على هامش أحوال الثقافة العراقية!

يوسف ابو الفوز / سماوة القطب

haddad.yousif@hotmail.com

احد الاخوة الكتاب، من الذين يعرفون عمق علاقتي الطيبة بالاستاذ زهير كاظم عبود، رفع سماعة الهاتف غاضبا ليصيح بي : هل قرأت ما كتب صاحبك ؟ وكنت قرأت المقال المقصود الذي اثار احتجاج صاحب المكالمة الهاتفية، فحاولت ان امتص غضبه وان اصل معه الى نتيجة، ومنها اني سأكتب هذه هذه السطور المتواضعة. أما مقال الاستاذ القاضي زهير كاظم عبود المقصود فهو المقال المعنون " معاناة المثقف العراقي خارج الوطن"، ونشر في العديد من المواقع الاليكترونية. سطوري هذه وان كانت كتبت ارتباطا باطلاعي على المقال المذكور، فليس غرضها الرد او الدخول في سجال مع الصديق العزيز القاضي زهير كاظم عبود، ولكنها محاولة لاستكمال كلماته وافكاره، التي اجدني اتفق مع جوانب عديدة منها. واذ اجد نفسي اختلف مع الطريقة المتشنجة التي عبر بها صاحب المكالمة الهاتفية، الذي يعتقد ان مقال الاستاذ زهير كاظم عبود كتب بروح من المجاملة لبعض الاسماء من المثقفين العراقيين، فأني لا يمكن تجاوز كوني اجد نفسي اتفق مبدئيا مع بعض ملاحظاته، لأني مثله ايضا اجد ان قاضينا القدير، وهو المعروف بموضوعيته وسعيه لاحقاق الحق والعدالة، نسي مواضع وفاتته وغابت عن باله اشياء كان يفترض ان يتوقف عندها لاستكمال دفاعه عن حال المثقف العراقي خارج الوطن.

بالتأكيد انا على اتفاق كبير مع قاضينا الجليل في دعوته الى اننا وبعد زوال النظام الديكتاتوري الشوفيني البغيض، فأننا في العراق "اليوم نحن بحاجة لوقفة وجدانية نراجع بها انفسنا، واليوم نحن بأمس الحاجة لمحاسبة ضمائرنا " وايضا قوله النبيل اننا "اليوم نحن بأمس الحاجة للتسامح" وتأكيده الصحيح بان " شعبنا وليس نحن من يستطيع إن يحاسب المثقف على موقفه "، وغير ذلك من دعوات صادقة ومسؤولة ضمنها مقاله في معرض دفاعه عن حال المثقف العراقي خارج الوطن، خصوصا تلك الفئة من المثقفين، التي تجد نفسه تحت طائلة الانتقاد، وربما الاتهام، بسبب من علاقاتها السابقة بشكل ما مع مؤسسات النظام الديكتاتوري المخلوع. والقاضي زهير كاظم عبود وان استخدم في مقاله المذكور كلمة "البعض" تحسبا من اطلاق الاحكام، الا انه كان يقدم دعوات ومعالجات ليس لحالات محددة فقط، ـ و يمكن للقارئ المتابع حتى التكهن بأسماء المقصودين بها ـ بل هو يعني بكلامه حالة عامة وشاملة تخص الثقافة العراقية ارتباطا بمصير ومستقبل الوطن، الذي خلفه لنا الحكم الديكتاتوري الطويل مجرد حطام وطن. واجد نفسي هنا مطالبا بمقدمة ما قبل الدخول مباشرة في تلك الملاحظات التي بودي تسجيلها على هامش مقال صديقنا القاضي، ولا اجد هنا افضل من التذكير بحكاية شجرة البلوط التي اوردتها مرة في مقال لي نشر في جريدة المدى البغدادية والعديد من المواقع الاليكترونية، تناول حال الثقافة العراقية ما بعد انهيار لنظام الدكتاتوري الشوفيني. وحكاية شجرة البلوط بأختصار تفيد بأن شجرة البلوط الصغيرة شكت يوما الى امها، شجرة البلوط الضخمة، قائلة :

ــ الا ترين يا امي، كيف تنكل هذه الفأس الحادة بنا، نحن الشجيرات، تنكيلا، وحشيا، لا رحمة فيه ؟

فضجت شجرة البلوط باغصانها الجبارة، وقالت :

ــ يا ابنتي، هذا لان مقبض الفأس مصنوع من خشب البلوط !

بالعودة الى هذه الحكاية وغيرها، فاننا لابد من التوقف ايضا عند الرأي الحكيم القائل باننا يجب ان لا نخلط كل الثمار في سلة واحدة عند الحديث عن حال المثقف العراقي ما بعد زوال الديكتاتورية، فأذ نجد ان ارهاب نظام حزب البعث العفلقي المبكر في نهاية سبعينات القرن الماضي، ادى الى هجرة واسعة بين المثقفين العراقيين، خصوصا المحسوبين على تيار اليسار الديمقراطي، فأن ليس من المنطق والممكن ابدا النظر بمعيار واحد الى مثقفي العراق ممن بقوا وعاشوا داخل الوطن، فليس جميعهم كانوا عصي لفأس النظام الديكتاتوري الدموية التي نزلت تنكيلا بالشعب وثقافته ومستقبله بحيث وصلنا الى هذا الحال الذي فيه نحن الان من احتلال للوطن وحكومات محاصصة طائفية لا يمكنها وقف دورة العنف. ومن السذاجة جدا الشطب مرة واحدة على نشاط مثقفي العراق ممن عاصروا داخل الوطن فترة تسلط اجهزة النظام الامنية التي كانت تشترط على المثقفين طريقة الكتابة والحديث والتفكير. ان الموضوعية والعقلانية تتطلب التمييز بين من اجبر على مسايرة النظام الديكتاتوري وبين من عمل مختارا وباقتناع وصار عصا صلبة مخلصة في فأس النظام الدموية. وان الموقف من الاسماء التي خدمت في اجهزة دولة النظام الديكتاتوري، يجب ان لا يكون واحدا، فيجب تمييز وعزل اسماء من ردح ـ باقتدار صدامي ـ لحروب الديكتاتور العدوانية ومن نظّر لها ومن صفق للديكتاتور المقبور وفكره الشوفيني ونظامه الدموي وكذلك من انتسب الى حزب البعث العفلقي. واذ نطالب بالتمييز وعدم الخلط، ففي بالنا ـ ابدا ودائما ـ حجم الارهاب والتعسف الذي مارسه النظام الديكتاتوري المقبور، بحيث مسخ فيه شئ اسمه "دولة "، ومسخ فيها كلمة " موظف " وكلمة "واجب وظيفي "، بحيث صارت ابسط وظائف الدولة تحتاج الى تزكية المسؤول الحزبي البعثي واجهزة امن الدولة، وان نوعية التزكية ومن يقدمها والضرائب ـ والخدمات ! ـ المدفوعة ثمنا لها ترتفع مع نوعية واهمية الوظيفة، وهكذا فنحن ندرك مسبقا في أي وسط موبوء عاش وكان يتحرك المواطن العراقي والمثقف تحديدا. وعليه لن اختلف مع الصديق القاضي زهير كاظم عبود في حجم معاناة المثقف العراقي الذي عاش داخل العراق، في تلك السنوات التي عاشها الوطن تحت سيف الارهاب الشوفيني، قبل ان تتوفر الفرصة للكثيرين للهروب من السجن الكبير، الذي اسمه العراق، الى ساحات الحرية ويكون المرء فيها بعيدا عن سطوة اجهزة النظام الديكتاتوري، وحيث اتيح للكثير من المثقفين الالتحاق بالمئات من زملائهم ممن سبقوهم بسنوات طويلة وسجلوا رفضهم لسياسات النظام الديكتاتوري وارتضوا حياة المنفى بكل مصاعبها مجبرين حفاظا على مواقفهم الرافضة الشجاعة. ويمكن ملاحظة حجم الخوف المترسب في النفوس من اجهزة النظام الديكتاتوري لدى كثير من الاسماء من العاملين في الحقل الثقافي، التي رغم تركها العراق، خصوصا في فترة ما بعد انتفاضة اذار 1991، الا انها لم تقم بأي نشاط ثقافي وسياسي يحمل روح المعارضة او يحمل موقفا معارضا للنظام وظلت تعمل وتتحرك في ساحة رمادية غير واضحة المعالم، ولم تعلن صراحة عن معارضتها وموقفها الا بعد انهيار وزوال النظام الديكتاتوري، وذلك يأتي ـ في جانب منه ـ بسبب حجم المعاناة التي ذاقوها على ايدي اجهزة النظام البوليسية فكان الخوف رفيق غربتهم يمنعهم من القيام بأي فعل، وهذا ما عبر عنه بحق الاستاذ زهير كاظم عبود حين قال "واليوم بعد إن ازيح كاهل الدكتاتورية والطغيان عن رقاب شعبنا، واليوم بعد إن صرنا لانخاف على عيالنا ورقابنا حين ننتقد السلطة". واذكر هنا حادثة لن انساها ابدا، حين قابلت في مدينة موسكو عام 1991، وليس بعيدا عن جدران الكرملين احد المثقفين العراقيين الخارجين من السجن الكبير، وهو يحدثني بهمس رغم بعده عن العراق بالاف الكيلومترات، بل وكان حين يذكر اسم صدام حسين يخفض رأسه واكاد لا اسمع صوته. وهكذا بعد زوال النظام الديكتاتوري الدموي، صار من الصعب الى حد على المتابع احصاء اسماء الكتاب والفنانين الناشطين، الذين وبعد ان تنفسوا هواء الامان والحرية، راحوا يعملون بهمة في مجالاتهم الابداعية، وبدأت تظهر بينهم مواقف جديدة طيبة وشجاعة، وكل هذا كان عوامل عافية وخير تحسب لصالح الثقافة العراقية. الا ان ما يثير الانتباه هو استمرار "البعض " بخداع انفسهم ومحاولة خداع الناس، فبعد ان لبسوا بسرعة لبوس الرفض لسياسة وثقافة النظام الديكتاتوري، وظهروا ابطالا ومعارضين ولبسوا ثياب الضحايا، صاروا يتفنون في اضفاء طابع البطولة على انفسهم دون اي مراجعة نقدية علنية لتجاربهم وتأريخهم. وكمثال فقط اعرف شاعرا تأكد للكثيرين نشره قصائدا موقعة بتواريخ كتابة تعود الى فترة وجوده في العراق مدعيا انه كتبها هناك، ولم يكن في حقيقته سوى شرطي ثقافة بالزيتوني، ونال لقاء خدماته في كتابة التقارير الامنية ومدح النظام والتطبيل لحروبه كذا مرة تكريم ومديح اقطاب النظام الشوفيني فأحتل مواقع ادارية مهمة في "جهاز الدولة"، ويعرض نفسه كضحية للنظام ويطالب بالتعامل معه على هذا الاساس. واجدني هنا اصل الى واحدة من النقاط المهمة التي اجد انها فاتت بشكل ما قاضينا الجليل زهير كاظم عبود الا وهي ضرورة دعوة المثقفين ممن تركوا ساحة النظام وخدمته، وممن اجبروا على مسايرته، تحت اي ظرف كان، وكانوا بهذا الشكل وذاك جزءا من كومة العصي التي استقوى بها فأس النظام الديكتاتوري، الى مراجعة علنية لتجربتهم وادانة الجانب المظلم منها بشكل صادق ونزيه. ان ادانة الجانب المظلم، الذي لا يشرف احدا، سوف يسجل لصالح المثقف وليس ضده، وسوف يرفع من قيمته بين زملاءه وبين متلقيه وومتابعيه وقراءه، فهو يعبر عن حالة تطهره من ادران الماضي وسمو روحه من اجل قضية اسمى، وسينال الاحترام الاكبر بين ابناء الشعب، الذي هو وكما قال صديقنا القاضي الجهة المخولة للحكم على نزاهة ووطنية المثقف. فما الذي يمنع مثقفا من رفض وادانة تجربة لم تعد صالحة وكانت رغما عنه كما يدعي او كانت ؟ ما الذي يمنع مثقفا من ادانة سلوكه الشخصي الذي ارغم عليه بعد زوال النظام واجهزته القمعية وشبح الخوف والارهاب ؟ اما اذا بقي هذا المثقف متمسكا بحجج انه كان يخدم "الدولة "، وانه كان " موظفا " مامورا، فحتى الديكتاتور صدام حسين نفسه كان موظفا في جهاز الدولة. ان موقفا مستندا الى كبرياء لا معنى لها يدفع ابناء الشعب الى مواقف لا تسر احد، فحتى ولو بعد سنين طويلة لابد ان يتفرغ هذا الشعب المسكين يوما لتفحص اجزاء الفأس التي هدمت له حياته واثمرت مقابرا جماعية على طول وعرض الوطن. ولنا عبرة حسنة في شعوب بعد ان استقرت اوضاعها وظهرت اجيال موضوعية وغير متحزبة ومنحازة سوى للحقيقة، ولم تترك احدا لم تفحص تاريخه وتكشف ماله وما عليه. ان ابناء الشعب العراقي يدركون جيدا، ان النظام الديكتاتوري لم يستورد منفذي مجازر القبور الجماعية من المريخ، بل هم كانوا من العراقيين، من العاملين في مؤسسات النظام الامنية والحزبية البعثية، وقادة حزبين بعثيين ينفذون جرائم النظام وبشيء من " الابداع"!، وكانوا ايضا "موظفين " مقتدرين احتلوا مراكزا وظيفية رفيعة. وان كتبة التقارير الأمنية، المتطوعين والبارعين، عن نشاط أبناء شعبنا من مثقفين ومتعلمين، والذين بسبب هذه التقارير اختفت اثار العشرات منهم، وفي أهون الأحوال اضطر المئات منهم للهرب والنجاة بجلودهم إلى المنافي البعيدة، نقول لم يكن كتبة التقارير الأمنية من سكان جزر الواق واق، ولم يكن المجرم صدام حسين بنفسه يكتب ويلحن ويغني ذاك الكم الهائل من الأغاني المقيتة السمجة، التي تتغنى بالموت والعنصرية. اذكر هنا فقط كمثال ملحنا بائسا، يحاول ألان ارتداء ثياب الضحايا ويستهين بذاكرة ابناء الشعب العراقي، صرح متفاخرا مرة على صفحات مجلة " الف باء " بانه استلم كلمات أحد أغانيه التعبوية بالهاتف، وفي التاكسي الى مبنى الإذاعة قام بتلحينها، وفي الاستديو كان ينتظره جمهرة من "الفنانين " فسجل الأغنية ! ـ يا للابداع ! ـ كانت ايامها جبهة حرب النظام الديكتاتوري العدوانية والمجنونة ضد الجارة ايران في أوج سعيرها، وتأكل شباب العراق وخيراته وتدفع بوطننا الى احضان المجهول. ابناء الشعب العراقي لا يمكن ان ينسوا كل هذا، وخصوصا ذلك التفاخر المقرف من قبل هذا الملحن " المبدع "، حتى وان راح هذا "الفنان" اياه يحاول الان ان يصنع ألحانا بائسة عن "الديمقراطية". ما ينتظره الشعب العراقي من هذا الصنف من "المثقفين" هو مراجعة النفس والاعتذار العلني الصادق وبالعمل الجاد، مع كشف الحساب علانية وبثقة بالنفس، والتبرء العلني من كم التفاهات التي ساهموا في انتاجها، تحت مسميات الفن والأدب.

 ان ابناء الشعب العراقي، ومن مثقفيه الحقيقيين، واذ لا يمكن لهم خلط الثمار في السلة، فهم يعرفون جيدا الأساليب المتنوعة التي كان النظام المقبور يتبعها لانتزاع قصيدة من شاعر، حاول الصمت وعدم الاشتراك في وليمة مثقفي النظام الديكتاتوري، ولكن أبناء شعبنا أيضا لا يمكن ان ينسوا شاعرا كتب في يوم واحد خمسة قصائد مرة واحدة، ودون ان يطلب منه أحد ذلك، أو يجبره على ذلك، وراح يدور على المجلات والصحف يتوسل هذا وذاك من اجل نشرها وهو يردد : " لعل السيد القائد يحفظه الله يقرأ واحدة منها " !، هذا "الشاعر " وان ارتدى الان قميص الضحية، وكتب قصائد تدين "الديكتاتورية"، لكنه مطالب من ابناء شعبه بالاعتذار عن كم القصائد الرديئة التي كان يكتبها طوعا. لا اعتقد ان اعادة بناء الثقافة العراقية ـ وبالتالي بناء الوطن ـ بحاجة لفذلكات لغوية يحاول بها فلان او علان ان يقنعنا بكونه كان ضحية النظام المقبور، وهو الى الامس القريب ان لم يكن مشاركا، وبشكل ما، في مجزرة الثقافة العراقية التي يرتكبها النظام ومؤسساته الثقافية القمعية، فهو كان يتفرج برضا تام على ما يتعرض له الاف المثقفين العراقيين من ابعاد وتهجير ونفي وسجن وقتل بدون وجه حق، ولم يقل ولو كلمة ولم يسع لفعل شئ ولو بسيط ! ان ما تحتاجه الثقافة العراقية الان هو قليل من الشجاعة لنقد الذات وتطهير الروح والاحتكام مرة واحدة الى ما يسمى الضمير. فمن اجل حياة نزيهة جديدة، والتزاما بالدعوة الصادقة الى الاحتكام للضمائر، لابد لمن اساء للثقافة العراقية من القيام بمراجعة نقدية صارمة لتأريخه الشخصي ونشاطه الثقافي، وتقديم حساب الذمة امام الشعب، والاعتذار عن ما اجبر عليه وساهم به بهذا الشكل او ذاك، وليوضح للشعب حجم واسباب اندفاعه في خدمة النظام الذي خلف لنا ما خلف. ان روح المكاشفة، وسيادة ثقافة الاعتذار، كفيلة بسد الابواب امام من يواصل تقديم الانتقادات والتشكيك بجدية وابداع مثقفين اضطروا لاسباب معينة لمسايرة ماكنة النظام، سواء غنوا او كتبوا او ردحوا، امام الاصرار على انهم لم يرتكبوا خطأ ما، وانهم كانوا ابطالا وضحايا بطريقتهم، فأن هذا لن يغير شيئا وسيتيح الفرصة لمن هب ودب للتعكز على واقع معاش وبالتالي يختلط الحابل بالنابل.

 لن ينفع اعادة بناء الثقافة العراقية التمسك عند البعض بروح المكابرة الفارغة، والتمنطق بالروح الوطنية، وتجاهل ان من العوامل التي ساهمت بطول عمر النظام الديكتاتوري الدموي المقبور، هو "الفيلق الثامن" ـ حسب وصف قيادة النظام المقبور ـ لجيش الاعلاميين والفنانين والكتاب الذين خدموا كموظفين في مؤسسات النظام، والذين الان جمهرة منهم انضمت الى من سبقهم في رفض ثقافة النظام الديكتاتوري. ان المطلوب الان ليس الاحتراب ووضع الفواصل والحواجز بقدر ما العمل الجاد لاعادة بناء صرح الثقافة العراقية، وهذا لن يتم وهناك التباسات وغموض وتشكيك في تاريخ فلان وعلان من المثقفين، وهذا بأعتقادي واحد من اسباب فشل الجهود العديدة لتاسيس اطار نقابي للمثقفين العراقيين خارج الوطن، فبعض الاسماء التي تصدت لهذا المشروع النبيل، لا تشجع كثير من المثقفين للالتفاف حول دعواتها بسبب من الغموض الذي يلف تاريخ بعض هذه الاسماء، والتي لا يحضى تاريخها وموقفها من النظام الديكتاتوري بتزكية عامة من الوسط الثقافي العراقي. لم يكن المطلوب من كل مثقف ان يحمل السلاح ويلجأ الى الجبل او الاهوار ويقاوم النظام الديكتاتوري، ولا ان يتظاهر مكشوف الصدر في ساحة التحرير ليثبت لابناء الشعب معارضته لنظام الديكتاتور صدام حسين، ولكن ان يحافظ على كرامته الانسانية في عدم التحول الى مطبل ومصفق برضا كامل للقتلة والجلادين. لن نختلف بأن ليس كل الناس على قدرة متساوية في قدرة المقاومة لعسف الديكتاتورية. لكن ثمة مثقفين عراقيين لم يغادروا العراق واستشهدوا دفاعا عن موقفهم الرافض والمعارض، واخرين هجروا المدن واماكن سكنهم الاولى، وتوقفوا عن ممارسة اي نشاط ابداعي من اجل كرامتهم الانسانية، وهناك قائمة طويلة من هذه الاسماء النبيلة، ولم يتركهم النظام الديكتاتوري بفعل الوشايات من زملائهم فلاحقتهم اجهزة النظام وزجت ببعضهم في السجون لسنوات طويلة، لكنهم صمدوا ولم يتنازلوا عن موقفهم، وكان بعضهم يمكنه ان يكتب قصيدة واحدة يمدح بها الديكتاتور ليخرج من السجن، او يلوي عنق احد قصائده امام الديكتاتور ليحصل على مكرمته وثناءه، لكنهم رفضوا وبأباء فعل ذلك وحرصوا على نقاء الموقف الانساني والثقافي. هل المطلوب هنا تذكير البعض بان يحترموا انفسهم ويسكتوا ويتركوا الثقافة العراقية لاهلها والكف عن محاولة خلق تاريخا نضاليا لم يكن يوما لهم ؟ الانسان موقف. والمثقف انسان وقضية، ومهمته هنا اصعب واكبر. شتاء 2005 زرت مدينتي السماوة بعد غياب 27 عاما، والتقيت بفنانين وشعراء لم يلتحقوا بيوما بعراضة النظام الديكتاتوري الثقافية، ورأيت بنفسي دفاترهم وتخطيطاتهم التي كانوا يخبؤنها طويلا عن عيون رجال السلطة وعن المخبرين من اشباه المثقفين والمثقفين. قابلت شعراء تركوا كتابة الشعر وزاولوا مهنا لا علاقة لها باللغة لا من قريب ولا من بعيد. التقيت رسامين نسوا رائحة اللون. التقيت عالم كيمياء له في موطن دراسته، في جامعته الالمانية، اربعة براءات اختراع، لكنه وحتى لا يساق الى جهاز التصنيع العسكري ادعى البله ليظل مجرد استاذ جامعي يقدم محاضرات رتيبة. لم يحاول احد من الذين قابلتهم ان يروي لي بطولات خارقة، كانوا يقدمون انفسهم بكل تواضع ويتحدثون بكل مسؤولية عن المستقبل، على عكس من يحاول ان يزوق لنفسه تاريخا محاولا تزوير الوقائع معتقدا انه يستغفل الاخرين. فهل تنجح عصي فأس النظام الديكتاتوري من صبغ انفسها بألوان الضحايا ؟ لا اعتقد ان الضحية تحتاج الى علامات كثيرة لتميزها عن الجلاد، مثلما لا تحتاج الشاة المذبوحة لجهد كبير لتميزها عن القصاب. ان الدعوة للمصالحة والتسامح يجب ان تبدأ بالمكاشفة والاعتراف الصريح، وبدون فذلكات ولف ودوران، والاعتذار الصادق العلني من الشعب العراقي، والتكفير عن الذنب بالعمل الصادق النزيه، او على الاقل رحمة الناس بالصمت الكريم والكف عن محاولة تسلق تلة الاوضاع بحثا عن موقع جديد للتسلط منه على رقاب الناس!

العودة الى الصفحة الرئيسية

 

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com