لو كان المفكر العظيم كارل ماركس حياً، وبين ظهرانينا، لربما راجع معظم ما كتبه، وشكك في معظم ما قاله برغم أنه لم ينطق عن هوى في الكثير مما قاله وما شخّصه. فبكل بساطة إن القوانين العلمية، والطبيعية، والفيزيائية لا يمكن أن يؤخذ بها في الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية، التي لم تمش بالسيرورة التاريخية والاجتماعية المعهودة، ولا تنطبق عليها معظم نظريات التطور الاجتماعي والتاريخي التي ارتكز عليها ماركس في دراسة حركة التاريخ والمجتمعات. فقد انتقلت مباشرة من مرحلة البداوة والرعوية والعشيرة والقبيلة إلى الألفية الثالثة
دون أن تمر بالمراحل التي مرت بها بلدان أخرى كالمشاعية والزراعية والصناعية وصولاً إلى "الألترا" إمبريالية الغربية حالياً. ولا يمكن تصنيف معظم الشرائح الطبقية ماركسياً حيث تختفي وتضيع المعالم الطبقية الحقيقية لمعظم الطبقات، لكنها جميعها تعلن عن نفسها بوضوح مذهبياً وعرقياً وقبلياً وعشائرياً. ًومن هنا تتبدى هذه الخلخلة الاجتماعية المذهلة والتضعضع الذي نعايشه. فهل أصبحنا، بفعل تشنج، وجمود، وتبلد فكري وعقلي، خارج كل تلك السياقات والنواميس المعروفة التي حكمت تطور وارتقاء بني الإنسان؟
هذه المجتمعات لا تتعاطى بالعلم، ولا تأخذ به، ولا تعترف بقوانينه، وتترك أقدارها للغيب و"اليانصيب"، والمجهول وتنهي حتى محاضراتها العلمية البحتة بعبارة، والله أعلم كناية عن عدم الثقة بقدرة الذات وبأهمية ومكانة العلم اليقيني على حد سواء. ولم يحدث فيها لا ثورات زراعية ولا صناعية بل ثورات استهلاكية وطفيلية وطفرات بترولية مكنتها من قدرة شرائية عالية وليس بناء اقتصاديات منتجة متينة. وأكثر ما يسترعي الانتباه في هذا المجتمعات انتفاء كل عوامل الصراع الطبقي التي تحدث عنها ماركس واعتبرها محركاً للتاريخ، وسبباً من أسباب التغيير، برغم عمق التفاوتات والتناقضات التي تعيشها هذه المجتمعات وركونها إلى نظريات وعقائد دينية لا تأبه للاختلاف الطبقي ولا تعطيه حقه من الاهتمام، بل توصي بطاعة الرأسماليين واللصوص الكبار وولاة الأمر والمتماثلين عقائدياً حتى ولو كانوا من أجشع التجار والإمبرياليين ومصاصي الدماء، ولا يوجد في كتب الفقه وخطاب الوعاظ ما يشير إلى أي نوع من الصراع الطبقي على الإطلاق، أو مجرد الإشارة لفقراء وأغنياء بشقه الطبقي وأن كل ما يحصل مقرر وموجود ومحفوظ في السماء ولا علاقة لجشع الأفراد ونهمهم به على الإطلاق وهذا ما يخفف، بدوره، من كمية الشحن الطبقي المطلوبة لدى الغالبية من الفقراء التي تصدق إلى حد اليقين بكل ما يقال لها.
انقسمت المجتمعات، فعلياً، إلى طبقات عرقية ودينية ومذهبية وقبلية متنافرة لا يجمع بينها مشترك طبقي، ويضم كل منها كل الخلائط المعروفة من البروليتارية، والرأسمالية، والكومبرادورية الطفيلية واللصوصية النهبوية. وتتآلف الواحدة منها وتجتمع وتتفق حول يقين ديني كاف لوحده لإلغاء كل عوامل الصدام بين هذه الخلائط طالما أن العامل الديني والمذهبي والعرقي والقبلي العشائري يغلب على أي عامل آخر. ويكفي ذاك الرأسمالي المافيوزي الطفيلي ومصاص الدماء الذي لا يشبع اليوم، أن يردد خطاباً غيبياً وشوفينياً مذهبياً معيناً، لتلتف حوله الجموع والقطعان والأتباع، متناسين كل الفوارق والتمايزات الطبقية الحادة فيما بينهم.
اختفت الطبقات، بمفهومها الماركسي العام، التي كانت تميز المجتمعات وتعطي هويتها للناس، وبرزت طبقات هلامية ذات توجهات ميتافيزيقية على الغالب تتوحد فيما بينها على هذا الأساس، واختفى معها الصراع الطبقي الذي يعتبر سبباًِ للتغيير ودفع المجتمعات إلى حالات جديدة ومتجددة لا تلبث أن تتحول هي الأخرى إلى واقع جديد بفعل تلك الجدليات. فالانتماء للطبقات الجديدة الصاعدة لم يعد يحدده رأسمال أو لا رأسمال، بل الدين والمذهب والطائفة والقبيلة والعشيرة التي يتحصن وراءها الدهماء، وتم التخلي عن الهوية الطبقية لصالح الهوية المذهبية والعرقية. ولعب الفقهاء، ووعاظ السلاطين دوراً كبيراً في تبلور هذا الواقع الجديد والغريب وتكريسه اجتماعياً، وسياسياً عبر الإيحاء المسوق بهالة من القداسات بأن العداوات والتناقضات وسوء الأحوال سببها الآخر المختلف دينياً ومذهبياً وعشائرياً وقبلياً، وحالما يتم التخلص من هذا الآخر ستـُحل كل المشاكل والتناقضات. والآخر المختلف هو هدف أية عملية تغيير أو حراك، دون النظر لموقعه الطبقي الفعلي، سواءً أكان بروليتارياً رثاً كبائعي بسطات الخضار، وسائقي التاكسيات الذين يحصدهم الموت كل يوم في العراق مثلاً، أو رأسمالياً امبريالياً متغولاً كجورج بوش وديك تشيني ومن معهم من كومبرادور وتروستات. ولا يهم البتة هنا من يحتكر، ومن يسلب، ومن يجوِّع، أو يـُفقـِر، بل من يختلف مذهبياً، وفكرياً وقبلياً. ويكفي أن تشير لمذهب وانتماء هذا الشخص، أو ذاك، ليتم التخندق والتموقف منه، بغض النظر عن أية دلالات طبقية أخرى، حتى لو كان يجمعه الكثير من المشتركات الطبقية مع "أعدائه" المذهبيين المفترضين.
غابت الطبقة الوسطى كلياً، كما أن البرجوازية الوطنية لم تعد موجودة، بل صارت تحت رحمة القوى المافيوية والسلطوية ذات العوائد الريعية والنهبوية الأسطورية والخرافية والتي تتحكم بعجلة الاقتصاد والمجتمع، ولم تعد(البرجوازية) بقادرة على المشاركة أو المساهمة بفعالية في الاقتصاد الوطني إلا بما يـُترك لها من فتات مشاريع واستثمارات يتم من خلالها ضمان ولائها وصمتها. وهي على العموم، أضحت برجوازية طفيلية متعيشة على السمسرات وغير منتجة أو قادرة على التحكم بدورة الاقتصاد وتغذيته.
إن حجم الفقر الهائل والتهافت والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية الحادة، وحسب النظرية الماركسية، ستعني حتما انفجارات اجتماعية واقتصادية وتحولات كبرى، إلا أن شيئاً من هذا القبيل لا يحدث، بل هناك ميل طاغ للهجوع والاستكانة، وتفسير كل ما يحدث، وتشخيصه بناء على نظريات غيبية لا تمت للواقع بصلة، وتحدث أثرها المطلوب في إسكات العامة من الناس، وأن الحياة الأخرى التي ينعدم فيها الآخر المختلف مذهبياً، وعقائدياً، وقبلياً وعشائرياً كفيلة بأن تهب الإنسان كل ما يطلبه، ويحتاجه وتحقق له كل طموحاته وأحلامه دون تعب، أو جهد، وصراع، وعناء. أي، وببساطة، إن غياب الآخر المختلف هو الحل. والخلاص يتجلى بوجود حالة ليس ثمة فوارق فكرية وعقائدية، وليس طبقية، فيما بينها .
إننا نشهد عملية انهيار، وغياب طبقي حقيقي، اختفت فيها كل تلك الطبقات التقليدية التي اعتدنا أن نقرأ ونسمع عنها في الأدبيات الماركسية الكلاسيكية المعروفة، وصار الصراع برمته دينياً، وعرقياً، ومذهبياً، وقبلياً وعشائرياً، بما ينبئ باتجاه آخر مختلف كلياً لحركة المجتمع والتاريخ عما هو متعارف عليه في القوانين العلمية نحو حالات أفضل من السمو والتطور والارتقاء. ولا أحد، في الحقيقة، يمكنه أن يتكهن بمآل، ومصير، ونهاية هذا الاتجاه الذي يكتنفه قدر كبير من الغموض، والمجهول، والالتباس.