أوروبا : عجوز متصابية في حفل ماجن!!

د. سّيار الجميل / مؤرخ عراقي

 نعم ، هكذا يصف الامريكيون أوروبا اليوم ! ويشعر الفرنسيون بأنهم ضرورة هذا اليوم لتحفيز بقية الاوربيين من اجل فعاليات التقدم ـ كما يسمونها ـ ، وكانت فرنسا ولم تزل تخشى من ملامح خطر يمكن ان يحدث ليؤدي الى انشقاقات اوربية ، لن تستفيد منها الا الولايات المتحدة . وعليه ، فان الصوت الفرنسي يمارس دوما مهمة التحذير والنصح من اجل مصالح فرنسية فقط ! والسؤال : عن اي ارادة اوربية يتكلمون ؟ ولابد ان يقتنع كل الاوربيين بأن بناء اوروبا لا يمكن ان يأتي من الخارج كي لا يبدو اصطناعيا ، بل لابد ان ينبثق من الداخل الاوروبي حتى يمثل نوعا من الاصالة والتي يعتبرها الامريكيون نوعا من تصابي امرأة عجوز تلطخ وجهها بالمساحيق في عالم لم يعد نجد فيه الا تدافع جيل جديد من الشباب الصاخب في حفل راقص !! نعم ، يؤكد الفرنسيون بالذات من وجوب عودة اوروبا الى مسارها الحقيقي لتأخذ مكانتها في العالم لأنها " صاحبة الضمير الدولي " ، مما يتيح لها ان تخوض اعظم المغامرات في مستقبل هذا القرن والقرن التالي ..

 انهم مؤمنون بأن عليهم رسالة تاريخية جديدة تتناسب وضرورات الامم الاخرى التي لم تزل تنتظر من اوربا اشياء كثيرة : قوانين وطموحات وحلول مشكلات ومشروعات تقدّم.. ويعتقد الفرنسيون بأن الضرورة تقتضي ان يشاركهم كل من الالمان والانكليز والدانماركيين والطليان .. اذ ان مشكلات العالم البيئية ومجالات حفظ السلام وتحقيق العدالة وحقوق الانسان والامن والهجرة والقضاء على المجاعات وتحقيق الحريات واطفاء الديون واسكات الحروب والغاء عقوبة الاعدام واعلاء شأن الانسان .. كلها مستلزمات لا يمكن حلها أبدا من دون الاوربيين ..

 ويعتقد العديد من زعماء ومفكري اوروبا اليوم بأن لا مجال كي تفقد اوروبا الطموح والارادة الخلاقة والروح العالية فذلك كله سر عبقريتها وقد ابتعدت عن الروح الاستعمارية المقيتة .. ولا يمكن السكوت والصمت على ما يجري في العالم ، ولا يمكن ايضا البقاء في اطار الاستياء .. يقولون : ان اوروبا الحديثة هي التي علمت العالم بعد ان تعلمت منذ قرنين كيف تقوم على الفلسفة المثالية والديالكتيك والتفكير البعيد والمناهج الامبريقية وشكوك ديكارت .. ويستطردون بأن الخلاص لا يمكنه ان يأتي الا على ايدينا ومن خلال مبادئنا ومصداقيتنا واساليبنا .. ويختتمون افكارهم اليوم بانتقاد ادبيات امريكية تنتقص من هذه العجوز المتصابية التي لم يعد بمقدورها ان تفرض افكارها التقليدية على العالم .. وخصوصا في ظل مرحلة العولمة !

 نحن من طرفنا كآسيويين وافارقة ، لا تظهر لنا اي دعوات او مشاريع ازاء هذا الصراع ، بل ثمة تصريحات او بيانات لا تفي بالحاجة ابدا .. وينبغي القول ان كلا من الطرفين الامريكي والاوربي لا يريد حتى الان اشراك غيره في صناعة العالم او في الصراع عليه .. ان الطرفين يهمشان كل العالم باستثناء التعامل على مستوى اقتصاد العالم وشركات عابرة القارات والعمالة الرخيصة.. وتعجيل التبادلات وتعديل ميزان القوى .. ويتخوف القادة الاوربيون من القوى الجديدة المعجبة بالعولمة الامريكية وكل اساليبها ومتغيراتها ، وهم ما زالوا يطالبون بالدفاع عن وظائفهم ونمو انشطتهم . نعم ، انهم يشعرون بأن تلك " العولمة" ستخضعهم من خلال سعي القوى الجديدة لتحسين كفاءتها في التقنيات والمنتجات الهائلة وبالاسعار المنخفضة ، ان اوروبا العجوز تستميت في حماية نماذجها الاقتصادية وتطالب بالتجديد والبحث عن مصادر حيوية تؤهلها لذلك .. وهي لم تزل تتغنى باغنياتها القديمة على اعتاب حانة خشبية تعود الى العصور الوسطى .. في حين ان العالم كله يرقص على موسيقى صاخبة تنبعث من فوهات الزمن الالي الاسرع من الضوء !

 الاوربيون يواجهون لحظات تاريخية مهمة وهم يعتقدون بأن العالم اليوم ليس كما يصوره الامريكيون كونه احادي القطب ، ولكن بنفس الوقت هو ليس متعدد الاقطاب كما يرون .. انهم يعتقدون بعدم امتلاكهم الوسائل الحقيقية لتأسيس سيطرة عالمية حقيقية ، يجعل من العمل الدولي قاعدة اساسية لخدمة السلام والعدالة وتطوير تفكير العالم .. وانهم واثقون ان الولايات المتحدة الامريكية لا يمكنها ابدا ان تؤدي الدور لوحدها ، ولا تستطيع البتة ان تضمن الحكم العالمي وتغدو كنترول العالم وتجربتها في العراق واضحة تمام الوضوح .. يقولون انها تجربة فضحت الرؤية الامريكية التي بشرّت بها في النظام العالمي الجديد منذ العام 1992 !

 ان المشهد اليوم والذي يقدّم رؤية عصّية لا يمكن للاوربيين ان يقفوا مكتوفي الايدي وهم يراقبون سيناريوهاته .. ضمن مجالات الخطر وخصوصا في العراق الذي يشهد تفككا داخليا مريعا ، فاذا كانت امريكا قد افتقدت كنترولها على العراق وحده ، فهل ما زالت تعتقد بأن سيطرتها باقية او موهومة ؟؟ ان الفرنسيين ـ مثلا ـ ينصحون بتقديم الارشادات من اجل تحسين الاحوال .. ويريدون فتح ابواب الادراك بوضع تاريخ محدد لانسحاب القوات الاجنبية من العراق .. وان يسود العالم مبدأ احترام الهوية والسيادة وترسيخ المصالحة الوطنية ، اذ باتت تلك المصالحة العراقية سببا في استتباب العالم او استمرار اشتعاله نظرا لقيمة العراق في الصراع الدولي والاقليمي معا .. وعليه ، لابد من حوارات اقليمية ومؤتمر دولي من اجل العراق .. ولابد من اعادة حركة الاشياء في قطار مسرع جدا وهو بحاجة الى قضبان قوية .. ولكن اوروبا تريد ان تقبض الثمن ايضا ، ليس بسبب خبرتها كعجوز في التاريخ ، بل لحاجتها للبترول والتسويق والدورات الاقتصادية في سوق نخاسة هذا العالم . السؤال الاهم : هل يمكننا كمنظومة عربية واقليمية معرفة اسرار اللعبة ، وكيفية اختراق لعبة الكبار بذكاء وحذاقة ونحن على ركائز مشتركة ؟ انني اشك في ذلك!

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com