مرثية إلى روح النصير البطل علي عودة علي / أبو ميلاد

محسن الجيلاوي

Mohsen_Khashan@hotmail.com

لا أعتقد أن هناك نصير لا يعرف أبو ميلاد...فهو اسم وحضور وشخصية متدفقة تجذب بلا افتعال وبلا تخطيط الناس والحياة إليها....كان بسيطا وحرا وطليقا كالعراق وكالناس الذين يمثلهم والمنتمي اليهم بحب وبقوة، شخص ممتلئ بالثقافة وبالانتماء للفقراء سلوكا وفعلا واكتنازا...هو أحد شبيبتنا المبدعين، طارد الوحشة عن ليالينا الصعبة، زارع البهجة وواهب الفرح الحقيقي بلا حدود..ذلك هو دوما صديقنا ورفيقنا الباسل( علي عودة علي / أبو ميلاد )..غادرنا هذا الجميل في زمن هو أكثر احتياجا منا إليه، فهو فارس الأيام الصعبة، الهازئ بها ومشعل الأمل والمجبول على التفگ وشموخها وهی فی قبضة الثوار.. كان قدا لزمن صعب يتطلب الرجولة والتحدي ونكران الذات...لن ولم يجعلني موته المفاجئ أن أتحدث عن خصال ليست فيه ( مجاملة ) أو تلك متطلبات هكذا مواقف..بل بالعكس فقد صنع وجوده وحضوره الطاغي بلا تكلف، وأغنى ليالينا الجميلة القاسية بتألق يحسد عليه...نعم بنى مجده على مساحة واسعة من حياة ولحظات وأيام المئات من المناضلين بهدوء وبنار شفيفة من روحه وجسده النحيل وحبه للحياة ولروح الرفقة التي ينتمي إليها...كان لها فتى قادما من هناك، من عمق الإنسان العراقي الكادح، هو ابن شوارعنا الشعبية بكل حكاياتها وفنونها وأمالها وطموحاتها..كان ينتزع الفرح انتزاعا من عتمة الظلمة والانكسارات الكثيرة، يوزعه علينا بكرامة وبسخاء وببداهة المحب..كان يحمل العراق على راحتيه مزهوا بقصائد السياب التي حفظها عن ظهر قلب ولمن عرفه عن قرب يتفق معي بأنه أفضل قارئ عراقي (وممسرح) لقصائد السياب..كان قامة صالحة فيها بهاء شجعان الهور وهو الأتي منهم والمغرم بأغانيهم الشعبية وقصائد النواب التي تحييهم..هو ابن التدفق والعنفوان والشجاعة النادرة التي لا ترحم الظلم والقهر والتسلط والخبث ...هو الباحث بجد عن الحقيقة وسط تكلس الفكر وخداع الناس عند الخطر...هو من صفوة فهد وسلام عادل وخضر كاكيل وأبو تغريد وأبو كريم وأبو سحر وسليم هيركي وأبو ندى وعلي منصور وأبو فيروز وعميدة عذيبي وأبو محمد...هو من كبار العراق بكل المقاسات..لقد التقيت أبو ميلاد قبل رحيله بسنة وجدته لازال يحلم باقتحام الربايا، والمعارك المشتعلة بالحق دفاعا عن الناس والحرية، يحن لجبال سفين وهندرين وحصاروست، لدشت اربيل، لقرى كويسنجق، للشين الأزرق، لبارزان، لخواكورك، لدراوا..يحلم بمدينة ( الثورة ) العصية على الطغاة وعلى المستحيل, كان يحن بحسرة وبأسى لنبع ماء بارد، لراحة محارب تحت ظل شجرة جوز عملاقة..يحن لنار مشتعلة على قمة جبل شامخة ومنها يرنو بعيدا لأقاصي عراق مفتوح على كل المأسي عسى أن يحتضنه بروحه وقلبه وعقله...وجدته كمن يقول ماذا عساي أن أفعل، لقد خدعتنا السياسة وكواليسها...؟ حسدته على هذا الإصرار العجيب، الا يكفي ( يا أبو ميلاد ) ما قمت به ؟ كان غاضبا وقلقا ومتمردا وهو الخارج من تجربة طعمها كالحنظل تداخلت فيها عقلية القتل الجماعي ( الأنفال ) وضعف العقلية البديلة..أقول لقد حاصرته كل الظروف بشروطها القاهرة...لقد حاول أن يهرب..ولكن هل أستطاع وهو صاحب قلب كان يبدد المستحيل ويقهر الظروف ويلتحف الأمل....؟ فلا الدماء التي نزفها ولا الأسر ولا المنفى والفقر والغربة وكل المصاعب استطاعت أن تقهر تلك الضحكة المدوية والغناء النبيل وإيماء الجسد المعبر..كان حافظا ومؤديا للاغاني الكردية ومرات كثيرة قاد دبكات الناس الكرد ليشعلها بالفرح...انه ( الجنوبي- العربي ) العجيب...هو بلا جدال من صفوة الأبطال الشعبيين من الأنصار ذوي التفاصيل الصغيرة المشبعة غنى وحيوية وحياة ومواقف مشهودة مثل الشهداء أبو كريم وأبو سحر وعادل ليبرالي وأبو تغريد...بعد رحيل هؤلاء أصبحت دنيانا دنيا الأنصار بلا طعم ولا ملح ومعها نهارات وأيام هذا الوطن أكثر قتامة ووحشة..!

لقد ضاق بالحياة فهو أكبر منها..ضاق بحياة ضاع فيها الأمل بالتغيير..كان أكثرنا مبكرا في معرفة الحقيقة الصعبة التي قادنا إليها كل سفلة العالم لكي يكون عراقنا الجميل هكذا حزينا ومقتولا ببشاعة...أراد يودعنا قبل أن يرى ما هو أبشع قائما وممتدا على كامل حياتنا وأحلامنا وتلك التطلعات التي نذر رفاقه حياتهم فداءا لها..فما كان من قلبه الكبير والمرهف إلا أن يصمت احتجاجا.ومهما كانت ظروف وطريقة موته غريبة لن تكون أقل غرائبية من شكل الموت والانتحار الجماعي لشعب كامل...!

تصعلك في النهاية على حياة رديئة حاول أن يقاومها يوما لكنها اغتالته..هو موت عبثي لكن فيه طقوس الذين يعيشون حياة غنية وفريدة وممتلئة...!

لقد انطفأ مبكرا نجم من نجومنا ( الكردستانيين )..!

لقد هزني أيها الحبيب موتك المفاجئ..ومهما تقادم الزمن على هذا الرحيل المفجع ستبقى أنت جديرا أن تتقدم مسيرتنا وتكبر بيننا..تتقدمنا في أيامنا القاسية حيث محنة شعبنا ووطنا وأهلنا...!

وداعا أبو ميلاد، والى لقاء في عراق ننشده معا كما أردت وحلمت هو الأجدر بتراب أرحم وبسماء أسطع رغم انف القتلة وزارعي الموت ومحطمي إرادة الإنسان بحياة يكون فيها المشترك الإنساني هو الخالد والجدير بالبقاء...!

وداعا...!

أعرف انك حزين لتناسي البعض لك ولكن أنت أكبر من ذلك..نحن أصدقائك كيف ننساك ونحن نرى فيك شيء فيه الكثير من ملح ووجه تراب الوطن، أنت ساهمت في صنع تاريخنا وليالينا وذكرياتنا ولن يستطيع أحد مهما كان جاحدا أن يستقطع اسمك المحفور بقوة في كل ثنايا تلك الدروب المدهشة التي مررنا بها..؟

وداعا..سنبقى نتذكرك بروح الرفقة ووفاءا لتلك المحطات التي أفضت بها علينا من روحك الجميلة الطاهرة النقية..!

 * أبو ميلاد ( علي عودة علي ) نصير ومقاتل شجاع عرفته جبال كوردستان مناضلا جسورا ضد الدكتاتورية..كان مشعا بكل ما هو إنساني ونبيل وطيب ..توفي في موسكو عام 1993 بحادثة مأساوية لن يكون بعيدا عنها شكل الاستهزاء بالحياة بعد أن أصبحت ضيقة ورتيبة تلك هي دوما إرادة الناس الذين يتركون حضورا في الحياة والفعل والأثر...!

 

* المادة كتبتها بعد رحيله مباشرة وأعيد نشرها مع بعض التعديلات لمناسبة الذكرى السنوية لرحيله المحزن....!

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com