بعد الخطر الإرهابي، والأصولي، والصهيوني، والنووي، يبدو أن العرب باتوا يعيشون هاجساً، وقلقاً من نوع خاص، وهو الخطر الديمقراطي. فعملية التغيير الديمقراطي العتيدة، وفي أكثر من بلد عربي لم تجلب سوى الصراعات والنزاعات وبوادر الصدام والحروب الأهلية. الديمقراطية مفهوم مستحدث، ومستجلب على الواقع العربي والإسلامي، وليس لهم فيه أية تجربة وباع، وليس في التاريخ العربي والإسلامي، القديم منه والحديث، ما يشير إلى وجود موروث وممارسة ديمقراطية. وإن أية عملية ديمقراطية جدية وحقيقية ستأتي بقوى لا تؤمن بالديمقراطية أصلاً، وليس في برامجها وخطابها، ما يدعو إلى الاعتقاد بأنها ستكرس التقاليد الديمقراطية في أي بلد تتمكن منه. وستفرز أية عملية ديمقراطية تلك القوى التي ستمارس قمعاً، واستئصالاً، وتهميشاً لا يمكن تصور مداه، وهو بعض من خطابها "الخجول"، وهي تنتظر، الآن، في صفوف المعارضة، وعلى مقاعد "الاحتياط".
حصل هذا في فلسطين حماس، وعراق آيات الله، ومصر الإخوان، وجزائر الخلاص، والحبل على الجرار حيث اكتسحت القوى السلفية والأصولية مقاعد البرلمانات، بما يشبه عملية الاجتياح الحقيقي مما سيعني، بالمآل، ديكتاتورية دينية مطلقة لا تعترف البتة بشرائع الأرض وتكفر كل ما حولها من أطياف. ديكتاتوريات قرووسطية مغلقة أين منها الديكتاتوريات العسكرية، والأبوية الهيراركية الجاثمة على كواهل العباد منذ فجر الاستقلال. وهل يكون هذا الاستخلاص بشكله الاستفهامي التالي عند ذاك منطقياً وعقلانياً: أليس من سخريات القدر الديمقراطية، ولعناته بآن، أن تصل هذه القوى المتشددة، غير الديمقراطية، إلى الحكم بوسائل ديمقراطية ناجزة في الوقت الذي لا تأبه به بالديمقراطية، ولا تعترف بأية سلطة أخرى على الأرض إلا سلطتها، والسيف خيارها المعلن في خلافها مع الآخر، وتدعي العصمة والتفرد والتميز والمنجاة، وليس في تاريخها وتقاليدها، البتة، ما يشير إلى أي إيمان بأي فعل ديمقراطي؟ ومن المرارات القاتلة أيضاً، أن تراهم يتحدون الجميع، ويتوعدونهم باللجوء إلى صناديق الانتخاب.
هذا، وقد دخلت كثير من القوى الدولية، والفرقاء المحليين، التي تؤمن بالديمقراطية في "حيص بيص"، وباتت تنظر بعين الريبة والتوجس للعملية الانتخابية الديمقراطية برمتها، وتهابها وتتخوف منها فعلاً، ووجدت نفسها في ورطة ومتاهة، لا تجد منها مخرجاً. ومن هنا أتى الحصار لحكومة حماس المنتخبة "ديمقراطياً"، في الوقت الذي يقوم فيه المشروع الأمريكي للشرق الأوسط على التبشير بالديمقراطية كحل لنشل هذه المجتمعات من أتون الفقر، والأمية، والجهل، والاستبداد. صعود حكومة حماس الديمقراطية كاد أن يكون سبباً، ولأول مرة في التاريخ الفلسطيني، بحرب أهلية طاحنة، لا تبقي ولا تذر، ورأينا بعضاً من "بروفاتها" وفصولها "التدريبية" على الهواء مباشرة، وتسببت بفقر ومجاعة حقيقية للشعب الفلسطيني، الذي لم يكد يتخلص من نير الاحتلال. وليس ثمة من داع، البتة، هنا، للتذكير بانتفاء أية فروق مذهبية وعقائدية بين طرفي الصراع في غزة- ستان، على عكس ما هو واقع الحال، وما هو حاصل في حمام الدم العراقي حيث يشتد الاحتدام طرداً مع تعمق وكثرة الاختلافات. أو كما قد يحصل، ولا سمح الله، في بؤر طائفية أخرى، تعج بالألوان والأشكال الطائفية، والعرقية، والمذهبية التي يصعب على المتتبع العادي أن يلحظها، ويقتفي أثرها الواحدة بعد الأخرى. وكل من تلك الفصائل، والمذاهب، والمشارب تحمل تاريخاً، وإرثاً ثقيلاُ من العداء وحملات التكفير والاتهامات المتبادلة فيما بينها، وإن أي عملية ديمقراطية ستعني هيمنة لفريق، لا يؤمن، كما أترابه الآخرين، بأي نوع من الحوار، والتعايش، وحسن النية، والإيمان الديمقراطي الحقيقي.
إذن هناك ثمة إشكالية واضحة، ومأزق، في أية عملية ديمقراطية حالية، في ظل معطيات الواقع، وطبيعة القوى الحقيقية التي تسيطر على الشارع. فإذا ترك حبل الديمقراطية على غاربه، فهذا يعني ولا شك تبوأ القوى "المرعبة"، إياها، مركز الريادة والقرار، وستستبدل عندها، فقط، الخوذ والهروات الماريشالية، والبساطير العسكرية، بالجلاليب واللحى والعمامات. وإذا ما تم الاستمرار بالتعامل مع الواقع بهذا النوع المقزز من الاستهتار، والقمع واللامبالاة، فإن ذلك سيعمق أيضاً، من نفوذ وتغلغل هذه القوى، ويعزز من مواقعها "الانتخابية" (تصورا!!!)، نتيجة استغلالها الخطابي والدعوي لمجمل المتناقضات عبر فتح المنابر والفضائيات لها، وفي ظل التغييب الممنهج، والمتعمد، والمنظـّم للتيارات العلمانية، والتنويرية، والليبرالية، وإقصائها نهائياً عن ساحة العمل السياسي.
فهل أتى زمن بتنا نلعن فيه الديمقراطية، كما الاستبداد، ونشير فيه إلى خطر ديمقراطي حقيقي كما هو الحال بالنسبة لخطر الاستبداد والطغيان على الشعوب والجماعات والأفراد؟ وهل أن نتاج أي عملية انتخابية هو مشروع حرب أهلية؟وهل إن أية عملية تغيير ديمقراطية حقيقية على الساحة، ستفضي حتماً إلى ديكتاتوريات سوداوية قمعوية أشد سوءا وانغلاقاً من الديكتاتوريات العسكرية والهيراركية "المشرّشة"، الموجودة حالياً على الأرض، وأن لا سبيل، البتة، لتفادي هذا الارتطام، وأن هذا الثوب "الديمقراطي" الفضفاض ليس ثوبهم ولا يليق بهم، ولا يمكن لهم، لتواضع تجاربهم الديمقراطية، أن يألفوا إليه ويتعودوا عليه؟ وما العمل الآن حيال كل ذاك التاريخي النضالي من أجل فردوس ديمقراطي موعود، والدعوة والحماس، وتلك الأكوام من "التنظيرات" حول الديمقراطية، وضروراتها؟ هل يلقى به جانباً، أم يهجع الجميع بانتظار معجزات سياسية تنقذ العرب من شتى الأخطار المحيقة بهم ولا يجدون لها حلولاً، بما فيها الخطر الديمقراطي، الذي ظهر أنه آخر ما يهدد هذه المجموعات البشرية الهائمة، بالحروب، والزوال، والأفول، والانقراض؟