|
ماأقسى الغربة؟؟؟ سؤال لايمتلك الاجابة عنه سوى المغتربين انفسهم..ولكن لنسأل أولا من اخترع الغربة...؟! من اكتشف اولا ان في مقدور الانسان اي يعدد المحطات في حياته؟ ان الانطباع الذي لايمكن اغفاله ينهض من حقيقة أن الانتقال الأول كان نوعا من العقوبة....الهبوط من الجنة الى ارض فيها كل شيء...ذلك الانتقال كان نزع لامتيازات كبيرة وضعت الانسان على محك الاختبار ...ولكنه لم يكن ليخلو من الاختيار ...فالانسان لم يهبط مضطرا بل اختار الفعل الذي قاده بالنتيجة الى تلك النهاية...ولهذا كان تغيير عنوان البيت البشري أجباريا واختياريا في الوقت نفسه... الاجيال التي اعقبت الرعيل الانساني الاول لم تؤشر التاريخ الحقيقي لاول هجرة انسانية على كوكبنا .ولكننا قد لانبذل الكثير من عناء التأمل لندرك بأن الانسان القديم كان يغير مكانه او امكنته باسرع مما نفعل نحن اليوم بعشرات المرات.ارتحال الأنسان عن الارض التي ولد فيها ظاهرة مرافقة لوجود الانسان نفسه. رغم انه يميل بطبيعته الى التمسك بالمكان الى حد التزاوج الروحي معه فمنذ عهود باكرة تولد لدى الانسان شعور بالمكان كجزء من ضروريات الوجود...علاقة الانسان بالمكان لم تكن محكومة باللامبالاة أبدا.والعلاقة المتبادلة بينهما خرجت عن حدود الحاجة أو مفهوم الدلالة بمعنى ادبيات العنوان والهوية التي ترافقها . بل تمتد الى افاق اوسع من خلال الارتباط بالمشاعر...فالمكان يرافق الوجود بقوة واستمرارية تتفوق أحيانا على الكثير من الاشياء التي تشغل ذلك المكان او تتفاعل فيه...الوجوه...الأحداث ...العواطف....كل الاشياء والعلاقات بينها لن تكون معقولة الا بوجود مكان ما يحتويها... بل ان حياتنا قد تختلف تماما وربما تنتفي ان كنا نطوف في فضاء مجهول الابعاد. المكان يحدد في احيان كثيرة الكيفية التي نتصرف بها ...كيف نبدو ...كيف نتكلم ...بل كيف نفكر...اخلاقياتنا بجملتها قد تتغيير عندما ننتقل من هنا الى هناك...ففي القرية غير مافي المدينة..وفي المدرسة لن نكون كما في البيت ...المصنع ...الشركة.....فوق سطح الدار خلاف مانكون عليه في غرف النوم . كل الاخلاقيات قد تتشتت اذا كنا خارج المكان.. ولهذا فان من غير المعقول ان لايستنزف الانتقال من مكان الى اخر الكثير من مشاعرنا الانسانية.واقبح الاماكن على سطح الارض لاتعفينا من محنة الذكرى اذا مافارقناها..وعادة الوقوف على الاطلال لايميز بين الصحراء الجرداء اوجنائن بابل المعلقة .فهناك دوما نحيب عاطفي على مايخلفه المكان من ترسبات الذكرى. عندما يترك الانسان المكان الذي اعتاد عليه فانه يشعر بخلل في التوازن باختلاف كبير في كل شيء...بغض النظر عن كون ذلك المكان منزلا او محل عمل او حتى سيارة .. فكينونة الأنسان وقدرته على الوجود لاتتحقق الابوجود مكان يشغله ويكون واحدا من مفرداته. هل جربت مصاعب النوم عندما تكون بعيدا عن سريرك...مصاعب قيادة سيارة غير سيارتك حتى لو كانت نفس النوع والموديل؟ الاضطراب المرافق لانتقالك من مسكن الى اخر ....من عمل الى اخر...! ولكن ....هل ان ذلك الاحساس باليتم هو حكر على الانسان فقط...ام ان المكان هو الاخر يفقد حيويته واستقراره عندما نغيب عنه!!!... المكان لايتالم ولايشتكي بالطبع ولكن الاخرين بامكانهم الاحساس بذلك...بان ثمة تغيير يخلفه غياب الشخص او الاشخاص عن المكان...وربما يتغير المكان ايضا. فالمكان يكتسب تعريفه ممن يتواجدون فيه او حوله...هولا يتطور ولايتغير الا بواسطة اولئك الذين يتحركون ويتسببون في الحوادث والوقائع...او يلاحظونها اويتأثرون بها...فالمكان الذي لانعرف عنه اي شيء ....لايمكن ان نسميه مكانا ابدا. هل نتصور ياترى حجم الماساة الناشئة عن هجرة الوطن ...الاثر السلبي لغياب الانسان عن البلد ...وغياب البلد عن الانسان...ومغتربونا الذين يذرفون الدموع والحسرات على بلادهم لابد ان يعرفون بأن الوطن هو الاخر يبكيهم... هو بحاجة اليهم مثلما هم في حاجة له ...فالملايين من الاماكن لاتزال فارغة.. وفراغها يعني عدم اتزان الوطن ...عشوائية الموجودين فيه...والبرود الذي يغلف العلاقات فيما بينهم...حتى نحن الموجودين فيه بدأنا نحس بمعاناته ...بغربته القسريه...بانكفائه على الالم ....بغربة الوطن نفسه. فالعراق نكرة بلا عراقيين مثلما يكون العراقيون نكرات بدونه .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |