|
وقفة صمت أمام المتنبي سناء صالح / هولندا كان من أولوياتي حينما كنت أحلم بالعودة الى العراق أن اجدد عهدي مع هذا الشارع الذي طالما ترددنا عليه في منتصف الستينات أيام كنا طلبة في الجامعة،أي كتاب كنا نريده كان موجودا،كانت الواجهات الأنيقة للمكتبات وطريقة عرض الكتب تستهوينا وتغرينا فندخل وقلما كنا نخرج دون أن نشتري كتابا من مكتبات عريقة، تزخر بمختلف أنواع الكتب وتعطي صورة واضحة للثقافة العراقية والعربية كانت مؤلفات أساتذتنا تلفت انتباهنا وتضاعف من أعجابنا فنشير بسباباتنا اليها وباعتزاز نقول لصاحب المكتبة هذا مؤلف بفتح اللام أستاذنا وكأننا أكتسبنا فضلا أضافيا لمعرفتي وتدفعنا الى التصفح، أساتذتنا الذين ملؤوا المكتبات بأبداعاتهم ولم يبخلوا علينا بعلمهم وترسيخهم القيم الأنسانية في نفوسنا مصطفى جواد, جواد علي، عاتكة الخزرجي،ابراهيم السامرائي،عناد غزوان، عبد الهادي الحمداني، محمود غناوي،بهيجة الحسني، جواد علوش,نازك الملائكة،عبد الله الفياض وكثيرون غيرهم ممن أتحفوا المكتبات بتراثهم الثر. حينما زرت سوريا ومصر كان من اهتماماتي أن أزور المكتبات لأن بعض الأصدقاء يحبذون الكتب كهدية للقضاء على الوقت الفائض اللعين في بلاد الغربة قبل أن يدخل الأنترنت حياتنا بهذه السعة وليتواصلوا مع الوطن ومع ماوصل اليه الفكر العربي من تطور وكان شارع المتنبي راسخا في ذهني أبدا لأقارن،لم أجد في أسواق كتبها ومعارضها ماكنّا نجده في هذا الشارع العريق المنفتح على التراث الأنساني دون تحيز, كتب لي أن أقصد شارع المتنبي في زيارتي الأولى بعد سقوط الطاغية وهالني وأفجعني ما وصل اليه من بنيان مهدم وأهمال مع سبق الأصرار فمن كان يحكم فرض قوانينه ومنح اهتمامه للموت وتجارته ولم يكن للثقافة موطيء قدم فيه فطالت قائمة الممنوعات لكل ومضة أنسانية،وتصدرت ترهات القائد وهذياناته صدور المكتبات،سرت في هذا الشارع وبحثت ووجدت كل ما أريده رغم أن رائحة القدم ولونه كانت تميزه،لقد استطعت أن أستنتج الوضع الثقافي في مرحلة ما بعد السقوط والفوضى والتشوش التي تسودانه من خلال كراريس ومجلات ومؤلفات مصفوقة على مفارش كارتونية أو بلاستيكية على أرض متربة كتب متنوعة في منشئها وقيمتها, الكتب التي تعلم الجنس ورسائل الغرام وكيف نكسب الأصدقاء،الى جانب كتب كعذاب القبر ومنكر ونكير وكيف تدخل الجنة وفتاوى لرجال دين مغمورين، على نفس الرصيف والبسطية تجد أولاد حارتنا لنجيب محفوظ وكتاب رأس المال لكارل ماركس،يومها لم أخف من تلك الفوضى بل قلت سيأتي يوم ليصح الصحيح،المهم أننا تخلصنا والى غير رجعة من الدكتاتورية وسوف لانسمح بتكرارها ومن الفكر المهيمن الواحد، هز المكان انفجار وأنا أتفقد شارعي وذكرياتي فيه ولم يكن انفجارا كبيرا لكنه ترك وخزة في داخلي من أن هذا الموقع مستهدف من قوى الظلام التي لايمكنها ان تعيش سوى بظلمة الجهل والتخلف وما هذا الشارع مع تهرئه وتكدس الأزبال فيه انما هو منارة لهداية جيل كتب عليه أن لايرى نور العلم ولكنه سوف يكتشفه مادام هناك مثقفون مستعدون رغم التهديدات أن يملؤوا خزائن وواجهات المكتبات بنور أفكارهم الأنسانية. لذا حين أبكي شارعنا انما أبكي التراث الذي يريدون تضييعه ودثره,أبكي الكنز الذي تركه لنا علماؤنا وأدباؤنا الأجلاّء فأحرقوه بجهلهم،فماذا سنترك لأجيالنا القادمة،أنترك لهم الضغينة والكره. حينما أبكي هذا المكان أنما أبكيه لوفائه وحرصه على كرامة كتّابه يوم ضاقت بهم السبل وساومهم الطاغية فأمّنوا رزق عوائلهم بافتراشهم أرضه يبيعون ماأنتجوه وما تزهو به مكتباتهم الشخصية من نفائس التراث العراقي والعربي والأنساني رافضين ذهب الجلاد المغمس بالنفاق والعار فانصرفوا عنه وانصرف هو الى توزيع الخيرات على المتطفلين والمتكسبين بالفكر, حينما أبكي شارع المتنبي انما ابكي خطواتنا وأصداء ضحكاتنا وأنفاسناالتي ترددت في جنباته لقد أحرق الجناة جزءا من ذكريات أعتز بها، الرحمة لشهداء شارع المتنبي شارع الثقافة العراقية والخزي للمجرمين قتلة الفكر.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |