|
بغداديات .. هاون السم بهلول الكظماوي / امستردام يحكى انه تضاربت آراء حكيمين في بلدة واحدة الى حد التضاد , اذ كثيراً ما كان يعطي احدهما رأياً مغايراً لرأي الحكيم و الفيلسوف الآخر . فأرتأى كل واحد منهم أن يهجر الآخر المدينة لأستحالة وجود حكيمين متضادّين بالرأي في مدينة واحدة . و لمّا كان كلّ منهما مصرّاً على أن يبقى هو وحده نافياً الآخر الى خارج البلدة , فما كان منهم الاّ أن اتفقا على أن يحضّر كل واحد منهم سمّاً ليسمّم به الآخر ليتخلّص منه . و لمّا حان موعد التنفيذ احتجّ الأصغر عمراً بأنّه لا يجوز ادبياً أن يبدأ هو بتسميم الحكيم الذي هو أكبر منه سنّاً . و بالفعل استعد صغير السن لذلك الحدث , فاوصى زوجته بما ستتصرّف به اذا استلمت جسده المسمّم . و جاء اليوم المتّفق عليه و اجتمع الحكيمان و نفـّذ الكبير تجربة السم بالصغير , وبعد أن تجرّعها الأصغر سنّاً و اغمي عليه نقلوا جثمانه الى بيته فاستلمته زوجته مثل ما اوصى به . نفّذت الزوجة وصية زوجها بعناية كما ارادها منها بأن جلبت مشرطاً و وبدأت تشرّح بدن زوجها بجروج و خدوش خفيفة حتى طالت هذه الجروح كل موضع من مواضع جسده كما أوصاها , ثمّ رمت بجسده على كومة الزبالة ( القمامة ) المتجمّعة بالمزبلة التابعة لمنطقة سكناهم . اجتع الذباب و الحشرات و الزنابير على هذا الجسد ليمتصوا ما رشح منه من دماء فاسدة مزرقـّة نتيجة تشبّعها بالسم . ثمّ بعد مرور ساعة من الزمن أو يزيد سحبت الزوجة جثـّة زوجها لتضعها في الحوض الذي يتوسّط حوش الدار بعد أن ملئت هذا الحوض بالحليب فغمرت جثمان زوجها فيه بعد أن سحبته من فوق كومة الأزبال . و لم تمض سوى فترة بسيطة من الوقت الاّ و بدأت الروح تدبّ في ذلك الجسد التابع لزوجها , فبدأت عيناه تتحرّكان , وأخذ يحرّك يديه و رجليه قليلاً , ثم ازدادت الحركة رويداً رويداً , فعند ذاك سحبته كما اوصاها زوجها لتدثـّره بالـّلحاف بعد أن سقته الحساء و الدواء حسب الخلطة التي اعدّها لها زوجها الحكيم الصغير قبل أن يذهب الى استاذه و مربّيه الأكبر منه سناً ليسمّمه . و بعد أن تعافى صاحبنا , أصبح لزاماً عليه أن يقوم هو أيضاً بدوره بعملية تسميم بالمقابل لمعلّمه الحكيم الكبير . كان بيت الحكيم الصغير يقع في بداية الزقاق الذي يسكن فيه الحكيم الأكبر منه سنّاً , ولذلك كان كلما يروم كبير السن الذهاب الى بيته يتوجّب عليه أن يجتاز الطريق من امام بيت تلميذه الذي يقع في بداية ( الدربونة ) الزقاق فيسمع عند مروره صوت رنين الهاون و هو يدق به السم . و كما هو معلوم , فانّ ( الهاون ) هو الجهاز الذي يدق أو تسحق به المواد الصلبة لجعلها مسحوق ناعم مثل الطحين . و حينما يسأل صاحبنا الحكيم الكبير تلميذه الاصغر منه سناً عن سرّ سماعه رنين الهاون فيجيبه : انه يحضر له السم في هذا الهاون . و استمرت الحالة على هذا المنوال , فكلما مرّ الكبير في السن من امام دار تلميذه يسمع صوت رنين الهاون الذي يدق به السم لتسميمه , و يوماً بعد يوم و صاحبنا الحكيم الكبير لا ينفك عن السماع , وكل ذلك يكلفه تدهور وتدنّي في صحته و عافيته . و طال انتضار الكبير لتنفيذ الحكم عليه , اذ يحتاج السم الذي يحضره تلميذه الى وقت طويل ( كما يدعي ذلك التلميذ ) و يحتاج الى فترة زمنية تعدّت الاسابيع و الاشهر , وكلما يمضي الوقت و يسمع صوت الهاون يدق السم الا و ينهار الاستاذ اكثر و اكثر .... الى ا ن اتى اليوم الذي افتقده فيه الناس ( للاستاذ الكبير ) فجاءوا اخيراً الى بيته ليجدوه وقد فارق الحياة همّاً و قهراً و كمداً . و لما دخلوا على تلميذه الحكيم الصغير ليخبروه بوجوب حضور جنازة استاذه ساقهم الفضول لأن يتفقدوا محتويات الهاون , فلم يجدوا اي اثر لسم فيه , بل وجدوا كل ما فيه لم يكن سوى طحيناً عادياً لا اكثر من ذلك . و ألآن عزيزي القارئ الكريم : أحدث سقوط النظام الصدامي في العراق هزّة كبيرة لأيتامه و مرتزقته , أمّا الخطة الأمنيّة التي نعوّل نحن عليها خيراً فقد أحدثت هذه الخطة رعباً و تخوفاً من مستتتقبل اسود ينتضر الكثير من الانظمة و المافيات الارتزاقية التي كانت تعتاش على السحت الحرام الذي كان يدفعه النظام البائد في العراق . و ما هذا الاستنفار الاعلامي و التهريج عبر الفضائيات و الاذاعات و الصحافة اللالكترونية و المسموعة و المقروءة وما هذا العواء و الفحيح الا ارهاصات استتشعارية للمصير الاظلم الذي سيحل بهؤلاء المرتزقة وآكلي السحت الحرام على حساب جوع شعبنا و معاناته و آلامه تماماً كما كان يشعر به صاحبنا الفيلسوف الحكيم الكبير السن ( صاحب المثل اعلاه ) حيث لم يمهله الخوف و الرعب للعيش لحين تذوق السم الزعاف , اذ مات كمداً و رعباً قبل أن يحل وقت عقابه المعلوم . أسأل الله جلّ و على أن ينصر شعبنا على اعدائه بالرعب , وان يميت اعداء شعبنا بغيظهم و حسرتهم , وأن يمن علينا جميعاً بالنصر العاجل و يكفينا شرّ القتال .... آمين يا رب العالمين . و دمتم لأخيكم
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |