|
أخطاءٌ نحوية / قانونية في صياغة قانون غسيل الأموال العراقي
المحامي عبدالكريم يحيى الزيباري معظم الدول العربية الحريصة على إلصاق صفة الديمقراطية بحكوماتها، تشرع قوانينا تنظم مكافحة تداول الأموال القذرة، لكن هذه القوانين صدرت وبقيت في رفوف المحاكم غير قابلة للتطبيق، وهي من ذر الرماد في الوجوه والرقص في الظلام وأشبه بإصدار قانون ينظم علاقة المؤجر بالمستأجر في كوكب القمر، وبما أنَّ الدول العربية لم تصل القمر بعد، انتفت الحاجة إلى هكذا قانون!!! فلماذا نصدر قوانيناً لا نطبقها، ولا تلقى قوانينا أرضاً صالحة لنثبتها فيها؟ هل نصدر القوانين كنوع من التهافت على صرعات المودة والموديلات؟ وكيف نصدر قانوناً بلسانٍ عربيٍّ/ أعجميٍّ غير مبين، لدولةٍ عربية؟ من سينفذ هذا التشريع؟ ما هي الآليات الكفيلة بنجاح تنفيذه؟ ما هي الجهات التي تمت استشارتها قبل إصدار هذا التشريع؟ أليس استخدام كلمات غير دقيقة ولا متجانسة سيؤدي إلى الارتباك في تأويل نص التشريع مما يهدر الفائدة المَرجوة منه؟ هل جرى التأكيد على قسم التحديدات، تحديد الجريمة ووصفها، وتحديد العقوبة بكلمات وصياغة ضابطة لا لَبسَ فيها؟ هل تمَّ اختيار كل كلمة في التشريع بانتباه وتأنٍّ كبيرين أم جرى الاختيار اعتباطاً وبسرعة؟ يقول تعالى(فاسألوا أهل الذكر * إن كنتم لا تعلمون )آية النحل(43)والأنبياء(7). أليس في وادي الرافدين عالماً لغوياً باللغة العربية يراجع إرادة المشرع الأعجمي؟ هذا وأنا لم أقرأ إلا جزءاً من مادة واحدة، من قانون غسيل الأموال العراقي للعام 2004، فرأيته مشوباً ببعض الأخطاء اللغوية التي أثرت على دلالاته ومعانيه، فنصت بداية المادة 3 منه على: (كل من يدير أو يحاول أن يدير تعامل مالي يوظف عائدات بطريقة ما لنشاط غير قانوني عارفاً بأنَّ المال المستخدم هو عائدات بطريقة ما لنشاط غير قانوني أو كل من ينقل أو يرسل أو يحيل وسيلة نقدية أو مبالغ تمثل عائدات بطريقة ما لنشاط غير قانوني عارفاً بأنَّ هذه الوسيلة النقدية أو المال يمثل عائدات بطريقة ما لنشاط غير قانوني: أ- مع نية المساعدة على تنفيذ نشاط غير قانوني أو الاستفادة من نشاط غير قانوني أو لحماية الذين يديرون النشاط الغير قانوني من الملاحقة القضائية. ب- العلم بأن التعامل مفتعل كلاًّ أو جزءاً لغرض: 1. التستر أو إخفاء طبيعة أو مكان أو مصدر أو ملكية أو السيطرة على عائدات النشاط الغير قانوني أو: 2. لتفادي تعامل أو لزوم إخبار آخر. يعاقب بغرامة لا تزيد عن 40 مليون دينار عراقي أو ضعف قيمة المال المستعمل في التعامل، أيهما أكثر أو السجن لمدة لا تزيد على أربع سنوات، أو كلاهما). ولدينا من الاعتراضات على الأخطاء الواردة في النص: 1) (كل من يدير أو يحاول أن يدير) ما هو ضابط التمييز بين من يدير وبين من يحاول أن يدير؟ هنا ساوى بين الفعل الإجرامي والشروع فيه، وهو ما يتنافى مع قوانين العدالة، فكيف نعاقب من نجح في ارتكاب فعله الإجرامي والأضرار التي سببها بفعله، مع الذي فشل في ارتكاب الجريمة ولم يقع ضرر جسيم، أو حاول فقط، كمَنْ يشتري مسدساً ليقتل، فيلقى عليه القبض وهو يحاول شراء المسدس فيحكم عليه بالإعدام لمحاولته القتل، كأننا سنحاسب الناس على نواياهم، والنية أمرٌ كامن في النفس تكشفه الوقائع، والمبدأ هو (لا يعتد بالنوايا في القانون)ولكن هذا الخَلَط هو من باب الشبهة التي تنفي التهمة عن المتهم، لأنَّ القاعدة القانونية تقول(يفسر الشك لصالح المتهم) باستخدامه حرف العطف أو والذي يدل على أنَّ المشرع أنَّ توافر الفعل أو المحاولة كافياً لانطباق المادة وتكييف الفعل الإجرامي وفقاً لها بالإضافة إلى أنَّ حرف العطف أو يجوز استخدامه للتشكيك، ولو استخدم حرف العطف واو، لدلَّ على إرادة المشرع أن تتوافر الشروط كافة لتنطبق المادة ويكيف الفعل وفقاً لها، (فحروف العطف(الواو-الفاء-ثم-حتى) تقتضي المشاركة في اللفظ والمعنى بشكل مطلق، وحرفي العطف(أو-أم) فيقتضيان المشاركة في اللفظ دون المعنى)[1] كما جاء في أُلفية ابن مالك: خَيِّرْ أَبِحْ قَسِّمْ بأَوْ وَأَبْهِمِ *** وٱشْكُكْ وإضرابُ بِهَا أيضاً نُمِيْ 2) عبارة (يدير تعامل مالي يوظف عائدات)يدير فاعل، الفاعل ضمير مستتر تقدير هو، تعامل مفعول به منصوب، وكذلك يوظف فعل فاعله مؤخر، وتقدير الجملة ( يوظف التعامل المالي عائداتٍ)ورغم أنَّ عائدات منصوب محلاًّ، مجرور لفظاً، على أنَّ عائدات مفعول به. 3) ولاحظت أن (أل) التعريف أدخلت على (غير) في عبارة(النشاط الغير قانوني)وهذا غير جائز في العربية لأن (غير) أداة نفي أو استثناء، حيث استخدمها المشرع(العربي/الأعجمي) كدال على النفي، عبارة الغير قانوني، يقصد بها غير القانوني، والـ لا قانوني، (وأداة الاستثناء غير لا تعرف بأل التعريف إلا إذا جاءت منفردة غير مُضافة، كقولك(أعوذ بالله من الغير، ومن قبح السير)[2]، وذكرت كلمة غير في القرآن مرات عديدة، ولم تعرف مرةً واحدة، ولا في أشعار الأولين والآخرين، في حال إضافتها، يعرف المضاف إليها، كأنَّ المشرع العربي/ أعجمي لم يسمع بقوانين الأمم المتحدة /منظمة الأغذية والزراعة(فاو)في مؤتمرها في 3/12/2003-روما الخاص حيث جاء في البيان الختامي، والمنشور على موقعهم(www.fao.org) دعت منظمة الأغذية والزراعة "فاو" في تقريرٍ عرض على ممثلي الدول الأعضاء لديها إلى تكثيف الجهود الرامية لمنع الصيد غير القانوني دون إبلاغ ودون تنظيم وردعه والقضاء عليه)، فما قالت المنظمة الصيد الغير قانوني، لعلمهم بعدم جواز دخول أل التعريف على لفظة غير الدالة على النفي أو الاستثناء ما دامت غير منفردة، لكنَّ قواتهم دخلت إلى حيث لم يجوز لها قانون ولا عرفٌ بالدخول. 4) والكارثة الكبرى تكرار عدم تمييز الفاعل من المفعول، وأنَّ الفعل يديرون، من الأفعال الخمسة يُرفع بثبوت النون ويجزم وينصب بحذفها، نحو قوله تعالى(فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) والفاعل ضمير مستتر تقديره هم، والنشاط مفعول به، فكانَ الصحيح أن تأتي العبارة هكذا( يديرون نشاطاً غير قانونياً من الملاحقة القضائية)لأنَّ نشاطا مفعول به، وغير قانونيا، نعت للمفعول به. 5) وصياغة المادة كلها جاءت ركيكة، وضعيفة، لا يرضاها طالب علمٍ مبتدأ فكيف بعالم يشرع القوانين، فمثلاً في عبارة(عارفاً بأنَّ المال المستخدم هو عائدات بطريقة ما لنشاط غير قانوني) كان يكفي لهذه العبارة أن يقول( عالماً بلا شرعية المال الذي في حوزته)لأنَّ الاستخدام شيء، والحيازة شيء آخر، ولكل منهما دلالاته القانونية الخاصة، فقد يكون المال بحوزته غير مستخدمٍ، وهو بهذا يستطيع أن يدفع بإعادة تكييف المادة القانونية لعدم انطباقها في فعل الاستخدام، وهكذا نرى التكرار والإطناب والإسهاب، وعدم دلالة الألفاظ على مقاصد المشرع. 6) استخدم المشرع لفظة عارفاً في عبارة(عارفاً بأنَّ المال المستخدم هو عائدات بطريقة ما لنشاط غير قانوني) ولم يسبق للمشرع العراقي ولا العربي أنْ استخدام عارفاً بدلا من عالماً، والبون شاسع، والفرق كبير، فالعلم فهم الحقائق، والمعرفة إدراك الحقائق، والعِلْمُ: نقيضُ الجهل، أما المَعْرِفةُ والعِِرْفانً: إِدْراكُ الشيءِ بتَفَكُّرٍ وتَدَبُّرٍ لأَثَرِهِ، فهي أَخصُّ من العلم، ويُضَادُّه الإِنكارُ، ويُقال: فلانٌ يعرِفُ الله ورسوله، ولا يُقال: يعلم الله متَعَدِّياً إلى مفعولٍ واحد لما كان مَعرِفَةُ البَشرِ للهِ تعالى هو تَدبُّرُ آثارِه دُونَ إِدْراكِ ذاتِه، ويُقالُ: اللهُ يَعْلَمُ كذا، ولا يُقال: يَعْرِفُ كذا، لما كانت المَعْرِفة تُسْتَعْمَلُ في العِلمِ القاصر المُتَوَصَّلِ إليه بتَفَكُّرِ، وأَصْلُه من عَرَفْتُهُ، أَي: أَصَبْتُ عَرْفه: أَي رائِحَته، أَو من أَصَبْتُ عَرْفَه أَي خَدِّهُ فهو عارِفٌ، وعَريفٌ وعرَّافة يَعْرِفُ الأُمورَ، ونجد كثيرا من الأدعياء لا يفرقون بين العلم والمعرفة فيطلقون أحدهما على الآخر. في التعاريف للمناوي بتحقيق الداية /511: العرفان كالمعرفة إدراك الشيء بتفكر وتدبر فهو أخص من العلم ويقال فلان يعرف الله ولا يقال يعلم الله لما كانت المعرفة تستعمل في العلم القاصر المتوصل إليه بتفكر ويضاد المعرفة الإنكار ويُضاد العلم، الجهل والعارف المختص بمعرفة الله ومعرفة ملكوته وحسن معاملته تعالى، وقال أبو حيان التوحيدي في المقابسات: في المقابسة السبعون: وسألته عن الفرق بين المعرفة والعلم؟ فقال: المعرفة أخص بالمحسوسات والمعاني الجزئية: والعلم أخص بالمعقولات والمعاني الكلية. وقال ابن عربي الطائي الأندلسي الصوفي في باب 441 من الفتوحات المكية: اعلم أن الله قد فرق بين العارفين العلماء بما وصفهم به وميز بعضهم عن بعض فالعلم صفته والمعرفة ليست صفته فالعالم إلهي والعارف رباني من حيث الاصطلاح وإن كان العلم والمعرفة والفقه كله بمعنى واحد لكن يعقل بينهما تميز في الدلالة كما تميزوا في اللفظ فيقال في الحق أنه عالم ولا يقال فيه عارف ولا فقيه وتقال هذه الثلاثة الألقاب في الإنسان وأكمل الثناء تعالى بالعلم على من اختصه من عباده أكثر مما أثنى به على العارفين فعلمنا أن اختصاصه بمن شاركه في الصفة أعظم عنده لأنه يرى نفسه فيه فالعالم مرآة الحق ولا يكون العارف ولا الفقيه مرآة له تعالى وكل عالم عندنا لم تظهر عليه ثمرة علمه ولا حكم عليه علمه فليس بعالم وإنما هو ناقل، ثم قال: واعلم أن العارفين هم الموحدون والعلماء وإن كانوا موحدين فمن حيث هم عارفون إلا أن لهم علم النسب فهم يعلمون علم أحدية الكثرة وأحدية التمييز وليس هذا لغيرهم وبتوحيد العلماء وحد الله نفسه إذ عرف خلقه بذلك ولما أراد الله سبحانه أن يصف نفسه لنا بما وصف به العارفين من حيث هم عارفون جاء بالعلم والمراد به المعرفة حتى لا يكون لإطلاق المعرفة عليه تعالى حكم في الظاهر فقال لا تعلمونهم الله يعلمهم فالعلم هنا بمعنى المعرفة لا غير، ثم قال: وإنما قلنا في العارف أنه رباني فإن الله لما ذكر من وصفه بأنه عرف قال عنه إنه يقول في دعائه ربنا لم يقل غير ذلك من الأسماء وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه مثل ذلك من عرف نفسه عرف ربه وما قال علم ولا قال إلهه. 7) عبارة تحديد العقوبة، وبؤرة النص، جاءت فضفاضة، شديدة المرونة، كالماء يأخذ لون الإناء، ومنح القاضي سلطات كبيرة جداً، لا تتناسب مع ما لسمعة القضاء العراقي، ولو كان كذلك لكان يكفينا كما المملكة المتحدة القانون العرفي، وكفى المشرعون جهد هذا العناء، والمفروض أن يكون سقف العقوبات المقترحة والمنفصلة بحرف العطف أو متقاربة، فلا يعقل مثلاً أنْ يُقال(يعاقب القاتل بالإعدام أو السجن المؤبد أو بغرامة لا تزيد عن مليون دينار)فمحامي الدفاع والمدعي العام والمتهم وكل من لهم تأثير في سير الدعوى الجزائية، يستطيع أن يقلل من قيمة المال المستعمل، بسبب من لفظة(المستعمل/المستخدم)فيقول هو في حيازته لكنه غير مستعمل، أو هو مستعمل، لكنَّ مسألة التقدير، ستثير اختلافاً كبيراً، وكان من الأردع لثاني دولة مفسدة في العالم أن لا يذكر عبارة(أو ضعف قيمة المال المستعمل)فهناك من يختلس ملايين الدولارات، لا بل صفقة واحدة وصل الاختلاس فيها إلى مليار دولار، بين وزارة الدفاع وشركات وهمية لاستيراد بنادق آلية، تبينَّ أنَّها عراقية قد صبغت، أنَّ السيد المختلس سيرقص فرحاً بدفع مبلغ الغرامة الـ 40 مليون دينار أي أقلَّ من 30 ألف دولار، أي بنسبة 3 إلى مائة ألف من المال المختلس، والمفروض ان يقول المشرع( تصادر أمواله المنقولة وغير المنقولة) بينما النص يقول (يعاقب بغرامة لا تزيد عن 40 مليون دينار عراقي أو ضعف قيمة المال المستعمل في التعامل، أيهما أكثر أو السجن لمدة لا تزيد على أربع سنوات، أو كلاهما.) 8) إنَّ عبارة(يعاقب بغرامة لا تزيد عن 40 مليون دينار عراقي)عبارة منحت المادة مرونة مطاطية كبيرة، لإطلاقها وعدم تحديدها المبلغ فالحكم بغرامة قدرها دينار عراقي واحد، سيكون تطبيقاً للقانون، لأنَّ الدينار لا يزيد على الأربعين مليون، وكان من الواجب على المشرع أن يضيف عبارة أخرى وهي(يعاقب بغرامة لا تزيد عن 40 مليون دينار عراقي ولا تقل عن عشرين مليون دينار عراقي) وإلا فأين تكمن الفائدة؟ [1] جمال الدين بن هشام الأنصاري- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك- المكتبة العصرية-الدار النموذجية-بيروت-ج3-ص354. [2] جمال الدين بن هشام الأنصاري- أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك- المكتبة العصرية-الدار النموذجية-بيروت-ج3-ص359.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |