز ليكون جاهزا في جهاز التسجيل. وقمنا معا بكل اللمسات الطيبة لاستقبال الشهداء ذاك اليوم . حالما نزلنا من القطار عثرنا على عواطف وخليل في طرف بناية المحطة. كانت معهم شابة عراقية نعرفها جيدا ، طالبة في الجامعة ، وتعمل في مطعم عند المساء. اعرف انها ابنة شهيد، فاستغربت مع نفسي حين فهمت عدم نيتها المشاركة في الحفل. سألتها زوجتي مجاملة : ـ كيف احوال اخواتك وكيف اخوك ؟ هزت رأسها بشئ من الاضطراب والانزعاج . كان هناك ثمة شئ غير عادي في الجو. قدرت ان حوارا شائكا ما بدأ بين الشابة وعواطف أو خليل قبل ان نصل انا وزوجتي . تصورت ان البنت سمعت شيئا اغضبها من لسان عواطف السليط ، لكن خليل فك لنا طلاسم الموقف : ـ انها تلومنا لاننا سنشارك في حفل تقول ان ابو منتهى يساهم في تننظيمه ! واسرعت للتدخل لقول الحق : ـ لكنه ليس حفل ابو منتهى يا ابنتي . فقالت الشابة بوضوح : ـ اعرف ذلك يا ياعم ، لكن بالنسبة لي لن احضر حفلا يغيب عنه اصحابه . ـ كيف ؟ سألنا انا وزوجتي معا وبصوت واحد ، فردت الشابة بحرقة قلب : ـ قبل ان تصلوا ، كنت احدث العم خليل عن هذا. قبل عدة سنين وصلنا البلاد في ظروف صعبة، الان كما تعرفون احوالنا جيدة جدا، وصارت افضل، اخي يعمل، واختي الكبيرة تزوجت وانجبت طفلة جميلة، واختي الثانية انهت دراستها وحصلت على عمل جيد، وانا كما تعرفون اواصل دراستي واعمل. الحمد لله اننا لا نحتاج احد. ولكن مرت بنا ايام صعبة، كنا فيها نحتاج لكل مساعدة، وانت تعرف يا عم انه في هذه البلاد لا يحتاج احد مساعدة مالية من احد، فالقوانين تضمن لك حياة الكفاف حتى وان كنت بدون عمل. لكننا كنا وحدنا، لا نعرف كثير من الناس. كنا نجهل الكثير. كنا نحتاج لمن يطرق بابنا. كنا نتمنى ان يرن الهاتف علينا فقط ليسأل احد عنا ويقول لنا كلمة : كيف حالكم ؟ او يقول لنا ... كنت اشعر بما في قلب ابنة الشهيد من الم ، وارى لمعة خيط دمع في عينيها الجميلتين تحاول اخفاءه بكبرياء : ـ لم يكلف بعض من رفاق والدنا انفسهم للسؤال عنا، ومن سأل عنا مرة، لم نر وجهه الا مرات نادرة ، يتحدثون عن مجد الشهداء وعن تأريخ الشهداء ، وينسون ان خيرما يقدم للشهداء هو الاهتمام بعوائل الشهداء كرد اعتبار لدماء الشهداء . واجد خليل صامتا ، لا يرد ، يقلب عينيه بين زوجته وزوجتي والشابة التي لم تتوقف عن الكلام : ـ وابو منتهى ، هذا بالذات ، الذي يدعي انه يعرف والدنا ، ويقص عنه القصص ، ولا اعرف كيف ولماذا صار من منظمي احتفالات يوم الشهيد، وليس من عتب لنا عليه فنحن ما هي حقيقته، ولكن لتكونوا فقط في الصورة من ذلك ، تصوروا كان حضرته لفترة يقيم على الطرف الثاني من محطة القطار حيث نقيم انا واخوتي، ولم يكن يكلفه الامر لزيارتنا اكثر من عبور الشارع والتمشي عشر دقائق. كنا نقول ايامها له الحق ربما كان يخشى غيرة زوجته مثلا او شيئا اخر نجهلة ، لكن كان بامكانه استخدام الهاتف بغيابها ؟! ياعم الله يطول عمرك ، ابو منتهى او غيره ، اين كانوا عنا في ايام كنا نحتاجهم نحن بنات الشهيد ؟ وتريدون مني الان الذهاب الى حفل ينفخ ابو منتهى فيه نفسه كالطاووس على حساب دماء ابي ؟ وانكسرت في داخلي رغبة الذهاب الى اي مكان. وقرأت امرا مماثلا في عيون زوجتي، فأسرعت ودعوتهم والشابة معنا الى مقهى المثقفين. لم يفاجأني قبول الجميع للدعوة. مع نفسي كنت اشعر بشئ من الخجل ، رغم كوني لست من منظمي الحفل، لكن ارتباطي الروحي بالشهداء وبمنظمي الحفل، والوجع في نبرات كلام ابنة الشهيد ، جعلني اشعر بشئ من المسؤولية، ولم ارغب بترك ابنة الشهيد وفي قلبها حسرة ما من احد. بذلت جهدي وساعدتني زوجتي وخليل ، وحتى عواطف لتفهم ابنة الشهيد بان الشهداء ليسوا ملكا لاحد، وسواء كانوا شهداء هذا الحزب او ذاك فهم شهداء الشعب والوطن، وان سلوك شخص او عدة اشخاص لا يمكن ان يعمم على الجميع، والحياة فيها الكثير ما هو طيب وجميل، وان ابو منتهى وامثاله ، وهم كثيرون ، هؤلاء الذين يجيدون الردح في كل عزاء وتكون نبرة اصواتهم عادة اعلى من اصوات غيرهم ، هؤلاء وبغض النظرعن القناة الفضائية التي يتابعون برامجها فأن البقاء في النهاية ليس لهم، ان البقاء للاصلح فقط ! اقنعنا ابنة الشهيد بالذهاب معنا الى الحفل، وحين وصلنا المكان ، كان كل شئ انتهى. كان الناس يغادرون. لم نر ابو منتهى بين المغادرين، وقررت ان لا اعطيه كتاب ماركيز بأي حال رغم اني جلبته معي . قلت لزوجتي : ـ سيقرأ الكتاب ليبيعنا بعد ذلك ما اشتراه منا . سألت عن ابي منتهى ، فقال فوزي لنا بصراحة : ـ هناك اعتراضات كثيرة وصلتنا على زج ابو منتهى في تنظيم الفعالية في المرات السابقة ، فأبلغناه بعدم حاجتنا له ، وخفف عنا كثيرا بعدم حضوره . وعاتبنا فوزي على تاخرنا، وحين حكينا له السبب بصراحة، فتح ذراعيه على سعتهما وضم ابنة الشهيد اليه، وقبل جبينها، وهمس بأذنها بكلمات لم نسمعها تماما ، لكننا رأيناه يسلمها رسالة تحية موجهة من منظمة الحزب لعموم عوائل الشهداء. كان فوزي مستغربا لمزاجنا الرائق ، خصوصا مزاجي ، انا الذي كنت في مثل هذا اليوم اكون عادة جهما وجادا . حين عدنا وبلغنا بيتنا تلك الليلة، ورغم كوني كنت متاكدا اني بنفسي فتحت نوافذ المطبخ لتهوية البيت بغايبنا ، وجدت النوافذ مغلقة بأحكام . سألت زوجتي بقلق : ـ هل انت فعلت هذا ؟ لم يكن" فايروس المناكدة" من يحرك اسئلتي. كان شيئا اخر يجعل القلب يهبط، والروح تضطرب. لم ترد زوجتي على اي كلمة من اسئلتي، جثت على ركبيتها كانها تصلي امام صورة والدها الشهيد . ـ كان هنا . اقسم انه كان هنا بغيابنا ! وشدهت تماما . كانت الشموع تطلق ضوءها الخافت في شقتنا الصغيرة، وتجعل باقة الورد تبدو اكثر نضارة. تذكرت جيدا اني كنت اخر من غادرالبيت. وانا من فتح نافذة المطبخ، وانا من اغلق الباب الخارجي. من اشعل الشموع اذن؟ لاداري قلقي مددت يدي لاشرب كأسا من الماء ، كانت الكؤوس فارغة. كان صوت فيروز ، من لا مكان ، يتهادى مثل غيمة في سماء القلب : ـ " وحدهن بيقطفو وراق الزمان بيسكرو الغابي بيضلهن متل الشتي يدقوا على بوابي يا زمان يا عشب داشر فوق هالحيطان ضويت ورد الليل ع كتابي ... "
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |